كوميونة باريس وفكرة الدولة

بقلم: ميخائيل باكونين

ترجمة: احمد زكي

هذا العمل مثل كل اعمالي التي نشرتها، وهي ليست بالكم الكبير، عمل اكتبه بسبب احداث وقعت. انه استمرار طبيعي لعملي الاخير، “رسائل الى رجل فرنسي” (سبتمبر ١٩٧٠)، الذي امتلكت فيه وضوحا بسيطا ولكنه مؤلم حين استشرفت وتنبأت بالمصائب الخبيثة التي تضرب فرنسا الان وكل العالم المتحضر، والتي لن يكون لها علاج سوى الثورة الاجتماعية.
هدفي الان هو البرهان على ضرورة مثل هذه الثورة. سوف اقوم بمراجعة التطورات التاريخية للمجتمع ومراجعة ما يحدث الان في اوروبا، مراجعة ما يقع امام انظارنا مباشرة. وبذلك كل هؤلاء المتعطشين باخلاص للحقيقة يمكنهم ان يقبلوا بهذه التطورات ويجمعون على النداء علنا بالمبادئ الفلسفية والاهداف العملية التي تشكل جوهر ما نسميه الثورة الاجتماعية.
انا اعرف ان المهمة التي عينتها بنفسي وفرضتها على نفسي ليست بالمهمة البسيطة. ربما يصفونني بالتهور في حالة اذا ما كانت لي اي دوافع شخصية في الاضطلاع بهذه المهمة. دعني اؤكد لقارئي، انني لا امتلك اي دوافع خفية. لست دارسا ولا فيلسوفا، ولا حتى كاتب محترف. أنا لم اقم بكتابة الكثير خلال حياتي ولم اكتب ابدا سوى دفاعا عن النفس، وفقط عندما تجبرني قناعات شديدة على الكتابة حتى اتغلب على كراهية فطرية داخلي ضد اي نوازع استعراضية.
حسنا، اذا، من انا، وما الذي يدفعني لنشر هذا العمل في هذا الوقت؟ انا باحث يمتلئ حماسا من اجل الحقيقة، وانا عدو مرير للاساطير الشريرة التي يستخدمها النظام القائم – نظام يربح من كل الزيف المفضوح الاجتماعي والاقتصادي والتشريعي والسياسي والميتافيزيقي والديني لكل الازمان – لترويع واستعباد العالم. انا عاشق متعصب للحرية. انا اعتبر ان الحرية هي البيئة الوحيدة التي يمكن ان تحيا فيها الالمعية والكرامة والسعادة البشرية وان تتطور فيها. انا لا اعني الحرية الشكلية التي تصرفها لنا الدولة بقدر وتقيدها باللوائح والقوانين؛ هذه الحرية هي كذبة مستمرة من سنة لسنة ولا تمثل شيئا سوى امتياز للقلة، امتياز يقوم على اساس عبودية البقية الباقية من الناس. ولا انا اعني بها الحرية المخادعة، المتخلفة النرجسية الفردية التي تدعو لها مدرسة جان جاك روسو وكل مدرسة اخرى من مدارس الليبرالية البرجوازية، والتي تعتبر حقوق الجميع، ممثلة في الدولة، حدودا لحقوق كل منا؛ فهي دائما، وبالضرورة تنتهي الى ان تختزل حقوق الافراد الى صفر. لا، انا اعني الحرية الوحيدة الجديرة بالاسم، الحرية التي تملي ضرورة التنمية الكاملة لكل الطاقات المادية والفكرية والاخلاقية الكامنة في كل واحد منا؛ الحرية التي لا تعرف اي قيود اخرى سوى تلك القيود التي صنعتها قوانين طبيعتنا الخاصة. وبالنتيجة، اذا ما تكلمنا بشكل سليم، لا توجد قيود، حيث ان تلك القوانين لا يفرضها علينا اي مشرع من خارجنا، او مشرع من بيننا، او مشرع من فوقنا. تلك القوانين هي قوانين ذاتية، موروثة فينا؛ فهي تؤسس القاعدة نفسها التي يقوم عليها بناء وجودنا ذاته. بدلا من السعي لاخفاء هذه القوانين، يجب ان نرى فيها الشرط الحقيقي والسبب الفعال لحريتنا – تلك هي حرية كل رجل لا يرى في حرية كل رجل اخر حدودا لحريته، ولكنه يراها بوصفها تأكيدا وامتدادا شاسعا لحريته؛ الحرية من خلال التضامن، الحرية في المساواة. اعني الحرية المنتصرة على القوة الوحشية، وما كان دائما تجسيدا لمثل هذه القوة، مبدأ السلطة. اعني الحرية التي سوف تحطم كل المعبودات في السماء وكل المعبودات على الارض فتحيلهم حطاما وركاما متناثرا ومن ثم تبني عالما جديدا للبشرية في التضامن، على انقاض كل الكنائس وكل الدول.

انا محامي شديد الاقتناع يدافع عن المساواة الاقتصادية والاجتماعية لانني اعرف انه، دون تلك المساواة، رفاهية الافراد واخلاقياتهم، وكرامتهم الانسانية، والعدالة والحرية، اضافة الى ازدهار الامم، لن تصل ابدا الى اكثر من كومة من الاكاذيب. ولكن حيث اني اقف من اجل الحرية كشرط اولي للبشرية، انا مؤمن ان المساواة يجب ان تؤسس في العالم بواسطة التنظيم التلقائي للعمال والملكية الجماعية للاصول عن طريق جمعيات المنتجين المنظمة بشكل حر وعن طريق فدراليات الكوميونات التلقائية بشكل متساو، لتحل مكان الدولة الابوية ذات السطوة الاستثناءية.
عند تلك النقطة ينشأ انقسام جوهري بين الاشتراكيين ومعهم انصار الجماعية (collectivists) الثوريين، في جانب، وبين الشيوعيين السلطويين الذين يدعمون سلطة الدولة المطلقة في الجانب الآخر. هدف كل منهما النهائي يتطابق تماما. كلاهما يرغب في خلق نظام اجتماعي جديد يقوم اولا على اساس التنظيم الجماعي للعمل، المفروض لا محالة على كل منهما وعلى الجميع بواسطة القوة الطبيعية للاحداث، وفي ظل شروط مساوية على الجميع، وثانيا، على اساس الملكية الجماعية لادوات الانتاج.
الاختلاف هو فقط ان الشيوعيون يتخيلون انهم يستطيعون بلوغ هدفهم بواسطة تنمية وتنظيم القوة السياسية للطبقات العاملة، واساسا بروليتاريا المدن، بمعاونة الراديكالية البرجوازية. الاشتراكيون الثوريون، من ناحية اخرى، يؤمنون بأنهم يستطيعون النجاح فقط من خلال تنمية وتنظيم القوة الاجتماعية الغير سياسية او المعادية للسياسة للطبقات العاملة في المدينة والريف، ومن ضمنهم الرجال ذوي النيات الطيبة من الطبقات العليا الذين يقطعون الصلة بماضيهم ويرغبون علانية في الانضمام الى الطبقات العاملة الحضرية والريفية ويقبلون ببرنامجها السياسي كاملا.
هذا الانشقاق يؤدي الى اختلاف في التكتيكات. يعتقد الشيوعيون ان من الضروري تنظيم قوى العمال من اجل الاستيلاء على السلطة السياسية للدولة. الاشتراكيون الثوريون ينتظمون في منظمات بهدف تدمير – او، نطرحها بشكل اكثر ادبا – تصفية الدولة. يدافع الشيوعيون عن مبدأ وممارسات السلطة، بينما يضع الاشتراكيون الثوريون ايمانهم كله في الحرية. كلاهما بشكل متساوي في صالح العلم، الذي يعمل لانهاء الخرافة وليحل محل العقيدة الدينية. الاولون [الشيوعيون] يودون فرض العلم بالقوة؛ والاخيرون [الاشتراكيون الثوريون] سوف يحاولون نشر العلم حتى ان الجماعات البشرية، فور ما تقتنع بذلك، سوف تنتظم وتشكل فدراليات بشكل تلقائي، وحر، من اسفل الى اعلى، وبرضاهم الخاص، صادقين مع مصالحهم الخاصة، وغير متبعين لخطة موضوعة سلفا مفروضة على “جهلاء”؛ مفروضة على جموع بواسطة قلة من عقول “متفوقة”.
يتمسك الاشتراكيون الثوريون بأن هناك قدرا عظيما من الحس السليم والحكمة العملية في الطموحات الفطرية والاحتياجات الحقيقية للجماهير اكثر منها في العبقرية العميقة لكل الدكاترة ومرشدي الانسانية الذين بعد كل هذه الخيبات العديدة، ما زالوا متمسكين بمحاولة ارغام الانسان على ان يكون سعيدا. اكثر من ذلك، يؤمن الاشتراكيون الثوريون ان البشرية قد خضعت طويلا لفكرة ان تكون تحت سيطرة حكومة؛ وان سبب مشاكلها لا يكمن في اي شكل خاص من اشكال الحكومات ولكن مشاكل البشرية تكمن في المبادئ الجوهرية للحكومات وفي وجود الحكومات ذاتها، مهما كان الشكل الذي تتتخذه هذه الحكومات.
اخيرا، هناك التناقض المعروف جيدا بين الشيوعية كما تطورت علميا بواسطة المدرسة الالمانية واصبحت مقبولة جزئيا عند الامريكيين والانجليز، وبين البرودونية (Proudhonism)، التي تطورت بشكل عظيم ووصلت في مسيرتها الى استنتاج نهائي بواسطة بروليتاريا البلاد اللاتينية. وقد حاولت الاشتراكية الثورية ان تضرب ضربتها الاولى وتستعرض نفسها عمليا في كوميونة باريس.
انا مناصر ومؤيد لكوميونة باريس، التي رغم كل سفك الدماء الذي عانت منه على ايدي الرجعية الملكية والكهنوتية، تنمو اكثر ديمومة واكثر قوة في قلوب وعقول البروليتاريا الاوروبية. انا من مؤيديها، وفوق كل شيء، بسبب جسارتها، فقد تشكلت هذه الكوميونة بوضوح بوصفها نفيا للدولة.
وإنه لأمر ذو مغزى بشكل هائل ان هذا التمرد في وجه الدولة قد وقعت احداثه في فرنسا، التي اصبحت وحتى الان ارض المركزية السياسية بلا منازع، ولأنها بكل دقة كانت هي باريس، زعيمة منبع الحضارة الفرنسية العظيمة، التي قامت بمبادرة الكوميونة. باريس، التي نحت تاجها جانبا واعلنت هزيمتها الخاصة بشجاعة من اجل ان تعطي الحياة والحرية لفرنسا، ولاوروبا، وللعالم بأكمله؛ باريس التي اعادت تأكيد سلطة زعامتها التاريخية، لتظهر لكل الشعوب المستعبدة (وهل هناك اي جماهير لا تخضع للاستعباد؟) اظهرت لهم الدرب الوحيد للتحرر والسلامة؛ باريس التي انزلت ضربة ماحقة بالتقاليد السياسية للراديكالية البرجوازية واعطت حجر اساس حقيقي للاشتراكية الثورية ضد رجعيي فرنسا واوروبا! باريس التي تكفنت في خرائبها، لتمنح كذبة مهابة للرجعية المنتصرة؛ منقذة عبر كارثتها نفسها، شرف ومستقبل فرنسا، ومبرهنة للبشرية على انه لو كانت الحياة، والالمعية والقوة الاخلاقية قد ارتحلت عن الطبقات العليا، فإن هذه القيم كلها قد احتفظت بقوتها وما يوعدون في البروليتاريا! باريس التي افتتحت الحقبة الجديدة للتحرر الاكيد والكامل للجماهير ولتضامنهم الحقيقي عبر حدود الدول؛ باريس التي دمرت النزعة القومية واقامت دين الانسانية على حطام الروح القومية؛ باريس التي اعلنت نفسها انسانية وملحدة، واستبدلت الاوهام المقدسة بالحقائق العظمى للحياة الاجتماعية والايمان بالعلم، مستبدلة الاكاذيب واشكال انعدام المساواة في الاخلاقيات القديمة استبدلتها بمبادئ الحرية، والعدل والمساواة والاخاء، تلك الاسس الخالدة لكل الاخلاقيات الانسانية! باريس البطولية، العقلانية والواثقة، اكدت ايمانها القوي بمقادير البشرية عن طريق سقوطها المجيد، وموتها؛ مسلمة عقيدتها، بكل قوتها، الى الاجيال التي سوف تأتي! باريس، الغارقة في دماء انبل اطفالها – انها الانسانية نفسها، المصلوبة بايدي الرجعية الدولية الموحدة في اوروبا، في ظل الإلهام المباشر من كل الكنائس المسيحية، وذلك الحبر الاعظم للشر، البابا. ولكن الثورة الاممية الآتية، المعبرة عن تضامن الشعوب، سوف تكون البعث لباريس.
هذا هو المعنى الحقيقي، وتلك هي النتائج الهائلة والحميدة للشهرين الذين احاطا بحياة وموت كوميونة باريس؛ الخالدة في ذكرانا للابد.
استمرت كوميونة باريس وقتا قصيرا للغاية، وعرقل تطورها الداخلي الكفاح المميت الذي انخرطت فيه ضد رجعية فرساي من اجل السماح لها على الاقل بأن تصوغ نظريا، برنامجها الاشتراكي، وليس تنفيذه. يجب ان ندرك، ايضا، ان اغلبية اعضاء الكوميونة لم يكونوا اشتراكيين، اذا ما تكلمنا بشكل صحيح. ولو بدوا انهم كذلك، فذلك يعود الى انهم انجروا في هذا الاتجاه في مجرى الاحداث العنيد، ولطبيعة الاوضاع، ولضروريات الموقف الذي تواجدوا فيه، اكثر منه بسبب قناعاتهم الشخصية. الاشتراكيون كانوا اقلية ضئيلة – كان هناك، على اقصى حد، اربعة عشر الى خمسة عشر من الاشتراكيين؛ البقية كانت يعاقبة. ولكن، دعنا نقولها بوضوح، هناك يعاقبة ويعاقبة. هناك محامون ومذهبيون يعاقبة، مثل السيد غامبيتا؛ اكثرهم ايجابية… مندفعين، مستبدين، نزعتهم الجمهورية التشريعية تتغلب على العقيدة الثورية القديمة وتضيعها، لم تترك لهم شيئا من اليعقوبية سوى تشيعها للوحدة والسلطة، وقد سلموا شعب فرنسا للبروسيين، وفيما بعد سلموه ايضا الى الرجعيين وطنيي المولد. وهناك يعاقبة ثوريون باستقامة، الابطال، اخر الممثلين المخلصين للعقيدة الديموقراطية لعام 1793؛ القادرين على التضحية بكلا من وحدتهم وسلطتهم المسلحة جيدا بدلا من اخضاع ضمائرهم لفجور الرجعية الرخيص. هؤلاء اليعاقبة العظام الذين يقودهم بشكل طبيعي دلسكليوز، الروح العظيم والشخصية العظيمة، يرغبون في انتصار الثورة فوق كل شيء اخر؛ وحيث انه لا توجد ثورة دون جماهير، وحيث ان الجماهير في يومنا هذا تكشف عن غريزة تنزع للاشتراكية وتستطيع فقط ان تقوم بثورة اقتصادية واجتماعية، اليعاقبة من ذوي العقيدة السليمة، تاركين انفسهم لينصاعوا بشكل متزايد تحت ضغط منطق الحركة الثورية، ينتهون الى ان يصبحوا اشتراكيون رغم ارادتهم.
ذلك بالضبط هو الوضع الذي وجد فيه اليعاقبة انفسهم ممن شاركوا في كوميونة باريس. دلسكليوز، وعديد من الاخرين معه، وقعوا بامضائهم على برامج واعلانات مردودها العام وما وعدت به كان ذا طبيعة اشتراكية بشكل ايجابي. ومع ذلك، ورغم حسن نواياهم وارادتهم الحسنة، كانوا مجرد اشتراكيين اشتراكية املتها عليهم ظروف خارجية اكثر منها قناعات داخلية؛ كان ينقصهم الوقت وحتى الطاقة من اجل التغلب على افكارهم البرجوازية المسبقة المضادة لاشتراكيتهم التي اكتسبوها حديثا وكبتوا العديد منها. يستطيع المرء ان يتفهم ذلك، وقد وقعوا في فخ الصراع الداخلي، لم يستطعوا ابدا المضي ابعد من عموميات ولم يستطعوا اتخاذ اي من تلك التدابير الحاسمة التي كانت سوف تقضي على تضامنهم واتصالهم بالعالم البرجوازي للابد.
كان ذلك هو سوء بخت الكوميونة واولئك الرجال. لقد كابدوا شللا فعليا، واصابوا الكوميونة بالشلل. الا اننا لا نستطيع لومهم. لا يتحول الرجال بين عشية وضحاها؛ انهم لا يغيرون طبائعهم او عادتهم بمجرد الارادة. لقد برهنوا على اخلاصهم بترك انفسهم يقتلون في سبيل الكوميونة. من يجرؤ على طلب المزيد منهم؟
لا يمكن اعتبارهم موضعا للوم اكثر من اهل باريس، الذين عمل هؤلاء اليعاقبة وتداولوا الافكار تحت تأثيرهم. الناس كانوا اشتراكيين بالغريزة اكثر من كونهم اشتراكيين بالفكرة. كل طموحاتهم هي طموحات اشتراكية من اعلى درجة ولكن افكارهم، او بالاحرى طرق تعبيرهم التقليدية، لم تكن كذلك. بروليتاريا المدن الكبرى في فرنسا، وحتى في باريس نفسها، ما زالت تتعلق بكثير من الافكار المسبقة الخطأ عند اليعاقبة، والتي تتعلق بمفاهيم عديدة سلطوية واستبدادية. عبادة السلطة – النتيجة المميتة للتعليم الديني، ذلك المنبع التاريخي لكل الشرور، والحرمان، والعبودية – لم يتم استئصالها بعد من داخلهم. وهذا صحيح جدا لدرجة ان حتى الاطفال النابهين للشعب، الاشتراكيون الاكثر ايمانا، لم يحرروا انفسهم بالكامل من هذه الافكار. لو سبرت اغوار عقولهم قليلا، سوف تجد واحدا من اليعاقبة، يدافع عن فكرة الحكومة، قابعا في ركن مظلم، متواضعا ولكنه لم يمت تماما بعد.
وايضا، المجموعة الصغيرة من الاشتراكيين المؤمنين بالاشتراكية من الذين شاركوا في الكوميونة وجدوا انفسهم في وضع صعب جدا. ففي الوقت الذي يشعرون فيه بنقص التأييد بين الجماهير العظيمة من اهل باريس لهم، وبينما تلتف بالكاد حفنة من عدة الاف قليلة من الاشخاص حول منظمة الجمعية الاممية للعمال [الاممية الاولى]، وهي نفسها جمعية تعاني من العيوب، كان على هؤلاء الاشتراكيين المؤمنين بالاشتراكية الاستمرار في نضال يومي ضد الاغلبية اليعقوبية. وفي غمار هذا الصراع، كان عليهم إطعام عدة الاف من العمال وايجاد عمل لهم، وتنظيمهم وتسليحهم، والتيقظ والحذر الحاد لتحركات الرجعيين. كل ذلك في مدينة هائلة كباريس ، محاصرة، وتواجه خطر المجاعة، وفريسة لكل المكائد والمؤامرات المستترة للرجعية، التي تدبرت تأسيس مراكزا لها في فرساي بإذن وفضل البروسيين. كان عليهم كاشتراكيين اقامة حكومة ثورية وجيش ثوري ضد حكومة وجيش فرساي؛ من اجل قتال الرجعية الملكية والكهنوتية اضطر الاشتراكيون لتنظيم انفسهم باسلوب اليعاقبة، وتناسوا او ضحوا بأول شروط الاشتراكية الثورية.
في حالة الاضطراب والتشوش هذه، كان من الطبيعي ان اليعاقبة، القسم الاقوى، الذي يشكل الاغلبية في الكوميونة، والمالك ايضا لغريزة سياسية عالية التطور، والمالك لتقاليد وخبرة التنظيم الحكومي، كان لابد وان يكونوا هم اصحاب اليد العليا على الاشتراكيين. وانه لامر مدهش انهم لم يضغطوا بمميزاتهم تلك اكثر مما فعلوا فعلا؛ فهم لم يصبغوا انتفاضة باريس بصبغة يعقوبية خالصة؛ بل انهم على العكس تركوا انفسهم لتحملهم موجة الثورة الاجتماعية في تيارها.
انا اعرف ان اشتراكيين عديدين، تتمتع نظريتهم الاشتراكية بمنطق قوي جدا، يلومون اصدقاءنا الباريسيين على عدم التصرف بشكل كاف كاشتراكيين في ممارستهم الثورية. من ناحية اخرى، ألوان النواح الذي تصرخ به الصحافة البرجوازية، يتهمهم بأنهم اخلصوا لبرنامجهم الاشتراكي زيادة عن اللازم. دعنا ننسى للحظة الوشاية الغير شريفة التي تذيعها هذه الصحافة. اريد ان ادعو انتباه اكثر المنظرين لتحرير البروليتاريا تشددا الى حقيقة انهم لا يتصفون بالعدل في حكمهم على اخوتنا في باريس، لانه بين اكثر النظريات صحة وبين تطبيقها العملي تقع مسافة هائلة لا يمكن عبورها في ايام قلائل. من اسعده الحظ بالتعرف الى فارلان، مثلا (لنحدد اسم رجل واحد فقط من المؤكد انه مات)، يعرف انه واصدقاءه عملوا تحت توجيه وهدى من القناعات الاشتراكية العميقة والمخلصة ذات البناء الفكري المتين. هؤلاء كانوا رجالا سعيهم الحثيث واخلاصهم وعقيدتهم السليمة ليست محل تساؤل ابدا من قبل من عرفهم. ومع ذلك، وبالضبط لانهم كانوا رجال ذوي عقيدة سليمة، كان يملأهم شك داخلي في وجه المهمة الهائلة الذين كرسوا عقولهم وارواحهم لها؛ كانوا يتواضعون بانفسهم كثيرا جدا! وكانوا مقتنعين انه في الثورة الاجتماعية، والتي هي النقيض على طول الخط للثورة السياسية في هذا السبيل كما في السبل الاخرى، العمل الفردي يكاد يكون لا شيء، بينما الاعمال التلقائية للجماهير يجب ان تكون كل شيء. كل ما يستطيع اولئك الافراد صنعه هو صياغة الافكار وتوضيحها ونشرها، الافكار التي تعبر عن رغبات الشعب الفطرية، ويساهمون بجهودهم الدائمة في التنظيم الثوري لقوى الجماهير الطبيعية. هذا وليس اكثر من ذلك؛ كل الباقي يمكن انجازه فقط بواسطة الجماهير نفسها. ولو مضت الامور على نحو غير ذلك سوف ينتهي الامر بنا الى ديكتاتورية سياسية – اعادة تأسيس الدولة، بكل امتيازاتها، وبكل مظالمها وصور عدم المساواة؛ عبر اتخاذنا لطريق خادع ولكن حتمي سوف نصل الى تأسيس عبودية للجماهير اقتصادية وسياسية واجتماعية .
فارلان وكل اصدقاءه، مثل كل الاشتراكيين المخلصين، وعموما مثل كل العمال الذين ولدوا وترعرعوا وسط الشعب، يشتركون في هذا الشعور المشروع تماما بالحذر من الحركة المستمرة لجماعة واحدة من الافراد لا تمثل سوى نفسها وضد الهيمنة التي تمارسها الشخصيات النجوم. وحيث انهم رجال عدل وذوي رأي منصف فوق كل شيء اخر، فهم يستخدمون هذه البصيرة، هذا الارتياب ضد انفسهم بنفس القدر الذي يستخدمونه ضد الاشخاص الاخرين.
وعلى عكس ما يؤمن به الشيوعيون السلطويون – الذي اعتبره خطأ تماما – بأن ثورة اجتماعية يجب ان تصدر عن اما ديكتاتورية او جمعية تأسيسية تنشأ من ثورة سياسية ويتم تنظيمها بواسطة ايهما، اصدقاءنا، الاشتراكيون الباريسيون، آمنوا ان الثورة لا يمكن صنعها او الوصول بها الى تطورها الكامل بأي وسيلة اخرى سوى العمل العفوي والمستمر للجماهير، جماعات ومؤسسات الشعب.
اصدقاءنا الباريسيون كانوا على حق الف مرة. في الواقع، اين هو العقل، الرائع كما يبدو، او – لو تكلمنا عن الديكتاتورية الجماعية، ولو انها حتى تتشكل من عدة مئات من الشخصيات الموهوبة بعقليات عبقرية متفوقة – او اين هي الملكات الفكرية القوية بما يكفي لاحتضان التنوع والتعددية التي لا حصر لها للمصالح والطموحات والرغبات والاحتياجات الحقيقية التي تشكل مجموع الارادة الجماعية للشعب؟ كيف يمكن اختراع منظمة اجتماعية لا تمثل رحما حاضنا لفرض التنميط بالقوة الذي يعتمد عليه عنف الدولة في اجبار شعب تعيس على ان يسترخي بشكل او بآخر؟ ودائما ما كانت الامور تسير هكذا، وهو بالضبط النظام القديم للتنظيم بالاجبار، حيث يجب ان تنتهي الثورة الاجتماعية بتفويض الحرية الكاملة للجماهير، والجماعات، والمجتمعات المحلية، والجمعيات وللافراد ايضا؛ بواسطة تدمير السبب التاريخي لكل اشكال العنف مرة واحدة وللابد، وهي السلطة وفعليا وجود الدولة في حد ذاته. سقوط الدولة سوف يهدم معه كل انواع اجحاف القانون وكل اكاذيب الاديان المتنوعة، وحيث ان كلا من القانون والدين لا يحتويان ، على المستوى الفكري وفي الواقع العملي، على اي شئ سوى القداسة الارغامية لكل اشكال العنف الذي تمثله الدولة وتؤمنه وتحميه.
من الواضح ان الحرية لن تمنح للبشرية، فالمصالح الحقيقية للمجتمع، ولكل الجماعات، والجمعيات المحلية، والافراد الذين يتشكل منهم المجتمع، لن توف طالما هناك اي نوع من الدول. من الواضح ان ما يسمى المصالح العامة للمجتمع، التي من المفترض ان الدولة تمثلها والتي هي في الحقيقة الواقعية مجرد نفي دائم وعمومي للمصالح الحقيقية للاقاليم والمجتمعات المحلية والجمعيات والافراد رعايا الدولة، ما يسمى المصالح العامة للمجتمع هو مجرد تجريد، وخيال، وكذبة. الدولة مثلها مثل مجزر كبير او مدافن هائلة، تدخله كل الطموحات الحقيقية، وكل القوى الحية في بلد ما تدخلها بسعادة وكرم، وفي ظل هذا التجريد، يستسلمون هناك للذبح ثم الدفن. وبالضبط حيث انه لا يوجد تجريد لذاته او بذاته، دون ارجل يقف عليها، ولا اذرع يبدع بها، ولا معدة يهضم بها جموع الضحايا المقدمة له، وهو بالمثل امر واضح ان التجريد الديني او السماوي، الرب، يمثل فعليا المصالح الحقيقية نفسها لطبقة، ولرجال دين، بينما شقيقه الارضي، ذلك التجريد السياسي، الدولة، التي لا تقل تمثيلا عن المصالح الحقيقية للطبقة التي تمارس الاستغلال والتي تميل لابتلاع مصالح كل الاخرين – طبقة البرجوازية. وبينما اتصف رجال الدين دائما بالانقسامية، وهم هذه الايام يميلون لفصل الرجال حتى بدرجة اكبر عن بعضهم البعض الى اقلية ذات نفوذ قوي جدا وثرية ثراءا فاحشا واغلبية تعيسة وبالاحرى اكثر بؤسا، وهكذا على نفس المنوال البرجوازية، بتنظيماتها الاجتماعية والسياسية في الصناعة، والزراعة، والاعمال البنكية، والتجارة، اضافة الى كل وظائف الدولة العسكرية والشرطية والتعليمية والقضائية والمالية والادارية تميل بشكل متزايد الى ضم كل تلك الوظائف في طغمة حاكمة مهيمنة بشكل حقيقي من ناحية، ومن الناحية الاخرى جماهير هائلة تتكون بشكل او باخر من مخلوقات لا حول لها ولا قوة، مخلوقات مخدوعة تعيش في وهم خالد، مدفوعة باضطراد وحتما الى وضع طبقة البروليتاريا نتيجة لقوة لا تقاوم من التطورات الاقتصادية الحالية، ويختزل دورها الى مجرد خدم بوصفهم أدوات عمياء لهذه الطغمة الحاكمة كلية القوة.
يجب ان يكون الغاء الكنيسة والدولة الشرط الاول الذي لا يمكن الاستغناء عنه من اجل منح المجتمع صوتا حقيقيا يستطيع بل ويجب عليه ان يعيد به تنظيم نفسه؛ وليس من اعلى الى اسفل طبقا لخطة مثالية يطبخها رجل حكيم او عالم من العلماء، ولا عبر قرارات رسمية تصوغها بعض اشكال السلطة الديكتاتورية او حتى بواسطة جمعية وطنية منتخبة بالاقتراع العام المباشر. مثل هذا النظام، كما قلت توا، سوف يقود لا محالة الى خلق دولة جديدة، وبالنتيجة، الى تشكيل ارستوقراطية حاكمة، بمعنى، طبقة كاملة من الاشخاص لا تربطهم بالجماهير اي علاقة مشتركة. وطبعا، هذه الطبقة سوف تستغل الجماهير وتخضعها، تحت مسوغات انها تخدم الرفاهية المشتركة للوطن او تنقذ الدولة.
التنظيم الاجتماعي في المستقبل يجب ان يشيد من القاع الى القمة، بواسطة الجمعيات او الفدراليات الحرة للعمال، بادئا بالجمعيات، ثم يسري الى الكوميونات، وإلى المناطق والامم واخيرا يصعد الى قمة في اممية عظمى وفدرالية كونية. ساعتها فقط سوف يتحقق في الدنيا النظام الاجتماعي للحرية الحقيقي المانح للحياة والرفاه العام، نظام اجتماعي، سوف يؤكد مصالح الافراد والمجتمع وسوف يتصالح معها ولسوف يكون ابعد من ان يشكل قيدا عليها.
يقال ان الانسجام والتضامن الشامل بين الافراد والمجتمع لا يمكن ان نصل اليه في الواقع العملي ابدا لان مصالحهما [الافراد والمجتمع]، كونها متناقضة، لا يمكن التقاءهما ابدا. ردي على هذا الاعتراض هو لو ان هذه المصالح لم تأت الى توافق متبادل ابدا، فذلك يعود الى ان الدولة قد ضحت بمصالح الاغلبية لصالح وفائدة الاقلية صاحبة الامتيازات. هذا هو سبب ذلك التناقض الشهير، هذا الصدام بين المصالح الشخصية وبين مصالح المجتمع تلك، ليس سوى تزوير، ليس سوى كذبة سياسية، خرجت من رحم كذبة كهنوتية اخترعت مذهب الخطيئة الاصلية من اجل تلويث شرف الانسان وتدمير احترامه لذاته. نفس الفكرة الزائفة المتعلقة بالمصالح المتعارضة الغير قابلة للتصالح صنعتها ايضا احلام ميتافيزيقية، هي كما نعرف لصيقة النسب بالفكر الديني الكهنوتي. الافكار الميتافيزيقية، التي فشلت في ادراك الشخصية الاجتماعية للطبيعة الانسانية، تنظر للمجتمع بوصفه تجمعات افراد اصطناعية تماما وميكانيكية، التقوا معا فجأة باسم بعض صور شكلية او سرية إما بطريقة حرة او تحت تأثير سلطة عليا. قبل التوحد في مجتمع، هؤلاء الافراد، نتيجة لمنحة من نوع ما من انواع الروح الخالدة التي لا تموت، تمتعوا بحرية كاملة، طبقا لاقوال الميتافيزيقيين. نحمل اقتناعا ان كل ثروة الانسان من التطورات الذهنية، والاخلاقية والمادية، اضافة الى استقلاله الظاهر، هو نتاج حياته في مجتمع. خارج المجتمع، لن يفقد الانسان فقط كونه رجلا حرا، بل انه حتى لن يصبح انسانا متفردا، كونه واعيا بذاته، الكائن الوحيد الذي يعقل ويتكلم. فقط مزيج من الذكاء مع العمل الجماعي استطاع اجبار الانسان على الخروج من حالة البربرية والوحشية تلك التي شكلت طبيعته الاصلية، او بالاحرى نقطة انطلاق تطوراته المضطردة. نحن مقتنعون بعمق من ان كامل حياة الرجال – مصالحهم، وميولهم، واحتياجاتهم، واوهامهم، وحتى غباواتهم، اضافة الى قليل من عنفهم، وظلمهم، وفيما يبدو انه نشاطهم الطوعي – يمثل ببساطة نتيجة قوى مجتمعية حتمية. لا تستطيع الشعوب رفض فكرة الاستقلال المتبادل، ولا تستطيع انكار التأثيرات العكسية المبتادلة والتنميط الذي يعرض مظاهر الطبيعة الخارجية.
في الطبيعة نفسها، هذا الترابط والاعتماد المتبادل المبهر للظاهرة لم يحدث بالتأكيد دون كفاح. على العكس، انسجام قوى الطبيعة يظهر فقط كنتيجة للصراع المستمر، الشرط الحقيقي للحياة والحركة. في الطبيعة، كما في المجتمع، النظام دون كفاح هو الموت.
لو ان النظام هو طبيعي وممكن في الكون، فذلك يعود فقط الى ان الكون لا يحكم طبقا لبعض النظم المتخيلة بشكل مسبق والتي تفرضها ارادة عليا. الفرضية الكهنوتية للتشريع السامي تقود الى عبث واضح، الى نفي ليس فقط لكل النسق ولكن للفرضية نفسها. القوانين الطبيعية تصبح حقيقية فقط في حالة كونها مكون موروث داخلي في الطبيعة؛ بمعنى، انها لا تقوم بناء على اي سلطة. تلك القوانين ليست الا مظاهر بسيطة، او بالاحرى متغيرات مستمرة، للانماط التي تشكل ما نسميه ’الطبيعة‘. الذكاء الانساني وعلومه قد لاحظت تلك القوانين، واختبرتها باجراء التجارب العلمية، وقامت بتجميعها في نظام واطلقت عليها اسم قوانين. ولكن الطبيعة في حد ذاتها لا تعرف قوانينا. انها تتصرف بشكل غير واعي؛ انها تمثل في نفسها تنوعا لا ينتهي للظواهر التي تظهر وتكرر نفسها حتميا. هذه الحتمية للحركة هي السبب وراء امكانية ووجود النظام الكوني.
مثل هذا النظام يظهر ايضا في المجتمع الانساني، والذي يبدو انه ارتقى وتطور فيما يزعم بطريقة مناهضة للطبيعة ولكن تطوره فعليا حددته احتياجات الحيوان الطبيعي وطاقتة على التفكير الذي ساهم بدوره كعنصر خاص في تطوره – كعنصر هو بالكامل من عناصر الطبيعة، نفلا، بمعنى ان الرجل، مثل كل شيء موجود، يمثل انتاجا ماديا لاتحاد قوى الطبيعة وعملها. هذا العنصر الخاص هو العقل، القدرة على التعميم والتجريد، الذي بفضله يستطيع الرجل ان يسبح في افكاره، ويتفحص ويلاحظ نفسه بوصفه شيء خالد غريب. عندما يرتفع الانسان في فكره فوق نفسه، وفوق العالم حوله، فإنه يصل الى تشخيص للتجريد التام والفراغ المطلق. وهذا المطلق ليس شيئا اقل من قدرته على التجريد، والذي يزدري كل ما هو موجود ويكتشف راحته في بلوغ مرتبة النفي الكامل. هذا هو الحد الاعلى للتجريد الاعلى للعقل؛ هذا اللاشيء المطلق هو الإله.
هذا هو معنى والمنبع التاريخي لكل مذهب لاهوتي. وكما انهم لم يفهموا طبيعة الاسباب المادية لتفكيرهم الخاص، ولم يمسكوا حتى بالشروط او القوانين الطبيعية التي تحدد مثل هذا التفكير، هؤلاء الرجال الاولون والمجتمعات الاولى لم يكن لديهم ادنى شك في ان افكارهم المطلقة كانت ببساطة نتيجة قدرتهم الخاصة على صياغة الافكار المجردة. ومن هنا ارتأوا تلك الافكار، وسحبوها من الطبيعة، كاشياء حقيقية، توقفت الطبيعة ذاتها بعد ذلك عن الاتيان بأي شيء. بدأوا عبادة افكارهم الخيالية، وافكارهم الموهومة عن المطلق، وبدأوا في تكريم هذه الافكار. ولكن حيث انهم شعروا بالحاجة الى اعطاء بعض الاشكال الملموسة للفكرة المجردة عن اللاشيء او الاله، خلق هؤلاء الناس مفهوم القداسة وبالمزيد اسبغوا عليه كل الصفات التي تشكل سلطات، الشر والخير، والذي يجدونه فقط في الطبيعة وفي المجتمع. هذا هو منشأ كل الاديان وتطورها التاريخي، من عبادة الاوثان الى المسيحية هبوطا.
نحن لا ننوي عمل دراسة عن تاريخ السخافات الدينية واللاهوتية والميتافيزيقية او مناقشة عملية مسار كل التجسدات المقدسة والرؤى المقدسة التي خلقتها قرون البربرية السابقة. نحن نعرف كلنا ان الخرافة والاسطورة جلبت الكوارث وسببت تفجر انهار الدم والدموع. كل هذه التشوهات المتمردة للبشرية الفقيرة كانت مراحل تاريخية وحتمية في النمو الطبيعي والارتقاء الاجتماعي للمنظمات. مثل هذه التشوهات ولدت فكرة قاتلة، هيمنت على خيال البشر، بأن الكون محكوم بواسطة قوة وارادة فوق طبيعية. جاءت قرون ومضت، ونمت مجتمعات وتعودت على هذه الفكرة الى مثل هذا الحد الذي دمروا به في الاخير اي تحريض او قدرة نحو تحقيق مزيد من التطور الذي نشأ في اوساطهم.
النهم للسلطة عند بعض الافراد اصلا، وعند العديد من الطبقات الاجتماعية فيما بعد، اسس العبودية والغزو كمبدأ مهيمن، وزرع هذه الفكرة الرهيبة عن القداسة في قلب المجتمع. بعد ذلك، لم يعد يرى احد في اي مجتمع مجتمعا صالحا دون وجود هاتين المؤسستين، الكنيسة والدولة، كقاعدة له. هذان السوطان يدافع عنهما كل الدعاة الاعتذاريين المذهبيين التابعين لهما.
فور ظهور هاتين المؤسستين في العالم، فجأة نظمت طبقتان حاكمتان – الكهنة والارستقراطية – انفسهما ولم تضيعا وقتا من اجل مذهبة الشعوب المستعبدة بفكرة قداسة الكنيسة والدولة وعدم القدرة عن الاستغناء عنهما والجدوى الجمة من استخدامهما.

Leave a Reply