نحو نقد أناركي للدين 1

(ترجمها للعربية محمد عبد القادر الفار)

 

في مقدمة كتابه “وعاظ السلاطين” يقول الدكتور علي الوردي عمن وصفهم ب “المفكرين الأفلاطونيين الذين لا يجيدون إلا إعلان الويل والثبور على الإنسان لانحرافه عما يتخيلون من مثل عليا دون أن يقفوا لحظة ليتبينوا المقدار الذي يلائم الطبيعة البشرية من تلك المثل ” :

“إنهم يحسبون النفس البشرية كالثوب الذي يغسل بالماء والصابون فيزول عنه ما اعتراه من وسخ طارئ ، وتراهم لذلك يهتفون بملء أفواههم : هذبوا أخلاقكم أيها الناس ونظفوا قلوبكم! فإذا وجدوا الناس لا يتأثرون بمنطقهم هذا انهالوا عليهم بوابل من الخطب الشعواء، وصبوا على رؤوسهم الويل والثبور”

بهذا الوصف الذي قدمه الدكتور علي الوردي للمفكرين الأفلاطونيين نستطيع أن نلخص ما ذهب إليه العديد من المفكرين العلمانيين اليوم في نقد الدين،، فهم وإن كانوا قد خرجوا من عباءة الدوغما الدينية فإنهم لم يتخلصوا من أسلوب الوعظ المبني على بناء أخلاقي مزيف في مقاربتهم للمسألة،، ويندر أن ينطلقوا في نقوداتهم من طبيعة الإنسان نفسه، الطبيعة البشرية ،، تلك الطبيعة التي كانت محور اهتمام المفكرين المخلصين منذ فجر السفسطائية التي كفرت بكل أشكال إطلاق الحقيقة وبالتالي سلطة الدوغما على المفكر وحتى فكر ما بعد الحداثة الذي كفر بسلطة العقل الإنساني بل أعلن موت الإنسان …

فما هي الطبيعة الإنسانية ،، تلك الطبيعة التي يكفي أن نقر بوجودها ونتفق على ملامحها ونكتشف عدم ملاءمة الدين لها لنسقط الأعمدة الأساسية التي يقوم عليها الدين

تشومسكي ،، وهو أحد أشد المهتمين بمسألة الطبيعة البشرية ،، يقول في حواره الشهير مع ميشيل فوكو :

” إن أحد عناصر الطبيعة الإنسانية الأساسية هو الحاجة لعمل مبدع، لبحث إبداعي ولفاعلية إبداعية حرة غير مرتهنة بالنتيجة الضيقة التي تفرضها المؤسسات الاستبدادية؛ ويستنتج من هذا، بطبيعة الحال، أنه ينبغي على المجتمع اللائق أن يفتح أمام هذه الممكنات، التي تشكل الخاصية الإنسانية الجذرية، أقصى حدود التحقق. وذلك يعني التغلب على العناصر الكابحة، القمعية، المدمرة والقهرية القائمة في كل مجتمع، في مجتمعاتنا مثلاً، باعتبار تلك العناصر “””بقايا تاريخية””” “

ومع هذا ففي حوار أجرته معه مجلة إيرلندية أناركية سنة 1995، قال تشومسكي :

“هل الطبيعة البشرية، أياً كانت، مساعدة على تطور أشكال أناركية من الحياة أم معيقة لها؟ إننا لا نعرف ما يكفي لنجيب”

إن حذر تشومسكي في حديثه عن مسألة الطبيعة البشرية هو حذر أي مفكر مخلص يتجنب التصريح بحقائق مطلقة حول أمور شائكة فقط ليكون له السبق فيها،، ولكنه مع ذلك يقر بالطبيعة البشرية ويتحدث عن بعض عناصرها، كحاجتها إلى إبداع لا كبت عليه .. ويقول في نفس الحوار مع ميشيل فوكو :

” لا بد لنا من خلق مجتمع للحرية وللتآلف الحر، حيث سيكون بمقدور الدافع الإبداعي المغروز في الطبيعة الإنسانية تحقيق ذاته بالطريقة التي يقررها”

وبما أن مجتمعات من هذا النوع لم تتحقق بعد في عالمنا أو بتعبير أدق لم يتح للتجارب الحقيقية التي اقتربت من ذلك النموذج أن تكتمل حيث وئدت في المهد كما في الحرب الإسبانية وكما في كوميونة باريس ،، فإن الطبيعة البشرية لم يتح لها حتى الآن تحقيق ذاتها أو إنتاج تعبير واضح عنها يزيل ذلك اللبس الذي يحيط بها ،، أو كما رد ميشيل فوكو على تشومسكي في نفس ذلك الحوار:

“”ألا نغامر في وضع تحديد لتلك الطبيعة المثالية والواقعية في آن معاً، المخفية والمكبوحة حتى الآن- ضمن مفردات مُستعارة من مجتمعنا، من حضارتنا وثقافتنا ..؟ “”

مما سبق نكتشف أن تحقيق مجتمعات حرة بشكل كامل (لا الحرية المزيفة التي يكثر الحديث عنها) هو شرط لاستكمال اكتشاف الطبيعة الإنسانية ،، ذلك الكشف الذي وإن كانت أدواته الأساسية هي العلوم المختلفة التي لها علاقة بالإنسان،، فإنه لا يمكن اكتماله قبل الوصول إلى حالة كاملة من الحرية تتيح التعبير بحرية عن هذه الطبيعة البشرية،،

ومع ذلك،، فإن بإمكاننا الاتفاق على بعض عناصر تلك الطبيعة،، وأحد تلك العناصر هو تعطشها لتحقيق وجودها المتعين بذاتها هي ،، وبشكل أناني لا محالة (فهو متعلق بالأنا)،، ودون نهاية ،،

وذلك يقودنا إلى حاجتين أساسيتين للنفس البشرية (ودون تقسيمها إلى نفس سيد ونفس عبد ،، نفس بروليتاري ونفس برجوازي ) .. هاتان الحاجتان هما :

* حاجة النفس إلى تحقيق فرديتها

* تحقيق خلودها واستمرار وعيها

الحاجة إلى تحقيق الفردية هي ما يدفع الإنسان إلى التمرد على أي واقع ينفي فرديته ويجعل مصلحتها متناقضة مع مصلحة الجماعة بشكل قهري يتجاهل السؤال البديهي : كيف يمكن أن تكون الجماعة على ما يرام عندما يكون كل فرد فيها بائسا .. كما أن تلك الحاجة إلى الفردية تجعل الإنسان يتمرد على واقع يلصقه بالفناء كالموت البيولوجي .. وهذا يقودنا إلى الحاجة الثانية ،، وهي الخلود أو الاستمرارية…

وبما أننا نتحدث عن طبيعة بشرية ،، فإن أي نقد يتجاهل أياً من عناصرها هو نقد غير ناجح ،، وغير قادر على أن يوفر البديل للسائد ،، حتى وإن كان مقنعاً وكافياً لكثير من الناس المستعدة لتقبل الفهم المادي للعالم والتصالح مع نفسها التواقة للوجود والخلود،، بتغليبها للحقيقة والواقع على الأمل ،، بمن فيهم كاتب هذه السطور … ولكننا لسنا أغلبية …

وليس الجميع مستعداً لأن يتقبل بصدر رحب قول درويش

الموت لا يعني لنا شيئا نكون فلا يكون

والموت لا يعني لنا شيئا يكون فلا نكون

وهنا تبرز الحاجة لنقد يترك الباب مفتوحاً أمام هذا العنصر في الطبيعة البشرية،، فلا ينفي اي أمل لها بالاستمرار بل وعن طريق الفهم المادي نفسه يحاول طرق أبواب استمرار الوجود بسبل أخرى أو حتى تقبل روحانيات الناس على أن تتم في كل الأحوال مراعاة الحاجة الأخرى التي لا تقل أهمية :

وهي حاجة النفس لتحقيق فرديتها .. أي حاجتها لحريتها .. دون أي سلطة عليها

ومن هنا تأتي الحاجة لنقد لا سلطوي .. أناركي .. للدين

يتبع

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=173852

Leave a Reply