Category Archives: عربی

الديكتاتوريات العربية تشن أكبر هجوم لها على الجماهير

مازن كم الماز

أناركي سوري

يبدو الوضع قاتما بالنسبة لمستقبل ثورات الشعوب العربية نسبيا اليوم : لقد أطلق العنان لماكينة القمع الرسمية للأنظمة إلى أقصى طاقتها في العديد من البلدان , مهددة بالقضاء على انتفاضات الجماهير الليبية و البحرينية و اليمنية بقوة القمع الوحشية .

ليبيا

في ليبيا تتقدم قوات القذافي شرقا متغلبة على المقاومة الشجاعة للثوار الليبيين باستخدامها المركز للقصف من الزوراق و الطائرات القاذفة و راجمات الصواريخ . الولايات المتحدة و بعض الحكومات الأوروبية التي أظهرت حماسة مبكرة للتدخل عسكريا بشكل مباشر في ليبيا , تزعم الآن أن فرض منطقة حظر لطيران نظام القذافي أمر غير ممكن عمليا . يمكن فهم هذا فقط على ضوء رفض الثوار الليبيين لأي تدخل عسكري مباشر في بلادهم . لقد أوضح كل طرف أن حرية الشعب الليبي , حريته الحقيقية , لا تعنيه , و أنه على الجماهير الليبية أن تعتمد فقط على شجاعتها و تصميمها ضد قوات القذافي المتفوقة عسكريا .
وضع القذافي أما شعبه أحد خيارين : العبودية أو الموت . الولايات المتحدة من جانبها أوضحت موقفها من الأزمة من خلال أفعالها : على الشعب الليبي أن يختار إما الولايات المتحدة أو القذافي . من المؤكد أن الثوار الليبيين ما يزالون بمعنويات عالية , لكن من الأكيد أيضا أن مصير الثورة الليبية , بما في ذلك مصير كل ليبي انتفض في سبيل حريته , يبدو قاتما اليوم أيضا .
اليمن

في اليمن , شنت قوى النظام قبل يومين هجوما واسعا على طلاب جامعة صنعاء في الساحة القريبة من جامعتهم , ساحة التغيير , كما أصبحت تسمى . قتل 7 من المتظاهرين و أصيب كثيرون غيرهم . اللافت للنظر أن الرئيس الأمريكي أوباما في ذلك اليوم بالتحديد قد دعا المعارضة اليمنية لقبول عرض الديكتاتور علي عبد الله صالح لإنهاء الصراع و القبول بتغييرات طفيفة في بنية النظام السياسية . صالح في نفس الوقت تعهد بحماية أرواح الشباب المتظاهر . لكن مرة أخرى , قام بلاطجة ( أزلام النظام ) نظام صالح بمهاجمة المحتجين . لكن الساحة ما زالت تحت سيطرة الطلاب حتى الآن .
تتواتر الكثير من التقارير عن أن أعداد كبيرة من رجال الشرطة و من بلاطجة النظام يعدون لهجوم آخر كبير على المعتصمين في ساحة التغيير . مرة أخرى فإن الشباب هناك مصمم على أن يواصل ثورته .

البحرين

وردت الأخبار من البحرين بأن أكثر من ألف عسكري سعودي قد دخلوا الأراضي البحرينية ليدعموا نظامها الملكي ضد انتفاضة شعبه . ما يمكننا توقعه الآن هو المزيد من إراقة الدماء . تقلد الأسرة الحاكمة السعودية دور أكثر الأنظمة رجعية في مواجهة انتفاضات الشعوب المجاورة , كما كان القيصر الروسي أو البروسي يفعلان في مواجهة ثورات الشعوب الأوروبية في القرن 19 … الملك السعودي شخصيا , رغم انه كان مريضا يومها , اتصل بالرئيس الأمريكي أوباما شخصيا و انتقد مواقف الأخير من مبارك , واعدا بدعم الديكتاتور المصري حتى النهاية .
تستضيف البحرين أحد أكبر القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة و العالم , لذلك لا يستطيع أي شخص أن يزعم أن التدخل السعودي جرى من دون موافقة أمريكية . ما يعنيه هذا هو أن الأنظمة , الديكتاتوريات في منطقتنا , تبدأ بممارسة أقصى قمع ممكن ضد شعوبها الثائرة لكي تضع حدا لموجة الثورات و الاحتجاجات التي تطالب بالحرية , بحق العمل , المساواة , المشاركة السياسية , و بحياة كريمة للجميع .

لا توجد ثقة لا في القوى الغربية و لا الشرقية

لا يحتاج المرء ليعلق على مواقف القوى الغربية أو الشرقية التي تدعم , علنا أو بشكل غير مباشر , هذه الديكتاتوريات القمعية الوحشية . من الواضح أن الثورة قد تنتصر أو تهزم , رغم نشوة الانتصارين الأوليين في مصر و تونس . إن هزيمة هذه الثورات هو الهدف النهائي لكل النخب , كل الديكتاتوريات , و كل المضطهدين , و المستغلين , ليس فقط في الشرق الأوسط و شمال أفريقيا و بل في كل مكان , من الولايات المتحدة إلى جمهورية الصين الشعبية و الاتحاد الروسي .
من الواضح أنه لا يمكنك أحيانا , إما بسبب وحشية القمع من الأنظمة القائمة أو بسبب نقاط ضعف من جانب الشعب نفسه , أن تنتصر دون دعم أممي , دون دعم الجماهير في كل مكان . هذه في الواقع أكثر من مجرد دعوة للتضامن أو في سبيل دعم مؤقت . هذه دعوة لأعمال مشتركة ضد أعداء مشتركين . إذا كان صحيحا أنه لا يمكن لبعض الثورات أن تنتصر بالاعتماد على أفعال الجماهير المحلية فقط في بعض الأحيان , فصحيح أيضا أنه لم يكن من الممكن لهذه الديكتاتوريات أن تبقى و تستمر و لن يمكنها ذلك في المستقبل دون دعم القوى الكبرى في العالم , و مراكز “النظام العالمي الجديد” المعولم للاحتكارات , أي القوى الإمبريالية الكبرى . إنهم حلفاء , و نحن أيضا كذلك , نحن , الجماهير المستغلة في هذا العالم . من الواضح الآن أن شعوبنا تواجه أعداءا مشتركين , و أن انتصارنا هو انتصاركم , و هزيمتنا هي هزيمتكم بكل تأكيد .
إننا نذكر الصعود الكبير للحركة المناهضة للحرب قبل و أثناء الغزو الأنغلو – أمريكي للعراق , لكن ذلك الصعود لم يوفق في تغيير مجرى الأحداث يومها . كان ذلك جزئيا بسبب طبيعة الخصم الذي وقف في وجه العدوان الإمبريالي يومها . فقد كان هذا الخصم نظاما قمعيا , مكروها من شعبه , لذلك كانت هزيمته حتمية , و انتهى ذلك الصعود إلى جمود فيما بعد . لكن الآن فمن يقاتل هم الجماهير نفسها , و بأقصى ما تستطيع من شجاعة . عليكم أن تعرفوا عن تصميم و شجاعة أولئك الذين خرجوا إلى الشوارع ضد عدد من أكثر الديكتاتوريات قمعا و وحشية على هذه الأرض , في تونس , مصر , ليبيا , اليمن , العراق و حتى في المنطقة الشرقية للمملكة العربية السعودية . مات المئات ( الآلاف في حالة ليبيا ) و أصيب الآلاف في هذا الصراع الذي يتواصل في كل مكان في منطقتنا . لقد قاتل الناس بشجاعة بأيديهم العارية , بقنابل المولوتوف , و بتصميمهم على انتزاع حريتهم ضد رجال الشرطة المدججين بالسلاح و بلطجية الأنظمة , و عسكرها في بعض الأحيان .

دعوة لدعم و لأفعال تضامن أممي

إننا نحتاج بشدة لتضامنكم بالفعل , لكنني أعتقد أنه قد حان الوقت للبدء بأعمال و تظاهرات أوسع دعما للشعوب الثائرة في الشرق الأوسط و شمال أفريقيا . يجب ألا توجه هذه الاحتجاجات ضد الديكتاتوريات المحلية فقط , بل أيضا ضد داعميها . هذا يعني الاحتجاج أيضا ضد السياسات المخادعة للقوى الإمبريالية , نفس القوى التي تريد أن تجبر العمال في الغرب على تحمل نتائج الأزمة التي خلقتها بجشعها .
إن الجماهير مستعدة في كل مكان لمعركة أكبر , معركة في سبيل مصيرها و حريتها , و للقيام بهجوم مضاد ضد مستغليها . أنني أعتقد أنه كما جرى في تونس و مصر و في كل مكان من منطقتنا , فإن سخط الناس على أشده و أنهم يملكون الرغبة للمقاومة أكثر من أي وقت مضى . إلى جانب تضامنكم العاجل , أرجو أن يمكنكم أن تبدؤوا بمبادرات جديدة للتظاهر و أشكال العمل المباشر الأخرى على صعيد أوسع ضد أعدائنا المشتركين , دفاعا عن مصالحنا المشتركة .
إنني أنتمي إلى اليسار التحرري , و أنا مقتنع جدا أن النضال الحالي للجماهير في الشرق الأوسط له أهداف تحررية واضحة , لكن ليس هذا وقت الفرقة أو التشتت من جانب اليسار الثوري الأممي و الحركات و الناشطين المناهضين للرأسمالية . هذا لا يعني استبدال الأهداف و الوسائل التحررية بأخرى سلطوية , بل في خوض النضال على الأرضية المشتركة لكل الثوريين و الناشطين المناهضين للرأسمالية , و قبل كل شيء , على الأرضية المشتركة لمصالح الجماهير في كل مكان . إنني أفهم أن الثورات تدور حول النضال , الصراع , و أنه يمكن لها أن تنتصر أو تهزم : بعد ما يبدو الآن انتصارات أولية “سهلة” في تونس و مصر ( الأمر الذي لم يكن كذلك بالتأكيد ) , فنحن الآن في المرحلة الأكثر صعوبة من نضالنا , و كما اكتشفت الحركة العمالية منذ بداياتها , فإن هذا الصراع أو النضال لا يمكن خوضه بنجاح إلا على مستوى أممي .
و هذا الصراع الجاري ليس استثناءا . بالطبع إن هذه النضالات ليست بروليتارية بحتة حتى اليوم , حتى أن البروليتاريا المحلية قد لعبت فيها حتى اليوم دورا ثانويا , لكن الحقيقة هي أن هذه النضالات تفتح إمكانيات هائلة جدا أمام حركة عمالية مستقلة جماهيرية . الآن و في مواجهة الاحتلال السعودي العسكري , أعلن الاتحاد النقابي الرئيسي في البحرين عن إضراب عام بينما يغلق المتظاهرون الطريق الرئيسية في هذا البلد الصغير . العمال في تونس في مدينة متلاوي المنجمية تصادموا مع قوات الشرطة دفاعا عن مطالبهم , و مات عاملان بالفعل حتى اللحظة , بينما أعلنت الحكومة التونسية حظرا للتجول في المدينة . الأمور تصبح أكثر صعوبة في ساحة التغيير في صنعاء , في اليمن , حيث يبدو أن الديكتاتورية تحضر لمجزرة كبيرة .
إن المحتجين في ليبيا , اليمن و البحرين سيصبحون أكثر قوة و جرأة إذا شعروا و سمعوا عن تضامنكم : بهذه الطريقة يمكن لدعمكم أن يحدث فرقا حقيقيا في هذه اللحظة الحرجة من نضال الجماهير العربية في سبيل حريتها .

 

كلمات موجهة إلى بلطجي أو لعنصر مخابرات

مازن كم الماز

مهداة لمن سقطوا في ساحة التغيير , و دوار اللؤلؤة , لسهير الأتاسي , ناهد بدوية , سعد جودت سعيد , و لملايين لا أعرفها

اضرب بكل ما أوتيت , اضرب , فلا حساب على الآهات أو الدماء , اضرب , فأنت سيد الأكوان , اضرب كما تشاء , و حيث تشاء , اضرب , لا تسمح للغد أن يتقدم , لا تسمح لغد الفقراء أن يأتي , أن يشرق , فغد الفقراء ليس فيه أمن دولة و لا مخابرات جوية و لا أمن سياسي و لا أمن عسكري و لا فرع فلسطين و لا سجون , و لا سادة و لا عبيد , أنت نفسك غير موجود في هذا الغد , مطرود , ملعون , في غد الفقراء , فاضرب , اضرب , لأنك غدا أنت ملعون , سيشرق غد على هذا الشرق لست فيه , ولا سيدك , و لا سيد سيدك , و لا سجن سيدك , و لا قصر سيدك , فاضرب , أنت غدا ملعون , هذه فرصتك الأخيرة , فاضرب بقوة , بكل ما تملك من قوة , لأن العبيد , أجساد العبيد , اليوم فقط ملكك فاضرب , لأنك مطرود , من غد الفقراء , لن تجد سجنا تحرسه و لا ربا تخدمه و لا عبدا تضربه , فاضرب الآن بكل ما تستطيع , لا تسمح لغد الفقراء أن يأتي , فالدم ليس عليه حساب , دم الفقراء ليس عليه حساب , حتى يأتي غد ليس ككل يوم , يوم ليس كالأيام , تحاسب فيه على كل الدماء , إياك و الحساب , فالفقراء اليوم دمهم رخيص , و في الغد , أنت و سيدك و سيد سيدك و أولاد سيدك و قصر سيدك لا تساوون حذاء طفل في بغداد أو صنعاء أو دمشق , أنتم اليوم السادة و نحن العبيد , و غدا أنتم لا شيء و نحن الأحرار , فاضرب , لأنك اليوم سيد , و كلب السيد , و غدا لا سادة بعد الغد , فاضرب , توهم , و سيدك , أن الدبابة و الهراوة و المدفع قادرة على أن تمنع الغد من أن يأتي , أنك قادر , و سيدك , على تأبيد عبوديتنا و على منع حريتنا إلى الأبد , توهم أنك و سيدك باقون إلى الأبد , هنا , في هذا الشرق , اضرب , كم عبدا تستطيع أن تضرب ؟ عبد ؟ عبدين , ثلاثة عبيد , أربعة , عشرة , انظر حولك , أنت محاصر بالعبيد , مليون , عشرة ملايين , عشرين , إياك أن يشعر العبد بارتباك يديك و أنت تضرب , إياك أن ترفع عينك عنه و أنت تضرب , احذر , المزيد من العبيد , المزيد من العبيد , اضرب فأمامك اليوم ملايين العبيد , لكنك لا تستطيع ضرب ملايين العبيد , و لا حتى قتل ملايين العبيد , أنت تستطيع فقط أن تضرب و تخيف المستسلمين , هذا شرق ليس فيه مستسلمين بعد اليوم , أنت تخيف العبيد , و هذا شرق ليس فيه عبيد بعد اليوم , فاضرب , فمع كل ضربة , مع كل شهيد , يقترب غد الفقراء , فجر الحرية يقترب , أما أنت فاضرب , فإنك غدا ملعون , ها هو الغد يقترب , فاحصد ما شئت من دمنا ثم امض , و معك سيدك , و سيد سيدك , و كلب سيدك , و أم سيدك , و أصنام سيدك , هذا شرق ليس لك مكان فيه بعد اليوم , فاضرب ثم امض , و انس أنك كنت ذات يوم في شرق تسوسه بسوطك لصالح بعض الطغاة , فذلك الشرق قد أصبح مثلك تماما , ماضينا الذي انتصرنا عليه و ألقينا به إلى حيث يجب , إلى مزبلة التاريخ , أمامك اليوم فقط فاضرب ……

الشعب السوري قادر على أن يهزم الطاغية



مازن كم الماز

 

يخطأ الطغاة دائما التقدير , لأنهم ببساطة لا يفهمون , ما يفهمه الطغاة أو ما يعتقده الطغاة هو أن العصا تكفي دائما لقهر الشعوب , يظن الطغاة أن الحياة

 

خلقت هكذا , سادة و عبيد , فقراء و أغنياء , يخطأ الطغاة التقدير أساسا لأنهم لن يفهموا أبدا ما الذي يمكن لشعب مقهور أن يفعله , يعتقد الطغاة أن الجياع و المقهورين يثورون , في أماكن أخرى , بسبب ضعف في قمع و وحشية نظام آخر , يخطأ الطغاة لأنهم يعتقدون أن ما هو صحيح في أيام الصمت و الخنوع , في زمن الركود , يبقى صحيح أيضا في زمن الثورة , يخطأ بشار الأسد اليوم إذا كان يعتقد أنه و أجهزة أمنه و بلطجيته و الجلادين الذين “يحمونه” هم أقوى من الشعب السوري … في أيام الثورة , عندما تنهض الشعوب , عندما ينهض العبيد , ينكشف ضعف الطغاة و عجز كلابهم و مرتزقتهم , ينكشف غباء الطغاة , و عجز الطغاة و وهم الطغاة , بأن الذل و القهر و القمع أشياء مثلهم , ستبقى إلى الأبد , نولد معها و نموت معها , لكن العبيد يكتبون اليوم قصة جديدة , ملحمة جديدة للحرية في هذا الشرق و هذا العالم , العبيد , الرعاع , السفلة , المقهورون , هم اليوم من يكتب التاريخ لا الطغاة , و لا جلاديهم و لا مجرميهم , خرج السوريون اليوم و إنها مسألة وقت حتى يرى بشار , و يفهم أخيرا , ما يمكن لشعب مقهور أن يفعله , في زمن الثورة , زمن الشعوب الثائرة , زمن ولادة حريتنا , لا مكان للطغاة , في وطن من الأحرار المتساوين لا مكان للطغاة , و ليس أمام الطغاة إلا أن يرحلوا , فارحل يا بشار , جاء وقت الفقراء اليوم , إنه تاريخ ثورتنا , و حريتنا , فليس أمامك إلا أن ترحل ….

 



خواطر في الثورات العربية المعاصرة 2

مازن كم الماز

خواطر في الثورات العربية المعاصرة 2
الثورة اللبنانية

عندما تقوم الجماهير بالثورة بسبب مقتل رفيق الحريري فإن ما تحصل عليه هو محكمة لقتلة رفيق الحريري فقط لا غير , عدد واحد محكمة , و محكمة دولية تحديدا كرمال عيون الحبايب ,
درس مهم من ثورة الأرز , أنه عندما تقوم الجماهير بثورة أرز , عليها أن تتأكد أن يترك أولئك الذين تولوا توزيع الأرز بعد الثورة أن يتركوا شيئا منه للناس العاديين , الشيء الوحيد الذي يبقي اللبنانيين العاديين في حالة رضا , أو قناعة نسبية عن وضعهم الحالي , هو المقارنة بالجار السوري , تماما كما يفعل الكوريون الجنوبيون عندما يشعرون بنفس الرضا عندما يقارنون أنفسهم بجيرانهم الشماليين , فمهما كان الوضع مأساويا لن يبلغ مستوى مأساويته عند جيرانهم , إذا كان النظام الطائفي , و زعماء الطوائف يأكلون معظم أرز الناس العاديين في لبنان فإن نظام بشار يلتهمه جميعا , بعد أن يجوع بشار الأسد السوريين يخاطبهم إعلامه قائلا : أنا سوري , أه يا نيالي ….. الواقع أن ما يحصل هو التالي : أنا سوري , إذا أنا لا آكل الأرز , أنا سوري , و النظام يأكلني و يأكل عمري و تعبي , و آه يا نيالي ,
لا أستطيع أن أتخيل سعد الحريري و هو يأمر مقاتلي و قبضايات تيار المستقبل بالدفاع عن مارون الراس أو بنت جبيل , أما أن يفعلها سمير جعجع و أن يموت القواتيون عند بوابة فاطمة فعندها سأؤمن بأن هناك إله في السماء
إذا كان سلاح حزب الله موجها إلى الداخل , أي إلى الحريري فسلاح الحريري و جعجع و الجميل , ما تيسر لهم من سلاح , موجه إلى الداخل , تحديدا إلى رؤوس جماعة حزب الله , تماما كما هو سلاح حزب الله موجه لرؤوس جماعة الحريري و جعجع , و الطرفان يريدان أن يوجه الجيش اللبناني سلاحه ضد الطرف الآخر , الجيش اللبناني لا يوجه سلاحه ضد أحد , أو لنكن أكثر دقة , فقط ضد من يمكن أن يحتج على أنه لا يأكل ما يكفي من الأرز
في النظام الطائفي طائفتك لعنة تلاحقك من المهد إلى اللحد , عندما تلقن أو عندما يخبروك اسم طائفتك فإنك تلقن أيضا اسم من سيأكل أرزك يا عزيزي , و حتى لو قررت أن تغير دينك أو طائفتك فهذا يعني أن تغير اسم من سيأكل أرزك فقط ….. ما فعله اليساريون اللبنانيون المسيحيون تحديدا منهم في خضم الحرب الأهلية هو أنهم انسلخوا عن طوائفهم لكنهم لم يصبحوا غير طائفيين , لقد غيروا فقط أسماء من يجب أن يأكل الأرز , و هذا بالضبط ما يفعله أغلب الشيعة الذين ينتقدون حزب الله اليوم أو السنة الذين ينتقدون الحريري , الخ
النظام الطائفي يوصل البشر إلى نهاية مسدودة , طريق يعود دوما إلى حيث يبدأ , إلى الطائفة , الزعيم الذي لا تستطيع أن تعطس في وجهه , يمكنك أن تنتقد كما تشاء أيا كان لكن عندما يتوجب عليك أن تنتخب فليس أمامك إلا سيد واحد , أو اثنان في أفضل الحالات , و عندما يتعين عليك أن تموت فلديك خيار واحد كي تموت في سبيله , نفس الزعيم الذي صعد على أكتافك إلى ما يسمى بمجلس النواب , في النظام الطائفي زعماء أو وجهاء الطوائف المتخاصمة ليسوا بديلا , لا الحريري بديل عن حزب الله و لا حزب الله بديل عن الحريري , في النظام الطائفي يكمل هؤلاء بعضهم البعض , فحزب الله و بري هم السادة المتوجون للشيعة لأن الحريري هو سيد أهل السنة و الجماعة , و العكس صحيح , البديل الحقيقي في النظام الطائفي هو ألا تكون طائفيا , ألا تموت و تخضع لزعيم طائفتك و أيضا ألا تدعه يأكل أرزك , لكن للأسف لا يمكنك أن تفعل هذا لوحدك , عليك أن تفعل هذا مع الناس العاديين , الذين يحصلون على أقل حصة من الأرز , من الطوائف الأخرى , عندما تستطيعون فعل ذلك سيمكنكم أن تأكلوا الكثير من الأرز معا …
لا يمكن فهم عنتريات جعجع و اعتباره لنفسه مقاوما هو الآخر إلا بسبب جرائم النظام السوري السابقة في لبنان , لقد كان وجود قوى النظام السوري العسكرية و الأمنية ثقيلا على اللبنانيين العاديين , فظا و مكروها بامتياز , لكن كما هو حال صراع حزب الله مع إسرائيل فإن الصراع الطويل بين جعجع و من سبقوه من أبطال المارونية السياسية الميليشيويين و بين النظام السوري لا علاقة له لا بهذه الغلظة و لا بالجرائم التي مارسها النظام السوري في لبنان , إنه صراع إيديولوجي , إذا كان صراع حزب الله في حقيقته هو مع مشروع دولة إسرائيل نفسها فصراع جعجع هو مع أي مشروع لتمدد أو حتى مجرد نفوذ قوة عربية حتى لو لم تكن إسلامية الهوى و الطابع أو معادية للإسلاميين كما هو حال النظام السوري , المضحك في الموضوع أنه و الجنرال يستمدان شرعيتهما من نفس المصدر , جعجع يخوف الموارنة مع الأصولية الشيعية و الجنرال يخوفهم من الأصولية السنية , تماما كما يخوف الحريري السنة في لبنان من مشروع شيعي رافضي و يحدثهم عن مزايا ولاية الفقيه الوهابية بدلا من مزايا ولاية الفقيه الشيعية , بينما أن جعجع مستعد في الواقع ليضع يده بيد مجاهدي الشمال السلفيين ضد “العدو المشترك” الرافضي المدعوم سوريا و إيرانيا و … هل ما تزال قادرا على أن تفهم أي شيء بعد كل هذا ؟ إذا كنت تستطيع حل كل هذه الألغاز فدعني أقول لك بكل ثقة : ابتسم أنت لبناني ….

فجر الحرية القادم

مازن كم الماز

أتصفح كل موقع و مكان , أستمع إلى كل ما يقال , أو كل ما يمكنني أن أقرأه أو أسمعه , ليس هناك إلا الصمت , فلا البحرينيين يعيشون تحت إعلان طوارئ و لا القوات السعودية التي دخلت لدعم ملك مكروه من شعبه تحمل بنادق مصوبة لصدور البحرينيين بالضرورة .. لقد تمكن البترودولار من فرض الصمت , على البي بي سي ( العربية , لأنهم على البي بي سي الانكليزية يستخدمون لغة مختلفة تماما , كأنها و البي بي سي العربية لا تتبع نفس بيت المال أو المختبر السياسي الفكري الإعلامي ) وصلت الصفاقة بأن تفرغ المذيع المبتسم ذا الوجه الوسيم لمهاجمة المعارضة و إيران و كأن القوات التي دخلت إلى الرفاع هي إيرانية و كأن البحرين ملك لذلك المجرم من آل خليفة لا لمئات الآلاف من أبنائها … لكن المثير هو أن البحرينيون أنفسهم لا يستغيثون , لا يطلبون منا , أو من أي كان النجدة , حتى لو كانوا يتعرضون لسيل من الرصاص الحي و المطاطي و الغاز المسيل للدموع , هل هذا العالم قاس , متحجر القلب لهذه الدرجة , لدرجة أن الضحية تفضل أن تقاتل و تموت بصمت بينما صخب السادة و نعيق غربانهم يضج في كل مكان …

بعد الحماسة الأولية للسيدة كلينتون و الأنباء عن حشد عسكري وشيك قرب السواحل الليبية , تغيرت نبرة الأمريكان تماما , لا يمكن لأحد إلا أن يرى , إلا في حالات العمى المستفحل الناتج عن قناعة مدعمة بالبترودولار أن السلطة أو أمريكا أو إله ما على حق مطلق مهما فعل , أن أمريكا تحديدا تترك الآن الشعب الليبي ليذبح على يد جلادي القذافي , برا و بحرا و جوا , على الأغلب أنه لم يرق لها أن يرفض الثوار تدخلا على الأرض يعني استيلاء أمريكا على بترول ليبيا الذي أراده الثوار لهم , لا لأمريكا و لا للقذافي , اجتماعات تتلوها اجتماعات , و الجميع ينتظر أن يطبق جلادو القذافي على عنق بنغازي الثائرة لكي يتنفسوا الصعداء , من روسيا و الصين إلى أمريكا مرورا ببيرلوسكوني , عار أوروبا , إلى بشار الأسد الذي تؤكد التقارير أن مرتزقته يقاتلون إلى جانب جلادي القذافي و ربما يكونون هم من يقود تلك الطائرات التي تزرع الموت في بيوت المضطهدين و المقهورين في ليبيا , وحده القيصر البروسي , السعودي , الذي يتصرف كما كان القيصر الروسي أو البروسي في ثورات القرن 19 الأوروبية كمركز للرجعية و العداء المطلق للحرية و كداعم أساسي لكل الطغاة و الذي حاول إدامة نظام مبارك حتى آخر لحظة عندما رفض الجيش تنفيذ أوامره بارتكاب المجزرة ضد ساحة التحرير , يتمنى سقوط الجلاد القذافي , بسبب خلافات شخصية على الأغلب لا علاقة لها بحالة الليبيين أو بثروة القذافي نفسه … في 1986 قصفت أمريكا باب العزيزية نفسه عندما كان سلاح الجو الليبي و دفاعاتها المضادة أقوى و تعتبر حديثة نسبيا , بينما هي اليوم متهالكة و لا تستطيع إلا تنفيذ أوامر قتل المدنيين و الثوار فقط , لكن في البحرين , لا تحتاج أمريكا لأية استعدادات لوجستية , فهناك أسطول أمريكي بأكمله ( الأسطول الخامس ) يرابض هناك , و الألف جندي سعودي لم يكونوا ليدخلوا لولا موافقة أوباما و علمه , هذا عالم قذر , عالم السادة هذا , و أكثر ما ينضح بالقذارة فيه هو أن الفقراء لهم وجود إعلامي فقط , فارغ , ديكور , عبيد , تسقط دماء الفقراء منذ شهور في هذا الشرق غزيرة , حميمة على قلوبنا , و عدالة سادة و أثرياء الأرض في المحاكم الدولية لا ترى و لا تسمع و لا تتكلم , الصمت هو أفضل الكلام , لا تسوق هذه العدالة العوراء ملك البحرين المجرم و لا علي عبد الله صالح رئيس البلاطجة في شبه الجزيرة و لا كل من يدعم إجرامهما ضد شعوبهم , و غيرهم و غيرهم و لا حتى تزعجهم بكلمة , سحقا , و يثير المزيد من الغضب كلمات ابن الحريري عن محكمة والده و يثير السخط لدرجة الانفجار أن أحد أكبر القتلة في تاريخ لبنان يقف إلى جانب هذا الحريري و يتحدث بكل صفاقة عن دولة و جيش , بطل الميلشيا هذا الذي سجل اسمه بدماء ضحاياه في تاريخ لبنان , حسنا , هذه هي الثورة أيها الرفاق , أن تنتزع حقك في الحياة , حريتك , من أفواه الكلاب و الضباع و الذئاب , هذا صراع لا ينفع فيه الاستجداء و لا التوسل و لا التردد , مات رفاقنا هنا و هناك , و اليوم لا تراجع , إما أن نهدم هذا العالم لنبنيه من جديد , لنخلقه من جديد , و لنخلق معه أنفسنا , سادة , لا عبيد , أو أن نعود للخنوع و للعبودية , ليس أمامنا أي خيار آخر , باختصار علينا أن نقاتل , لا استجداء اليوم , و ليذهب الطغاة و أزلامهم و جلاديهم و كلابهم إلى الجحيم , أنا أعتقد أن الثورة ما تزال تملك زمام المبادرة في كل مكان , يستطيع أبناء طرابلس الغرب اليوم و بقية مدن المنطقة الغربية أن ينتهزوا فرصة غياب قوة النخبة في جيش جلادي القذافي و أن ينتفضوا من جديد , و خاصة إذا تمكنت بنغازي من الصمود , و قبلها أجدابيا , و من استدراج قوات القذافي لحرب شوارع طويلة و مكلفة , إن بطولات و تضحيات بنغازي قد تكون أحد أكثر أسلحتها أهمية في الأيام القادمة , و الشباب اليمني الرائع على وشك الانتصار , عليه فقط أن يصم أذنيه عن سماع نصائح أوباما و الإعلام السعودي , و العربي عموما , و الألف جندي سعودي عليهم أن يتسلحوا بأكثر من فتاوي تكفير الحرية و تكفير الشيعة و بأكثر من أسلحة القمع التي يحملونها ليقضوا على عزيمة الشباب البحريني … دمشق اليوم تتحرك , تنفض الغبار عن صوتها و إرادتها , و تنهض , و بغداد , و السليمانية , و الكوت , و الموصل , و بيروت , و صحارى و مسقط , يهز هذا الشرق قيوده و ينهض , فليرتعد الطغاة … إنه فجر الحرية فليذهب الطغاة إلى الجحيم ……

الأناركية

احمد زکی

الدولة والثورة
وهكذا تختلف الماركسية عن الاناركية في العديد من الاوجه، الا ان هناك بعض التماثل بين المدرستين في عدد من النقاط الفكرية والمنهجية. تشترك الماركسية مع الاناركية في اهداف طويلة المدى (المجتمع الاشتراكي بلا دولة)، وفي العداء لنفس الخصوم السياسيين (المحافظون واليمينيون واحيانا الليبراليون)، ونفس التحديات البنيوية (الرأسمالية والحكومات القائمة). بل طالما شارك العديد من الماركسيين في ثورات اناركية والعديد من الاناركيين في ثورات ماركسية.
ومع ذلك، يختلف الاناركيون مع الماركسيين في كثير من القضايا الهامة ومنها: الدولة، والبناء الطبقي للمجتمع، ومنهج الحتمية التاريخية.
النموذج الكلاسيكي والدامي فعلا للصدام بين الاناركية والماركسية حدث اثناء الحرب الاهلية الروسية (1918 – 1921) في اوكرانيا: قوات الانصار الماخنويين تعرضت للتدمير والقتل والاعتقال على ايدي الجيش الاحمر البلشفي في الوقت الذي كان يحارب فيه هذان الجيشان معا ضد القوات البيضاء وقوات الغزو الالماني النمساوي؛ وحدث ايضا اثناء الحرب الاهلية الاسبانية 1936: الماركسيون الثوريون من حزب العمال للتوحيد الماركسي (POUM)، والسينديكاليون الاناركيون في كونفدرالية العمل الوطنية (CNT)، واناركيو الفدرالية الاناركية الايبيرية (FAI) ثلاثتهم واجهوا القمع وتعرضوا لهجمات القوات المسلحة للحزب الشيوعي الاسباني والكتيبة الدولية الستالينية في الوقت الذي كان الجميع يحاربون ضد الحركة الفاشية بقيادة الجنرال فرانشيسكو فرانكو. هذا بعيدا عن التشهير بالعمالة للقيصر على غير اساس الذي وجهه ماركس وانجلز اكثر من مرة لباكونين في الاممية الاولى، وتصالحوا بعدها لبعض الوقت. الا انه على الجانب الايجابي، تواجدت تاريخيا حركات هجين طابقت فكريا ما بين المدرستين: مثل حركات الماركسيين التحرريين وانصار التسيير الذاتي.
الدولة:
بالنسبة للماركسيين، اي دولة هي بشكل اصيل ديكتاتورية طبقة على باقي الطبقات الاخرى. لذلك، في اطار النظرية الماركسية، فور ما يختفي التمايز بين الطبقات، سوف تختفي الدولة ايضا.
في اشهر مؤلفات لينين بعد قيام الثورة الروسية في فبراير 1917، الدولة والثورة ، يستند لينين بشدة على شروح لافكار ماركس وانجلز، مدافعا عن خطته للاستيلاء بجهاز حزبه السري على سلطة جهاز الدولة الامبراطورية الروسية المتهاوية تحت ضربات جيوش المحور في الحرب العالمية الاولى، وفراغ السلطة الناتج عن الثورة ضد القيصر وخلعه في ثورة فبراير 1917 الشعبية. في هذا الكتاب يستشهد لينين بفقرة كاملة من كتاب فردريك انجلز الاشهر “اصل العائلة والملكية الخاصة والدولة”، قام هو نفسه بترجمتها عن الالمانية، عن مفهوم الدولة في النظرية الماركسية:
“لذلك، فالدولة بلا أي قصد اخر هي سلطة مفروضة على المجتمع من خارجه؛ بالضبط كما هي اقل من ان تكون “حقيقة الفكرة الاخلاقية‘، و’صورة وحقيقة العقل‘، بنفس القدر الذي يستمر هيجل في وصفها به. بالاحرى، هي نتاج مجتمع وصل الى مرحلة معينة من التطور؛ انها القبول بأن هذا المجتمع قد وقع في حبائل تناقض مع نفسه غير قابل للحل ، وان هذا المجتمع قد انشق في تناقضات لا يمكن تسويتها، ولا يمتلك حولا ولا طولا للتخلص منها. ولكن بسبب هذه التناقضات، تلك الطبقات بمصالحها الاقتصادية المتصارعة، قد لا تستهلك نفسها ولا مجتمعها في صراع لا طائل من وراءه، ويصبح من الضروري ان تمتلك سلطة، تبدو من الظاهر أنها قائمة فوق المجتمع، تقوم بتطبيب اثار هذا الصراع وتخفيف ويلاته والاحتفاظ به داخل حدود ’النظام العام‘؛ وهذه السلطة، التي تخرج من المجتمع ولكن تضع نفسها فوقه، وتغترب بنفسها اكثر فأكثر عنه، هي الدولة “.
وبهذاالاستشهاد يؤكد لينين حجته في مواجهة خصومه، فيقول: “وطبقا لماركس، الدولة هي اداة الحكم الطبقي، اداة لاضطهاد طبقة بواسطة طبقة اخرى؛ انها عملية خلق ’للنظام العام‘، الذي يعطي شرعية وديمومة لهذا الاضطهاد عن طريق التحكم في درجات سخونة واشتعال الصراع بين الطبقات. ومع ذلك، في رأي السياسيين البرجوازيين الصغار[هنا يقصد لينين ماركسيي الدولية الثانية في اوروبا وروسيا]، النظام العام يعني التصالح بين الطبقات، وليس عدم اضطهاد طبقة بواسطة طبقة اخرى؛ وأن تخفف درجة اشتعال الصراع يعني تصالح الطبقات وليس حرمان الطبقات التي تخضع للاضطهاد من وسائل واساليب كفاحية محددة للاطاحة بظالميهم “.
ومع ذلك، هناك بعض التطابق في الاراء بين الاناركيين والماركسيين. يؤمن الاناركيون ان اي دولة سوف تهيمن عليها لا محالة نخبة سياسية اقتصادية، لذلك تتحول الدولة فعليا فتصبح اداة للسيطرة الطبقية.
وعلى خلاف الاناركيين، يؤمن الماركسيون أن القمع الطبقي الناجح دائما ما يتطلب تقريبا طاقة فائقة للعنف هي الدولة، وان المجتمعات السابقة على الاشتراكية كانت تحكمها طبقات اقلية، لذلك في النظرية الماركسية اي دولة غير اشتراكية تمتلك نفس الخصائص التي ينسبها الاناركيون والاخرون لكل شكل من اشكال الدولة.
المرحلة الانتقالية
تقود نظرية الدولة مباشرة الى السؤال العملي عما يكون عليه شكل المرحلة الانتقالية الى مجتمع حر بلا دولة في رأي كلا من الاناركيين والماركسيين بوصف هذا المجتمع هو الهدف النهائي لكلا منهما.
يؤمن الماركسيون ان الانتقال الناجح للمجتمع الشيوعي المتحرر من الدولة يتطلب قمع الرأسماليين وإلا فإنهم سوف يعيدون تأسيس سيطرتهم الخاصة بعد ان يستجمعوا قواهم مرة اخرى، ولذلك يرى الماركسيون ضرورة لوجود دولة في شكل ما يديرها العمال (ديكتاتورية البروليتاريا) لتأمين المرحلة الانتقالية. يعارض الاناركيون هذا المنطق بقولهم ان “دولة العمال” التي يدافع عنها الماركسيون هي استحالة منطقية، حيث انه فور ان تبدأ اي جماعة في الحكم بواسطة جهاز الدولة، فانهم يتوقفون عن كونهم عمال (هذا اذا كانوا كذلك من الاصل) ويتحولون الى طغاة. ايضا انتقد معظم الاناركيين فكرة ديكتاتورية البروليتاريا على كل من المستوى النظرى والتاريخي. بشكل اساسي، ما يقال لدحضها هو انها ليست الطبقة التي تستولى على السلطة ولكنها الاقلية، اي الحزب بالمعنى اللينيني، وبهذا الشكل تصبح ديكتاتورية ضد البروليتاريا. انهم يشيرون الى التدابير التي اتخذها لينين وتروتسكي وستالين اثناء الثورة الروسية منذ البدايات الاولى عام 1917 كدليل على ذلك. يدعم الاناركيون حججهم بالاشارة الى طبيعة الاتحاد السوفيتي الغير ديموقراطية وطبيعة الدول الاخرى التي تميز نفسها بأنها “ماركسية”، بينما يدعم الماركسيون حججهم بالاشارة الى هزيمة الثورات التي قادها الاناركيون مثل هزيمتهم ابان الحرب الاهلية الاسبانية.
لذلك كلا من الاناركيين والماركسيين يرغبون في “سحق” الدول القائمة. بعد “تحطيم” الدولة، يسعى الماركسيون الى استبدالها فورا بدولة عمال، اي بديكتاتورية البروليتاريا، او تنظيم العمال كطبقة حاكمة. من هذه النقطة، كما عبر عنها فردريك انجلز، سوف تبدأ دولة العمال في الافول. وفي الاخير تتوقف عن الوجود عندما ينهزم التناقض الطبقي تماما. من الناحية الاخرى، يشعر الاناركيون ان اي اعادة خلق لاي نوع من الدولة سوف يضع السلطة في ايدي اقلية ضئيلة، ولسوف يستمر بعدها قمع الدولة. يرد عديد من الماركسيين على ذلك بقولهم ان القمع المنظم والمركزي ضد الطبقة الرأسمالية سوف يكون ضروريا بشكل مطلق، وان البروليتاريا تستطيع تحقيق ذلك على اكمل وجه عن طريق استخدام الدولة. يندمج الموقف الماركسي مع موقف الاناركية في احد نهايات الطيف، حيث ان الاناركيين لا يتفقون بين انفسهم حول اذا ما كان نظاما لمجالس العمال الديموقراطية يحتكر العنف هو نفسه شكل من اشكال الدولة ام لا، بينما يختلف الماركسيون بين بعضهم البعض اختلافا واسعا على الشكل الذي تتخذه ديكتاتورية البروليتاريا.
الاحزاب السياسية
مسألة الاستيلاء على السلطة تستدعي معها مسألة الاحزاب السياسية، وهي ايضا القضية التي تفرق بين الاناركيين والماركسيين. معظم الماركسيين يرون في الاحزاب السياسية ادوات مفيدة بل انها حتى بالنسبة لهم اداة ضرورية للاستيلاء على السلطة، حيث انهم يرون ان الجهود التي يتم تنسيقها بشكل مركزي هي امر ضروري لهزيمة الرأسمالية ودولتها هزيمة تامة؛ وإن الاحزاب ضرورية ايضا من اجل تأسيس هيئة قادرة على الاحتفاظ بالسلطة.
باختصار يمثل الحزب عند الماركسيين فكرة الطليعة السياسية التي استخدمت بشكل واسع ورحب جدا في القرن التاسع عشر لوصف أي فرد، يعتبر من وجه نظر ما، ساعيا لاكتشاف طريق يؤدي إلى مجتمع مستقبلي حر. صك هنري دو سان سيمون مصطلح ’الطليعة‘ في سلسلة من مؤلفاته كتبها في أخريات أيام حياته. وحذا حذوه هذا الذي كان في احد الأوقات سكرتيره واحد حوارييه (وفيما بعد، أنكى منافسيه، أوجست كونت)؛ سان سيمون كان يكتب في ظل الثورة الفرنسية، وكان يسأل بالأساس ما هو الخطأ الذي وقع: انتقال مجتمع العصور الوسطى الإقطاعي الكاثوليكي إلى مجتمع ديموقراطي صناعي عصري لماذا يؤدي هذا الانتقال إلى إنتاج كل هذا العنف والانخلاع الاجتماعي الهائل؟ رأى سان سيمون في الفنانين طليعة مجتمعه الجديد بينما رأى اوجست كونت في العلماء طليعة مجتمعه الفاضل.
الا انه ماركس، هو الذي بدأ في إحداث تغيير له وزنه لمعنى الطليعة عن طريق تقديم فكرته القائلة بأن البروليتاريا هي الطبقة الوحيدة الثورية حقا لأنها ليس لديها ما تخسره عند الغاء الطبقات – هو لم يستخدم حرفيا مصطلح “الطليعة” في كتاباته. والنتيجة، “نعرفها جميعا! فكرة حزب الطليعة الذي ينذر نفسه لكلا من تنظيم هذه الطبقة الأكثر اضطهادا المختارة كوسيط لحركة التاريخ ومن اجل منحها مشروعا فكريا، ولكنه أيضا، حزب الطليعة الذي ينذر نفسه لإشعال شرارة الثورة من خلال استعداده لاستخدام العنف، هذه الفكرة أوضحها لأول مرة لينين في 1902 في كتابه ’ما العمل؟‘ وتردد صداها إلى ما لا نهاية منذ ذلك الحين “.
ففي وقت كتابته “ما العمل؟”، كان لينين شابا روسيا مهاجرا عاد من منفاه في سيبريا ويعيش في جنيف بسويسرا. كتاباته في الصحيفة الروسية الاشتراكية الديموقراطية “الايسكرا” (الشعلة)، وضعته في مركز الجدل المحتدم في ذلك الوقت بين الدوائر الماركسية الاوروبية حول افكار ادوارد برنشتاين “المراجعة او النقدية” للماركسية. كانت المشكلة اكثر الحاحا بالنسبة للينين الشاب حيث ان الماركسيين الروس المنفيين، المعروفين باسم الاقتصاديين، كانوا يدافعون عن افكار برنشتاين بحجة ان الحزب الديموقراطي الاجتماعي الروسي يجب ان يركز على العمل الشرعي الذي يستهدف التحسن الاقتصادي للطبقة العاملة الروسية. رد لينين على ذلك كان جدلا كلاميا ساخنا وضع فيه الخطوط العريضة للحزب الثوري الماركسي، كتاب “ما العمل”.
يشرح لينين هذا المشهد بقوله: “ليس سرا ان هناك تياران قد تكونا في الاممية الاشتراكية الديموقراطية اليوم. يشتعل لهيب الصراع بين هذين التيارين الان، وتتحول اوراق “قرارات الهدنة” الى رماد ودخان. جوهر الاتجاه الجديد، والذي يتبنى اتجاها “نقديا” ضد “التحجر العقائدي البائد” للماركسية، يعرضه برنشتاين بما يكفي من وضوح، ويعلنه ميليران” .
تيار “المراجعة – نقد الماركسية” الذي تزعمه برنشتاين احاط نفسه ببطارية كاملة من “الحجج المنطقية”، ورفض فكرة الافقار المتنامي واشتداد التناقضات داخل المجتمع الرأسمالي، ولم ير تناقضا من حيث المبدأ بين الاشتراكية والليبرالية. ومن هنا رفض هذا التيار المراجع فكرة الصراع الطبقي وبالتالي ديكتاتورية البروليتاريا على ارضية انه لا يمكن تطبيقها على مجتمع ديموقراطي بشكل خاص لأن الحكم فيه يتم طبقا لارادة الاغلبية. وهي النتيجة التي رأى لينين فيها “ليس اكثر ولا اقل من تنويعة جديدة من الانتهازية”… وان ما تتدعيه من “حرية الانتقاد” هو الحرية في تحويل الاشتراكية الديموقراطية الى حزب ديموقراطي للاصلاحات الاجتماعية.
ومن هنا جاءت اول اسس اللينينية: “دون نظرية ثورية لا يمكن ان تكون هناك حركة ثورية… دور مناضلي الطليعة لا يمكن الوفاء به الا بواسطة حزب ترشده اكثر النظريات تقدما” …
حجر الاساس الثاني في اللينينية كانت مقدماته تحليل لينين للاضرابات العمالية في سان بطرسبورج التي حدثت بشكل منهجي خلال تسعينات القرن التاسع عشر في سان بطرسبرج. في نظر لينين، كانت هذه الاضرابات في حد ذاتها، ببساطة كفاح نقابي، تمثل علامة على استيقاظ التناقضات بين العمال واصحاب العمل، ولكن لم يصبح العمال بعد، ولا يمكنهم ان يكونوا على وعي بالتناقضات التي لا يمكن حلها بين مصالحهم وبين كامل النظام السياسي والاجتماعي الحديث. بهذا المعنى، حكم لينين على اضرابات التسعينات، رغم التقدم الهائل الذي تمثله مقارنة “بالتمردات” المبكرة، بأنها “تظل حركة عفوية صرف”.
ترى اللينينية انه لا يمكن ان ينشأ وعي اشتراكي ديموقراطي وسط العمال من تلقاء انفسهم، بل يجب ان يجلب اليهم هذا الوعي من خارجهم: “تاريخ كل البلدان يظهر ان الطبقة العاملة، من خلال جهودها هي الحصرية، لا تستطيع سوى تطوير وعيا نقابيا فقط، اي، الاقتناع بضرورة الاتحاد والتجمع في نقابات، ومحاربة اصحاب العمل والسعي الحثيث لاجبار الحكومات على تمرير القوانين الضرورية لتشريعات العمل، الخ.
“…مذهب الاشتراكية الديموقراطية النظري نهض بشكل مستقل تماما عن النمو العفوي لحركة الطبقة العاملة، نهض كنتيجة طبيعية وحتمية لتطور الفكر وسط النخبة المثقفة الاشتراكية الثورية… ومن هنا، لدينا كل من النهوض العفوي لجماهير العمال، النهوض لحياة واعية وكفاح واع، ولدينا شباب ثوري، مسلح بالنظرية الاشتراكية الديموقراطية، شغوف لبناء اتصال بالعمال… ”
وبالتالي يصل لينين الى اكتشافه المؤسس وهو الحزب الثوري: “الكفاح السياسي للاشتراكية الديموقراطية هو كفاح اكثر تكثيفا واكثر تركيبا بكثير من الكفاح الاقتصادي للعمال ضد اصحاب العمل والحكومة. وبالمثل (فعليا لهذا السبب)، تنظيم حزب اشتراكي ديموقراطي ثوري يجب ان يكون حتميا نوع مختلف عن شكل تنظيم العمال من اجل كفاحهم الاقتصادي هذا…
“انا اشدد على:
1) لا يمكن لحركة ثورية ان تتحمل الصعاب وتبقى دون وجود منظمة ثابتة من قادة يضمنون الاستمرار؛
2) كلما جذب الكفاح العفوي جماهير اعرض، لتشكل اساس الحركة ولتشارك فيها، كلما كانت الحاجة اكثر الحاحا لمثل هذه المنظمة، وكلما كانت الحاجة اعظم لمنظمة متماسكة…؛
3) وأن مثل هذه المنظمة يجب ان تتشكل من اناس منخرطين بشكل محترف في النشاط الثوري؛
4) وانه في دولة استبدادية الحكم، كلما حصرنا عضوية مثل هذه المنظمة اكثر في الناس المنخرطين باحتراف في العمل الثوري والمدربين بشكل محترف على اساليب مكافحة البوليس السياسي، كلما كان اصعب اجتثاث هذه المنظمة وتدميرها؛
5) وبالتالي كان عدد افراد الطبقة العاملة والطبقات الاخرى من المجتمع، الذين سوف يستطيعون الانضمام الى الحركة والقيام بالعمل الايجابي فيها، اعظم… ”
يرى الاناركيون في منظماتهم النقيض من الجماعات الماركسية المغلقة. ففي رأيهم اهتمام الأحزاب “المركزية الديموقراطية” الاكبر ينصب على بلورة تحليل نظرى صحيح وتام، وبناء عليه تطلب هذه المنظمات من اعضائها توحدا ايديولوجيا صارما، وتميل إلى استكمال رؤيتها التفصيلية للمستقبل، بممارسات سلطوية متطرفة داخل التنظيم فى الوقت الحاضر. بينما المنظمات التى يتحدث عنها معظم الاناركيين تتخذ شكل المجالس او الفدراليات او الكونفدراليات تمارس الديموقراطية المباشرة وتسعى لخلق اليات تحقيق الاجماع والتوافق وتبحث عن التعددية بشكل مفتوح. الجدل داخل منظماتهم هذه يركز دائما حول جولات بعينها من الحركة؛ فمن المسلم به عندهم انه لن يستطيع أى احد أبدا ان يحول أحدا أخر إلى وجهة نظره بالكامل. قد يكون الشعار، “لو أنت على استعداد للتصرف كأناركى في هذا الاتجاه فى هذه اللحظة، فرؤيتك طويلة المدى هى شأنك الخاص تماما”. يقول جريبر: “وهذا فقط يبدو معقولا: فلا احد منا يعرف إلى أى مدى سوف تأخذنا هذه المبادئ فعلا، ولا أى تركيب مجتمعى مبنى على أساس هذه الافكار سوف تبدو صورته النهائية الفعلية”. اما بالنسبة لقضية الطليعة او النخبة المثقفة والجماهير، فهم يطرحونها على نحو مختلف نوعيا، “أن التحالفات الثورية تميل دائما للارتكان إلى نوع من الأحلاف بين عناصر المجتمع ’الأقل اغترابا‘ والعناصر ’الأكثر تعرضا للاضطهاد‘. ونستطيع القول، أن الثورات الفعلية مالت للحدوث عندما تداخلت هاتان الشريحتان الاجتماعيتان مع بعضهما البعض بشكل واسع “. وهم يصرون على عدم اعطاء اي وضع خاص متميز للبروليتاريا من خلال سؤال يطرحونه وهو، “لماذا تقريبا يبدو دائما أن الفلاحين والحرفيين، وحتى لدرجة اكبر، العمال الصناعيين الذين كانوا فلاحين وحرفيين منذ وقت قريب، هم الذين أطاحوا فعلا بالأنظمة الرأسمالية؛ وليس أولئك الذين يتعيشون منذ أجيال على العمل المأجور “.
ومع ذلك، يختلف الماركسيون بين بعضهم البعض حول ما اذا كان للحزب الثوري ان يشارك في الانتخابات البرجوازية ام لا، واي دور يجب ان يلعبه الحزب بعد الثورة، وكيف يجب تنظيم هذا الحزب. من ناحية اخرى، يرفض الاناركيون بشكل عام المشاركة في الحكومات، ولهذا هم لا يشكلون احزابا سياسية، حيث انهم يرون اي هيكل ذو بناء هرمي يمتلك ميلا اصيلا نحو التحول الى كيان سلطوي وظالم. الا ان الكثير منهم ينتظمون سياسيا على اساس الديموقراطية المباشرة والفدرالية من اجل المشاركة بشكل اكثر فعالية في الكفاحات الجماهيرية وقيادة الناس نحو الثورة الاشتراكية (عن طريق ضرب النموذج ونشر الافكار).
العنف والثورة
هناك سؤال اخر يتعلق بقوة بنظرية الدولة وهو اذا ما كان استخدام العنف الواسع المنهجي امرا مقبولا ام لا؟ وكيف يتم تطبيق هذا العنف من اجل تحقيق الثورة الناجحة. منطق الاناركيين هو ان كل الدول هي دول “غير شرعية” لأن كل الدول تركن الى استخدام العنف المنهجي، في الوقت الذي ترى فيه الاناركية ان استخدام العنف على نطاق ضيق او حتى استخدام عمليات الاغتيال الذي يستهدف النخب الاجرامية قد يكون مفيدا او حتى ضروريا في بعض الظروف (الدعاية بواسطة الفعل)، اما استخدام العنف الجماعي ضد الناس العاديين – مثل ذلك الذي مارسه ستالين في عمليات التطهير الكبرى، او بواسطة ماو في الثورة الثقافية – هو امر غير مقبول ابدا وغير مبرر. معظم الماركسيين يقدمون منطقا يطرح ان العنف الواسع المدى هو امر مشروع وهكذا “الحرب العادلة” هي امر ممكن، على الاقل في ظروف محددة كالدفاع الجماعي عن النفس، مثلا ضد محاولة انقلاب او ضد غزو امبريالي. وبعض الماركسيين خصوصا الستالينيون يزيدون في منطق استخدام العنف الواسع المدى بقولهم عموما “ان الغاية تبرر الوسيلة”، وهكذا نظريا اي درجة من العنف واهراق الدماء قد تكون مبررة من اجل تحقيق الشيوعية.
من الناحية الاخرى، بعض الاناركيين يرتقون بفكرة الدفاع الجماعي بدلا من فكرة العنف واسع المدى ضد الدولة. فبعضهم يروج للاحتجاجات والمسيرات والاضرابات العامة السلمية، ويرضون عن العنف فقط كدفاع عن النفس في مواجهة التحركات العدوانية التي تقوم بها الدولة لمنع ثورات الاناركيين السلمية. الا ان العديد من الاناركيين الاشتراكيين مثل جماعات الفردويين وجماعات العون المتبادل يفضلون عادة المقاربات الاصلاحية بديلا عن العنف الصريح ويدافعون فقط عن قدر محدود من العنف في ظل شروط مشددة للغاية. الاناركية الاجتماعية المعاصرة غالبا ما تروج لعدم العنف والكفاح السلمي واستخدام العنف فقط في حالات الدفاع عن النفس، ولكنها لا تؤمن بالمقاربات الاصلاحية.
الجدل حول قضية الطبقة
كلا من الماركسيين والاناركيين تستند تحاليلهم للطبقات الاجتماعية على اساس فكرة ان المجتمع ينقسم الى عديد من “الطبقات” المختلفة، لكل واحدة منهن مصالح مختلفة طبقا لشروط وجودها المادي. ولكن الاناركيين والماركسيين يختلفون في اين يمكن لكل منهما رسم الخطوط الفاصلة بين تلك المجموعات الطبقية.
بالنسبة للماركسيين، الطبقتان الاكثر اهمية بالنسبة للتغيير الاجتماعي هما “البرجوازية” (ملاك وسائل الانتاج) و”البروليتاريا” (العمال بالاجر). اعتقد ماركس ان الظروف التاريخية الفريدة التي انشأت طبقة العمال الصناعيين سوف تدفعهم الى تنظيم انفسهم معا والاستيلاء على الدولة ووسائل الانتاج من بين ايدي طبقة البزنس، وتقوم بتحويل الاثنين (الدولة وعلاقات الملكية) الى الشكل التعاوني، من اجل خلق مجتمع لا طبقي يديره العمال من اجل العمال. ماركس يرفض بوضوح لا لبس فيه الفلاحين، و”البرجوازيين الصغار” اصحاب الممتلكات الصغيرة، و”البروليتاريا الرثة” – من العاطلين والطبقات السفلى” – بوصفهم غير قادرين على خلق ثورة.
التحليل الاناركي للطبقة سابق تاريخيا على الماركسية ويتناقض معها. منطق الاناركيين هو انه ليست كامل الطبقة الحاكمة هي التي تهيمن فعلا على الدولة، ولكنها اقلية تشكل جزء من الطبقة الحاكمة (وهكذا تدافع عن مصالحها هي)، ولكن من خلال منظور الاهتمامات الخاصة لهذه الاقلية، وخصوصا هم الاحتفاظ بكرسي السلطة. اقلية من الثوار تستولي على سلطة الدولة وتفرض ارادتها على الشعب سوف تصبح سلطوية بنفس القدر الذي تكون عليه الاقلية الرأسمالية الحاكمة، ولسوف تؤسس نفسها فعليا بوصفها طبقة حاكمة. مثل هذا الوضع تنبأ به باكونين منذ زمن طويل سابق على الثورة الروسية وسقوط الاتحاد السوفيتي .
ايضا وبشكل تقليدي دافع الاناركيون عن ان الثورة الناجحة تحتاج الى دعم الفلاحين وان الثورة تستطيع الحصول على هذا الدعم عن طريق اعادة توزيع الارض على المعدمين منهم وصغار الملاك الفقراء. وبهذا المعنى، يتضح بلا اي لبس ان الاناركيين يرفضون امتلاك الدولة للارض بالارغام، رغم رؤيتهم الايجابية للملكية التعاونية الطوعية وانها اكثر كفاءة ومن هنا دعم الاناركيين لها (فعليا، اثناء الحرب الاهلية الاسبانية اطلق الاناركيون مبادرات لمئات من عمليات انشاء التعاونيات ولكن اقلية صغيرة فقط من هذه التعاونيات امتلكت كامل الارض، وقد اصبح مسموحا للفلاحين الصغار ان يزرعوا مزارعهم الخاصة دون استخدام العمل المأجور).
منطق بعض الاناركيين المعاصرين (خصوصا انصار الباريكون- “اقتصاد المشاركة” ) يقول بأن المجتمع الرأسمالي لديه ثلاث “طبقات” محورية في عملية التغيير الاجتماعي – وليس طبقتان. الاولى هي طبقة العمال (التي تتضمن كل من يدخل بعمله في انتاج او توزيع السلع اضافة الى كثير مما يسمى صناعة “الخدمات”). وبهذا تتضمن هذه الطبقة الفلاحين، المزارعين واصحاب الملكيات الصغيرة، واصحاب البزنس الصغير الذين يعملون مع عمالهم واصحاب الياقات الزرقاء والبيضاء والوردية . الطبقة الثانية هي طبقة المدراء (coordinator) التي تتضمن كل من تصبح طبيعة عمله بشكل اولي تتعلق “بضبط مسار” وادارة عمل الاخرين ويكون ذلك بهدف مصلحة البرجوازية بشكل اولي، وايضا تتعلق بادارة المؤسسات، واعداد وتأسيس الحالة الفكرية الراهنة، او ادارة جهاز الدولة. التعريف الاناركي “لطبقة المدراء ” يتضمن اشخاصا مثل البيروقراطيين، والتكنوقراط، والمدراء ، والاداريين الكبار، ومثقفي الطبقة الوسطى (مثل علماء الاقتصاد، وعلماء السياسة والاجتماع، وعلماء الرياضيات، والفلاسفة، الخ)، وعلماء الطبيعة والقضاة والمحامين وضباط الجيش ومنظمي الاحزاب السياسية والزعماء الخ. واخيرا طبقة النخبة المالكة او “الطبقة الرأسمالية” (والتي تستمد دخلها من خلال سيطرتها على الثروة والارض والملكية والموارد). بل ان هؤلاء الاناركيين يجادلون بالمزيد ان الماركسية تفشل، ولسوف تفشل دائما، لأنها تخلق، وسوف تخلق دائما، ديكتاتورية طبقة المدراء هذه حيث ان “ديكتاتورية البروليتاريا” هي استحالة منطقية. يعتقد البعض ان الماركسية تفشل لان “نمطها الاشتراكي في الانتاج” على المستوى النظري يجعل جهاز الدولة محوريا ويمنحه المكانة والنفوذ مما يجعله بدوره يمنح المكانة والنفوذ لاشخاص من طبقة المدراء هذه ليسيطروا على الدولة ووسائل الانتاج لادارة الطبقة العاملة، متصرفين فعليا بوصفهم طبقة رأسمالية بديلة. ومع ذلك، هذا لا يمثل مشكلة كبيرة امام الماركسيين التحرريين الذين يؤمنون بأن مثل جهاز الدولة هذا يجب ان يعمل من خلال ديموقراطية مشاركة تقودها الطبقة العاملة او حتى في شكل دولة اشبه بدولة الطوائف (Consociational state).
نقاط الاختلاف الرئيسية تتضمن هكذا حقيقة ان الاناركيين لا يميزون بين الفلاحين والبروليتاريا الرثة والبروليتاريا الصناعية وبدلا من ذلك يحددون كل الناس الذين يعملون من اجل تحقيق ربح للاخرين بوصفهم اعضاء في الطبقة العاملة، بغض النظر عن الوظيفة؛ وان الاناركيين يميزون بين النخب الاقتصادية والسياسية التي تضع السياسة ومشاريع الاعمال وبين موظفي الدولة الذين ينفذون هذه السياسات في الوقت الذي يضع الماركسيون المجموعتين في سلة واحدة.
يتهم كلا من الاناركيين والماركسيين بعضهم البعض بأن افكار الاخر تنبع من عقول مثقفي الطبقة الوسطى، بينما يدعي كل منهم ان فكره الخاص ينبع من الطبقة العاملة. فهم يشيرون الى حقيقة ان من ابتدع الماركسية عموما هو حامل لدرجة الدكتوراة، ومدارس الماركسية غالبا ما يطلق عليها اسماء مشتقة من المثقف الذي شكل الحركة من خلال رياضة ذهنية راقية في التنظير الفلسفي والتحليلي. بينما مدارس الاناركية تميل للظهور على اساس مبادئ تنظيمية او شكل من اشكال الممارسة العملية ونادرا (ان لم يكن مطلقا) ما تسمى باسم او تتمحور حول احد الافراد المثقفين. “لدى مدارس الماركسية دائما مؤسسون. وبالضبط، كما أن الماركسية انبثقت من عقل ماركس، فهكذا لدينا اللينينيون Leninists، والماويون Maoists، والالتوسيريون Althusserians. (لاحظ كيف أن القائمة تبدأ برؤساء الدول وتتدرج بلا فواصل حتى تصل إلى أساتذة الجامعات الفرنسيين – الذين بدورهم يستطيعون توليد شيعهم الخاصة: لاكانيون Lacanians، وفوكوديون Foucauldians…). مدارس الأناركية على العكس، تنبثق من بعض أشكال المبادئ التنظيمية أو أشكال الممارسة العملية: النقابيون الأناركيون Anarcho-Syndicalists، الأناركيون الشيوعيون Anarcho-Communists ، والانتفاضويون Insurrectionists ، والبرنامجيون Platformists ، والتعاونيون Cooperatives ، والمجالسيون Councilists ، والفردويون Individualists وهكذا دواليك.”
يدافع الماركسيون عن ان افكارهم ليست ايديولوجيات جديدة ولم تخرج عنوة من فكر المثقفين ولكنها افكار تشكلت من خلال التناقضات الطبقية في كل نمط اقتصادي اجتماعي في التاريخ. هم يدافعون بقولهم ان الاشتراكية الماركسية على وجه اخص نشأت من عقول الطبقة العاملة بسبب التناقض الطبقي للنمط الرأسمالي في الانتاج. بعض الماركسيين موقفهم ايضا ان الاناركية قفزت من افكار البروليتاريا (او حتى البورجوازية الصغيرة) الذين همشتهم الرأسمالية بوصفها كفاح ضد قوى الرأسمالية عشوائي وغشيم ورجعي.
محاور الظلم والاضطهاد الاخرى
التحليل الطبقي الماركسي يؤدي الى نتائج تتعلق بالكيفية التي ينخرط فيها الماركسيون مع حركات التحرر الاخرى في قضايا المرأة والسكان الاصليين وجماعات الاقلية العرقية والاقليات الثقافية مثل المثليين جنسيا. يدعم الماركسيون مثل هذه الحركات التحررية، ليس فقط لانها حركات ذات قيمة في حد ذاتها، ولكن ايضا على ارضية انها حركات ضرورية بالنسبة لثورة الطبقة العاملة، والتي لا يمكن لها ان تنجح دون الوحدة معها. ومع ذلك، يؤمن الماركسيون ان المحاولات التي تقوم بها الجماعات النوعية المضطهدة هذه، على اختلاف مجالاتها، من اجل تحرير نفسها سوف تستمر في الفشل ولا تحقق اهدافها كاملة حتى ينتهي المجتمع الطبقي، ولانه في ظل الرأسمالية والمجتمعات الطبقية الاخرى، السلطة الاجتماعية تستقر على اساس الانتاج.
ينتقد الاناركيون ومعهم اخرون الماركسية لوضعها اولوية للطبقة بهذه الطريقة وينتقدون كذلك تفسير الماركسية لاسباب التغيير التاريخي، ومنطقهم في ذلك ان هذا الموقف الماركسي يخفي انواع اخرى من المظالم الاجتماعية والثقافية، والتي تتواجد لاسباب تتعلق بديناميكياتها الداخلية الخاصة. يرى الاناركيون كل حركات التحرر لهؤلاء المضطهدين حركات مشروعة بشكل اصيل، سواء اكانوا فلاحين ام بروليتاريا، او اخرين، دون الحاجة الى تسكين هذه الحركات في مكان معين بمخطط مسبق للثورة. ومع ذلك، هذا الموقف ليس واحدا عبر كل الحركة الاناركية، فالعديد من الاناركيين يؤمنون ان كفاحات قضية واحدة بمفردها، تصبح محدودة الابعاد للغاية، رغم انهم يشاركونها (مثل الماركسيين) كفاحاتها ويحاولون دفع مواقفها للامام وتحسين اساليب كفاحها بطريقة اناركية.
يميل الماركسيون الى رؤية الناس مشتركين في وعي طبقي معين قائم على اساس الوضع الذي يحتلونه في المجتمع الرأسمالي. يؤمن الماركسيون ان الناس تشترك في مجموعة من القيم والتصورات العقلية الجماعية اقتصادية-اجتماعية وان الحرية تأتي من تحرير الطبقة من قيود وضعها الطبقي، وهكذا يمكننا تمكين المرء الفرد فعليا. الاناركيون من ناحية اخرى يميلون الى رؤية الناس بوصفهم افراد اجتماعيين يعيشون ظرفا مشتركا في المجتمع الرأسمالي، ولكنهم لا يشتركون بالضرورة في وعي طبقي منسجم. يؤمن الاناركيون ان الحرية تنبع من تمكين الفرد حتى يحررون انفسهم من الخضوع والتبعية والطاعة للقوى السلطوية والتراتبية الهرمية، وهكذا يشجعون الافراد على نسج علاقات بشكل حر وجماعي مع بعضهم البعض.
الدين مساحة اخرى للاختلاف بين الاناركيين والماركسين. يرى الماركسيون الدين كاداة برجوازية للهيمنة على عقول الطبقات الدنيا والتبشير للخنوع امام السلطة وقبول الوضع الراهن في مقابل وعود بمكافآت عظيمة في المستقبل. يتفق الاناركيون مع هذا التحليل، ولكنهم لا يعتقدون ان كل الاديان بحكم تكوينها تقوم بهذه الوظيفة. يميل الماركسيون الى تصوير المجتمع الشيوعي الخالي من وجود دولة مجتمعا خال ايضا من وجود الدين، بل انهم احيانا يروجون للعنف ضد رجال الدين والمؤسسات الدينية. رغم ذلك، هناك من الماركسيين الكاثوليك في امريكا اللاتينية الذين يتخذون مواقف ماركسية تحركهم دوافع لاهوت التحرير ومنهم من انضم حتى الى القتال في صفوف رجال حرب العصابات مثل حالة الراهب الكولومبي الشهير كاميليو توريس الذي قاتل في صفوف جيش التحرر الوطني الكولومبي ومات في احد المعارك. يستمر ماركسيون من لاهوت التحرير حتى اليوم في العمل بين صفوف حركة المنظمات الاجتماعية القاعدية كما هي الحالة في حركة الفلاحين بلا ارض البرازيلية. وبينما يروج الاناركيون احيانا للعنف ضد مؤسسات دينية معينة طاغية وسلطوية، فالاناركية اشتهرت تاريخيا انها تتقبل برحابة صدر اكبر الروحانيات الشخصية والاديان التي تدعو للمساواة وتمارسها. ايضا اكتسبت الاناركية تاريخيا دعما اكبر بين الطوائف الدينية وفي اوقات واماكن متنوعة جذبت اشكال اناركية من المسيحية والبوذية والهندوسية والاديان الاخرى عشرات الالاف من الاعضاء. بعض الاناركيون يتصورون مجتمع المستقبل مجتمعا خال من الاديان بينما يتصوره اخرون منهم مجتمعا يحتفظ باشكال مساواتية من الاديان وروحانيات حرة منفتحة.
العلاقة بالسكان الاصليين والامم دون دولة
يختلف الاناركيون والماركسيون فيما بينهما اختلافا بينا في علاقتهم بالسكان الاصليين والاقليات القومية. في البدايات الاولى لكلا الحركتين تنبأ المفكرون من ماركس الى باكونين الى كروبتكين ان الثورة القادمة سوف تكتنس كل التمايزات بين الهويات القومية، وان عمال العالم ليس لديهم “امة”، وان الشكل الطبيعي للاشتراكية كان هو الاممية التي لا تعترف بالحدود ولا تحترمها. ظل هذا هو الموقف الثابت لكل معسكر اليسار المعادي للرأسمالية حتى اوائل القرن العشرين وما زال يمتلك تأثيرا ملموسا في دوائر كلا من الاناركية والماركسية حتى اليوم.
اثناء السنوات التي ادت الى الثورة الروسية، وجد لينين والبلاشفة انه من المناسب قطع وعود بالاستقلال للاقليات القومية من السكان الاصليين العديدين غير الروس الذين يعيشون داخل حدود الامبراطورية القيصرية الشاسعة، خصوصا الاوكرانيين والبولنديين، في مقابل كسب دعمهم ضد القيصر. وفور استيلائهم على السلطة تبخرت كل هذه الوعود وتحطمت كل الحركات القومية في انحاء روسيا كلها وفي انحاء اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية فيما بعد وبشكل وحشي، حطمها لينين وتروتسكي وستالين وكل خلفائهم استمروا في نفس السياسة حتى انهيار الاتحاد السوفيتي كوحدة سياسية. في سنوات ما قبل احتدام الحرب العالمية الثانية، تمحورت سياسة الاتحاد السوفيتي الخارجية حول فكرة البلشفية القومية (الاشتراكية في وطن واحد)، عبرها سعت النخبة السياسية البلشفية في روسيا الى تحريض ودعم ثورات شيوعية-قومية في انحاء العالم، ابرزها الثورة في المجر والمانيا، ثم بعدها يقوم المركز بابتلاع المناطق الجديدة المستقلة في كومنولث سوفيتي – وهو الهدف الذي تحقق بعد الحرب العالمية الثانية مع حلف وارسو. فشل محاولة الهبة البلشفية القومية في المانيا عام 1939 عوقت اليسار الالماني، ومهدت الطريق لنهوض النازي واستيلاؤهم على السلطة وكانت الاثار الجانبية لهذه العملية الفاشلة حاسمة في السماح لستالين بالانفراد بسلطة الكرملين وطرد وقتل منافسيه الداخليين. عناصر هذا الفكر استمرت في السياسة الخارجية السوفيتية طوال سنوات الحرب الباردة وساعدت على خلق جاذبية لدعم الحركات الوطنية والمناهضة للامبريالية في انحاء العالم الثالث. وكانت تلك هي ايضا الدوافع التي حكمت معونة روسيا للحزب الشيوعي الصيني اثناء الثورة الصينية، لكن فور استيلاء ماو على السلطة رفض السماح للاتحاد السوفيتي بالسيطرة على السياسة الصينية، مما ادى الى الخلاف مع ستالين الذي تصاعد الى حرب قصيرة بين القوتين. وهو نفس السياق الذي حدث فيما بعد بين الحكام الشيوعيين في الصين وفيتنام.
اثناء الثورة الصينية حدث سياق مواز عندما وعد ماو والحزب الشيوعي الصيني في البداية كل امم الصين العديدة، التي تعيش بلا دولة خاصة بها على ارض الصين الشاسعة ، بالاستقلال وحق تقرير المصير، ثم لم يرفض ماو والحزب الشيوعي الصيني الوفاء بالوعود فور استيلاءهم على السلطة وفقط ولكنهم فعليا قاموا بغزو والحاق التبت، التي كان يعتبرها ماو مقاطعة رجعية. كل الحكومات الشيوعية المتتالية في انحاء العالم اتبعت نفس السياق في اطلاق الوعود اولا للاقليات القومية من السكان الاصليين بحق تقرير المصير من اجل اكتساب تأييدهم ثم المعارضة النشيطة لحقوقهم في تقرير المصير فور استيلاءهم على السلطة. الموقف الثابت الذي لا يلين ولا يتغير، السياسة العامة للحكومات الماركسية بداية من لينين فصاعدا كانت دعم النزعة القومية الثورية وحقوق جماعات الاقلية القومية نظريا ومعارضتها في الممارسة العملية. الاحدث، حركة الساندينستا في نيكاراجوا متهمة، بعد استيلاؤها على السلطة، بتنفيذ حملات تطهير عرقي ضد الشعوب الاصلية في البلاد من اجل الاستيلاء على اراضيهم.
موقف الاناركية هو لحد ما النقيض من ذلك. معظم الاناركيين، تاريخيا وحتى اليوم، يرى في الحدود والتقسيمات القومية امرا مدمرا ويتصورون عالما تتلاشى فيه التمايزات العرقية والعنصرية وتختفي مع الوقت بوصف هذا العالم هو العالم المثال. ومع ذلك، في الممارسة العملية، يقوم بنيان الاناركية على اساس انظمة ذات حجم صغير تتمتع بحق تقرير المصير، والحاكمية المحلية الذاتية، والعون المتبادل الذي يشبع رغبات الاقليات القومية في تقرير مصيرها على اساس من الامر الواقع؛ وبهذا المنوال اصبحت الاناركية تاريخيا متصالحة مع اشكال من القومية المناهضة للدولة. احد ابرز اشكال هذا التعاون بين نزعة الاقليات القومية للاستقلال الذاتي والاناركية كان التعاون مع الحركات التي تناضل من اجل الحكم الذاتي في قطالونيا واقليم الباسك في اسبانيا والذي وجد تعبيرا عنه تحت راية الكونفدرالية الوطنية للعمال اثناء الحرب الاهلية الاسبانية. والاحدث هو محاولة الانصهار الصريح بين الاناركية والتقاليد السياسية للامريكيين الاصليين التي تجد تعبيرا عنها في حركة السكان الاصليين الحديثة (indigenist movement). المنظمات القومية المناهضة للدولة والتي تصف عملها السياسي بصفة الاناركية توجد حاليا في ايرلندا. والعديد من اعضاء حركة الهنود الامريكيين المعاصرة يعتبرون انفسهم اناركيين.

المادية التاريخية
المادية التاريخية هي مقاربة منهجية لدراسة المجتمع والاقتصاد والتاريخ صاغها بادئ ذي بدء كارل ماركس.
انقى صياغة عند ماركس “لمفهومه المادي للتاريخ” كان في مقدمة كتابه الشهير، “الرأسمال” : “في الانتاج الاجتماعي لوجودهم، يدخل البشر حتميا في علاقات محددة، مستقلة عن ارادتهم، وهي بالاسم علاقات الانتاج التي تلائم مرحلة معينة من تطور قوى الانتاج المادية. الحصيلة الكلية لعلاقات الانتاج هذه تؤسس البنية الاقتصادية للمجتمع، الاركان الحقيقية له، التي تنهض عليها البنية الفوقية القانونية والسياسية المتوافقة بدورها مع اشكال محددة من الوعي الاجتماعي. نمط انتاج الحياة المادية يكيف المسيرة العامة للحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية ويطبعها بطابعه. انه ليس وعي البشر الذي يحدد وجودهم، ولكن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم”.
استمد ماركس صيغة المادية التاريخية من مفهوم الديالكتيك (الجدل) الذي وضعه هيجل الفيلسوف الالماني السابق عليه. خرجت هذه الطريقة من الافتراضات القائلة بأن اي ظاهرة طبيعية تتكون من خلال تباينها مع ظاهرة اخرى، وان ما هو كمي يمكن رؤيته بشكل نوعي، وأن الفهم الدقيق لما يمثل ظاهرة عشوائية هو امر ممكن (على غرار العديد من مبادئ عدم اليقين الفيزيقية). ماركس وشريكه في العمل فردريك انجلز “قلبا هيجل على رأسه” وحجتهم هي ان تلك الطرائق يمكن تطبيقها على المجتمع الانساني في شكل المادية التاريخية، لذلك يمكن دراسة الطبقات باستخدام التباين بين صاحب الملكية والعامل مثلا، او بتناول ما هو كمي للخروج بما هو نوعي، مثل تفسير التوزيع الغير عادل للملكية الخاصة من اجل اظهار المظالم الطبقية.

ورغم ان ماركس نفسه لم يستخدم مصطلح المادية التاريخية ابدا، (كان يشير اليه بوصفه “المادية الفلسفية”، وهو مصطلح استخدمه ليميزه عما سماه “المادية الشعبوية”)، ففي السنوات الاخيرة من عمره، عام 1877، كتب ماركس رسالة الى رئيس تحرير الصحيفة الروسية “اوتيتشيستفيني زابيسكي (Otetchestvennye Zapisky)”، احتوت على هذا التصحيح ذو المغزى الكبير: “…. لو ان روسيا تنوي ان تصبح امة رأسمالية على منوال بلدان اوروبا الغربية، واثناء السنوات الاخيرة الماضية تحملت كثير من الصعاب في هذا الاتجاه – فهي لن تنجح دون ان تتحول اولا بقدر كاف من فلاحيها ليصبحوا بروليتاريا؛ وبعد ذلك، فور انتقالها الى الاحضان الدافئة للنظام الرأسمالي، سوف تجرب روسيا قوانين هذا النظام الذي لا يرحم مثل باقي الشعوب التي ارتكبت هذه الخطيئة. هذا هو كل شيء. ولكن ذلك لا يكفي ناقدي. انه يشعر من جراء نفسه انه ملزم بتشويه مخططي التاريخي الذي وضعته حول نشوء وتكون الرأسمالية في غرب اوروبا وحوله هو الى نظرية فلسفية تاريخية للمسيرة العمومية التي فرضها القدر المحتوم على كل شعب، مهما كانت الظروف التاريخية التي يجد فيها هذا الشعب نفسه، من اجل هدف محتمل وهو وصول هذا المجتمع في نهاية المطاف الى شكل من الاقتصاد يضمن، بالتوسع الاكبر في قوى العمل الاجتماعي المنتجة، بلوغ التنمية الكاملة الاعظم للبشر. ولكني استميحه عذرا. (انه يسبغ على شرفا وفي نفس الوقت يلطخ سمعتي بشكل بالغ)”.
اما انجلز فقد كتب: “انا استخدم ’المادية التاريخية‘ لاضع مخططا حتى ارى مسار التاريخ السابق، الذي يسعى نحو الغايات النهائية والقوة المحركة العظمى، في كل الاحداث التاريخية الهامة للتطورات الاقتصادية في المجتمع، وأراه في التغييرات الحادثة بانماط الانتاج والتبادل، مع التقسيم التالي للمجتمع الى طبقات متمايزة والصراع بين تلك الطبقات “.
ورغم ان ماركس قد قال انه بذلك يقترح خطوطا استرشادية للبحث التاريخي، اصبح مفهوم المادية التاريخية بحلول القرن العشرين احد اركان المذهب الشيوعي، وقد توسع في بناءه وصقله مثقفون ماركسيون كبار مثل ادوارد برنشتاين وكارل كاوتسكي وجيورجي بليخانوف ونيكولاي بوخارين اضافة الى الاف من الدراسات الاكاديمية منذ وفاة ماركس وانجلز، حتى الان.
وهكذا اصبح الماركسيين يستخدمون شكلا لتحليل المجتمعات الانسانية يسمى “المادية التاريخية”، يفترض دائما ان البشر من اجل البقاء يستغلون الطبيعة معا بشكل جماعي من اجل انتاج وسائل العيش. ولكن بالطبع لا يؤدي جميع البشر نفس الاعمال، ولذلك يقوم بينهم تقسيم للعمل حيث يتكفل كل منهم بوظائف تختلف عن الاخرين. ولكن بعض الناس يعيشون على عمل الاخرين نتيجة لامتلاكهم وسائل الانتاج. والطريقة التي يتم بها ذلك تختلف باختلاف نوع المجتمع. وبناء عليه تفترض المادية التاريخية ان المجتمع ينتقل عبر عدد من الانواع او انماط الانتاج. تتضمن هذه الانماط عموما المشاعية البدائية او المجتمع القبلي (مرحلة ما قبل التاريخ)، والمجتمع القديم والاقطاعية والرأسمالية. في كل من هذه المراحل الاجتماعية يتفاعل الناس مع الطبيعة ويصنعون سبل عيشهم بطرق مختلفة. يتم توزيع فائض الانتاج بطرق متنوعة. المجتمع القديم يقوم على الطبقة الحاكمة من مالكي العبيد وطبقة العبيد، والمجتمع الاقطاعي يقوم على ملاك الارض الكبار واقنانهم. ينتظم المجتمع الرأسمالي على اساس الرأسماليين الذين يملكون وسائل الانتاج، والتوزيع والتبادل (اي المصانع والمناجم والدكاكين والبنوك)، والطبقة العاملة التي تعيش على بيع عملها للرأسماليين مقابل الاجر.
على قمة هذا التحليل المادي التاريخي تقف فكرة ان الناس يجدون انفسهم اسرى عالم مادي محدد مسبقا، وان تحركاتهم من اجل احداث تغيير فيه تصبح داخل اطار ما يستطيعون هم تصوره عنه او وعيهم به. وبشكل خاص اكثر، علاقات الانتاج الاقتصادية الاكثر جوهرية، هي القوة المحركة والدافعة للتاريخ، وتجد تفسيرها في ميادين “البنية الفوقية” من الايديولوجيا والقانون، على الاقل في المدى الطويل.
طبقا للعديد من الماركسيين الذين وقعوا تحت نفوذ الماركسية السوفيتية، المادية التاريخية هي اسلوب من اساليب علم الاجتماع، بينما المادية الجدلية تتعلق بالفلسفة الاكثر عمومية وتجريدا. الادبيات الماركسية الارثوذكسية السوفيتية، صاحبة النفوذ القوي والتأثير القوي لمدة نصف قرن، قامت على مبادئ كتيب جوزيف ستالين “المادية الجدلية والمادية التاريخية”، وعلى المراجع التي اصدرها “معهد الماركسية اللينينية التابع للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي”.
وعلى الجانب الاخر، يستخدم الاناركيون نوعيات واسعة من الادوات للتحليل الاجتماعي وبعضهم يرون جدارة في المادية التاريخية بوصفها اداة للتحليل الاجتماعي. الا ان معظم الاناركيين يرفضون المادية التاريخية بوصفها علم كاذب يقوم على اساس مزاعم عمومية لم تختبر ومصطنعة. كان الاناركيون من بين الاوائل الذين انتقدوا اتجاه الديالكتيك المادي على هذا الاساس، وعلى اساس انه ينزع انسانية التحليل السياسي والاجتماعي ولا يمكن الاعتماد عليه باستمرار كمنهجية شاملة.
الحتمية التاريخية
التفسير البسيط للمادية التاريخية يفترض انه لو كانت الماركسية على حق في فهمها للقوى الطبقية التي تتصارع في ظل الرأسمالية، فثورة الطبقة العاملة الناجحة هي امر حادث لا محالة. ففي تحليله لحركة التاريخ، تنبأ ماركس بانهيار الرأسمالية (نتيجة للصراع الطبقي وانهيار معدل الربح)، وتأسيس مجتمعا شيوعيا في الوقت المناسب يمكن التغلب فيه على الصراع بين البشر، القائم بسبب الصراع بين الطبقات.
وما هو حقيقي بدرجة كبيرة هو ان ماركس وانجلز كان ينظرا الى مسارات التاريخ بوصفها مسارات تحكمها قوانين، وان الاتجاهات المستقبلية الممكنة للتطور التاريخي محدودة ومحكومة بقدر كبير بما قد حدث من قبل. وبالنظر الى الوراء، يرى ماركس وانجلز انه يمكن فهم المسارات التاريخية التي حدثت في الماضي بوصفها حدثت بحكم الضرورة بطريقة معينة وليست اخرى، ولحد ما على الاقل، يمكن تحديد المتغيرات الاكثر ترجيحا في المستقبل على اساس دراسة متأنية لحقائق معلومة.
بعض الماركسيين، خصوصا زعماء الدولية الثانية في اواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين، آمنوا بذلك. ومع ذلك، الدرجة التي يجب ان تصنع بها الثورة قوى واعية، كانت دائما قضية محل خلاف بينهم، والعديد منهم دافع عن موقفه بأن مقولة ماركس الشهيرة، “انا لست ماركسيا” هي رفض للحتمية التاريخية. وقد تعمق هذا الانشقاق بالحرب العالمية الاولى، عندما دعم كل حزب من احزاب الاشتراكية الديموقراطية في الدولية الثانية المجهود الحربي للامة التي ينتمي اليها هذا الحزب منهم او ذاك، باعتبار أن انتصار الرأسمالية في وطنها سوف يفسح المجال للانتصار النهائي الحتمي لبروليتاريتها. العديد من خصوم الحرب الماركسيين، مثل روزا لكسمبورج، القوا باللوم على “خيانة الدولية الثانية” جزئيا بسبب مذهبهم في حتمية الاشتراكية، الذي يبرر محاولتهم اصلاح الدول الرأسمالية القائمة. بدائل المستقبل التي طرحتها روزا لكسمبورج بديلا عما يطرحه زعماء الاشتراكية الديموقراطية كانت “الاشتراكية او البربرية”.
وحيث ان معظم الاناركيين يرفضون الديالكتيك والمادية التاريخية، فهم لا يزعمون ان الثورة واعادة تنظيم المجتمع هي امور حتمية، فقط هم يرونها امور مرغوب بها [جدا].
كتب لينين كتابه الدولة والثورة بين اغسطس وسبتمبر 1917، ولكنه لم ينشر الا بعد استيلاء البلاشفة على السلطة في نوفمبر 1917.
فردريك انجلز، اصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، ص ص: 177-188. طبعة شتوتجارت الالمانية المنشورة عام 1894
فلاديمير ايليتش لينين، الدولة والثورة، ديسمبر 1918، الفصل الاول.
ديفيد جريبر، مقالة غروب الطليعة، يونيو 2001، موقع زي نت العربية.
فلاديمير ايليتش لينين، الاعمال الكاملة، المجلد الخامس، النسخة الانجليزية، ص 353.
فلاديمير ايليتش لينين، المرجع السابق، ص 375.
فلاديمير ايليتش لينين، المرجع السابق، ص 389.
فلاديمير ايليتش لينين، المرجع السابق، ص ص 354-364.
ديفيد جريبر، الاناركيون الجدد، نيو لفت رفيو، فبراير 2002.
ديفيد جريبر، المرجع السابق.
انظر الجزء الاخير من مقالته في هذا الكتاب، “كوميونة باريس وفكرة مبدأ الدولة”.
مايكل البرت، الباريكون: او الحياة بعد الرأسمالية، دار نشر فرسو، 2003.
الياقات الوردية اللون هي صفة تتعلق بشريحة من الوظائف والاعمال مثل كتابة الخطابات والمذكرات او سويتش التليفونات وهي مهن تقليديا كانت تشغلها النساء (السكرتيرة وعاملة التليفون…).
يعرف علماء الاجتماع السياسي دولة الطوائف تلك بوصفها دولة مجتمع ينقسم الى طوائف داخلية عرقية او دينية او لغوية دون وجود حجم واضح كبير لاحدها لتشكل جماعة اغلبية، الا ان دولة هذا المجتمع الطائفي تدير هذا الانقسام بطريقة ما تحافظ على استقراره، نتيجة للتشاور الدائم بين نخب كل قسم ولوجود توازن دقيق بين السلطة التشريعية والتنفيذية. اشهر هذه الدول هي سويسرا وبلجيكا والهند ولبنان واسبانيا.
اذا كانت هذه الفرقة تسمى باسم نستور ماخنو، فهو ليس مثقفا نظريا ولكنه مناضل حركي، كما انهم يتعرضون لهجوم شديد من مدى واسع من الاناركيين، حيث تتهم هذه الفرقة بممارسات سلطوية ونزوع لبناء اشكال هرمية من التنظيم وفرض ايديولوجية على اعضاءها. ولكن هذه الفرقة تسمي نفسها اسما اخر وهو اللائحيون او البرنامجيون “platformist”.
ديفيد جريبر واندريه جروباتشيك، الاناركية او الثورة في القرن الواحد وعشرين، موقع زي نت العربية.
كارل ماركس، الرأسمال “مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي”، طبعة عام 1859
فردريك انجلز، الاشتراكية العلمية والطوباوية، ص 16. الناشرون الدوليون، نيويورك.

الأناركية الحرب الاهلية الاسبانية ١٩٣٦ – ١٩٣٩

احمد زكى

مسلسل تاريخ احداث الحرب الاهلية الاسبانية
٢٨ يناير ١٩٣٠ اجبار الديكتاتور الاسباني، ميجويل بريمو دا ريفيرا على الاستقالة
١٩٣١
١٤ ابريل اعلان الجمهورية الاسبانية الثانية، وذهاب الملك الفونسو الثالث عشر الى المنفى
٦ مايو الحكومة الجديدة تعلن انهاء التعليم الاجباري في المدارس
٨ مايو تعديل القانون الانتخابي للسماح للمرأة بحق التصويت
٢٥ مايو اعلان مانويل ازانيا، وزير الحرب، تخفيض كبير في حجم الجيش الاسباني
١٦ اكتوبر استقالة رئيس الوزراء نيسيتو زامورا، واستبداله بمانويل ازانيا
١٧ اكتوبر تصديق الجمعية التشريعية الاسبانية على اباحة الطلاق
١١ ديسمبر انتخاب نيسيتو زامورا رئيسا للجمهورية الاسبانية الثانية
١٩٣٢
١٠ اغسطس يتزعم الجنرال خوسيه سانيوريو انتفاضة ضد الحكومة
١٩٣٣
٨ يناير انتفاضات اناركية في سرقسطة واشبيليه وبيلباو ومدريد
٢٨ فبراير جيل روبلز يشكل الحزب الكاثوليكي (CEDA)
٢٩ اكتوبر خوسيه انطونيو بريمو دا ريفيرا يؤسس حزب كتائب اسبانيا
١٩ نوفمبر فوز الاحزاب اليمينية بالانتخابات العامة ضد اليسار المنقسم
٢ ديسمبر انتفاضات اناركية في قطالونيا واراجون
١٩٣٤
٢٠ ابريل العفو عن الجنرال خوسيه سانيوريو.
٧ اكتوبر القبض على مانويل ازانيا واحتجازه في برشلونة
١٩٣٥
٦ ابريل محكمة بضمانات دستورية تعلن براءة مانويل ازانيا
سبتمبر انشاء اندريه نين وجواكين مورين لحزب العمال للتوحيد الماركسي (POUM)
٢٠ ديسمبر فرانشيسكو لارجو كاباليرو يحل محل انداليشيو برييتو كرئيس للحزب الاشتراكي
١٩٣٦
١١ يناير توقيع حلف انتخابي بين الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي
١٥ يناير مانويل ازانيا ينظم تشكيل الجبهة الشعبية
١٦ فبراير فوز الجبهة الشعبية بالانتخابات العامة في اسبانيا
١٩ فبراير الرئيس نيسيتو الكالا زامورا يعين مانويل ازانيا رئيسا للوزراء
٢١ فبراير الجمعية التشريعية الاسبانية تمنح العفو لكل من اتهم بالتمرد
٢٧ فبراير اغلاق مقرات الكتائب الاسبانية في مدريد
٢٨ فبراير اجتماع فرانشيسكو فرانكو وايميليو مولا ويوان ياجو وخوسيه سانيوريو لمناقشة التكتيكات
اعفاء الجنرال ايميليو مولا من القيادة وارسل الى بامبلونا
١٤ مارس حكومة الجبهة الشعبية تحظر حزب الكتائب الاسبانية
القبض على خوسيه انطونيو بريمو دا ريفيرا واتهامه بتهريب اسلحة غير مشروعة
٤ ابريل مانويل ازانيا يطرح تفاصيل تشريعاته الاصلاحية
٧ ابريل خلع نيسيتو الكالا زامورا من منصبه كرئيس للجمهورية الاسبانية
١٣ ابريل اجتماع ايميليو مولا مع جونزالو كويبو دا اللانو لمناقشة امكانية انتفاضة عسكرية
١٨ ابريل الجمعية التشريعية تحظر حضور الضباط العسكريين الاجتماعات السياسية السرية
٨ مايو انتخاب مانويل ازانيا رئيسا للجمهورية الاسبانية
انداليشيو برييتو يرفض منصب رئيس الوزراء
٢٠ مايو الحكومة تأمر باغلاق المدارس الكاثوليكية لحماية نفسها من هجمات احراق الممتلكات العامة.
٢٨ مايو صدور الحكم على خوسيه انطونيو بريمو دا ريفييرا بالسجن ٥ اشهر بسبب تهريب الاسلحة
الحرس المدني يقمع تجمعا جماهيريا يساريا في يست ويقتل ١٩ شخصا اثناء التجمهر
٣١ مايو اطلاق الرصاص علي انداليسيو برييتو اثناء تجمع جماهيري اشتراكي في ايسيخا
٢ يونيو الجمعية التشريعية تصدر قانونا يمنع اخلاء واضعي اليد على الاراضي الزراعية عن اراضيهم
٩ يونيو اكثر من مليون عامل يدخلون اضرابا عاما في اسبانيا
٦ يوليو لويس بولين يرتب سفر فرانشيسكو فرانكو جوا الى المغرب
١٢ يوليو اغتيال الكتائبيون الاسبان لضابط حرس الهجوم الجمهوري خوسيه كاستيلو
١٣ يوليو مقتل الزعيم المناصر للملكية خوسيه كالفو سوتيلو ثأرا لمقتل كاستيلو
١٨ يوليو انتفاضات عسكرية ناجحة في المغرب واشبيليه
الجنرال فرانشيسكو فرانكو يصدر اعلانا لايجاد مسوغات للتمرد
دولوريس ايباروري (الباسيونيرا) تلقي خطابها الاذاعي الشهير “لن يمروا”
٢٠ يوليو مقتل الجنرال خوسيه سانيوريو في حادث طائرة
حزب العمال البريطاني يعبر عن دعمه لحكومة الجبهة الشعبية
خوسيه جيرال رئيس الوزراء الاسباني يتقدم بطلب للحكومة الفرنسية من اجل تزويده بالسلاح
٢٤ يوليو الجنرال ايميليو مولا يؤسس لجنة الدفاع الوطني
لجنة الميليشيا المناهضة للفاشية تؤسس الكتيبة الاناركية
قوات المتمردين تستولى على غرناطة
٢٦ يوليو ادولف هتلر يوافق على اعطاء معونة عسكرية للجنرال فرانشيسكو فرانكو
الكومنترن يوافق على تشكيل الكتيبة الدولية
٢٨ يوليو القوات الجوية الالمانية تصل الى المغرب وتبدأ في نقل القوات الوطنية الى اسبانيا
٣٠ يوليو تسع طائرات قاذفات قنابل ايطالية تصل الى المغرب
٢ اغسطس ليون بلوم يعلن سياسة فرنسا بعدم التدخل في الحرب الاهلية الاسبانية
٤ اغسطس الجنرال فرانكو والجيش الوطني يستولى على بادايوس
٦ اغسطس الجنرال فرانكو يؤسس مركز قيادة في اشبيليه
٨ اغسطس فرنسا تغلق حدودها وتمنع المتطوعين من العبور الى اسبانيا
١٠ اغسطس انداليسيو برييتو يناشد في خطاب اذاعي انهاء الارهاب الاحمر
١٢ اغسطس المتطوعين الاوائل في الكتيبة الدولية يصلون الى اسبانيا
١٤ اغسطس القوميون يرتكبون مجزرة ضد الجمهوريين في بادايوز
١٥ اغسطس ستانلي بالدوين يعلن حظر تصدير السلاح الى اسبانيا
١٩ اغسطس مقتل فيدريكو جارسيا لوركا على ايدي الكتائبيين في فيثنار
٢٦ اغسطس السلطات القومية تفتح باب التجنيد الاجباري
٢٨ اغسطس القوات القومية تقصف مدريد بالقنابل لاول مرة
٤ سبتمبر فرانشيسكو لارجو كاباليرو يشكل حكومة جمهورية جديدة
٥ سبتمبر الجيش الوطني يستولى على ايرون ويغلق الحدود مع فرنسا
٧ سبتمبر خوسيه اجويري يشكل حكومة استقلال ذاتي في الباسك
٩ سبتمبر ممثلون عن ٢٧ بلدا يشكلون لجنة عدم تدخل في لندن
الكسندر اورلوف من قوميسارية الشعب للشئون الداخلية (الاستخبارات الروسية) يصل الى اسبانيا
٢١ سبتمبر الجنرالات الوطنيون يختارون فرانكو رئيسا للدولة
٢٥ سبتمبر الفاريز ديل فايو يترافع عن الجمهورية الاسبانية وقضيتها في عصبة الامم
١ اكتوبر الحكومة الجمهورية تصدق على الاستقلال الذاتي في الباسك
٣ اكتوبر اول وزارة يشكلها فرانكو تتضمن اخوه وثلاثة جنرالات ودبلوماسي
٩ اكتوبر ٦٥٠ عضو من الكتيبة الدولية يصلون الى اليكانتي
١٢ اكتوبر اول شحنات المعونة تصل من الاتحاد السوفيتي الى اسبانيا
٢٢ اكتوبر الجنرال خوسيه ميايا يتولى مسئولية الدفاع في مدريد
٢٥ اكتوبر ارسال ٥١٠ طن من ذهب بنك اسبانيا الى الاتحاد السوفيتي
١ نوفمبر القوات الوطنية تصل الى الضواحي الغربية والجنوبية لمدريد
٢ نوفمبر الجيش الوطني يستولى على برونيت
٦ نوفمبر القوات الوطنية تبدأ حصار مدريد
الحكومة الجمهورية تنتقل من مدريد الى فالنسيا
٨ نوفمبر الكتيبة الدولية وميليشيات الشعب ترد هجوما للقوات الوطنية على مدريد
١٠ نوفمبر لجنة عدم التدخل الدولية تقرر انه لا يوجد دليل على تدخل اجنبي في اسبانيا
١٤ نوفمبر بوينافنتورا دوروتي يصل مدريد مع كتيبته الاناركية
١٥ نوفمبر جحافل الكوندور، احد اسراب القوات الجوية الالمانية تدخل المعارك للمرة الاولى.
١٨ نوفمبر ادولف هتلر وبينيتو موسوليني يعترفان بنظام فرانكو
١٩ نوفمبر مقتل بوينافنتورا دوروتي اثناء الدفاع عن مدريد
٢٠ نوفمبر اعدام ميجويل بريمو دا ريفيرا، زعيم الكتائب الاسبانية، في اليكانتي
١٣ ديسمبر القوميون يحاولون قطع طريق مدريد لاكورونا الى الشمال من مدريد
١٦ ديسمبر طرد اندريس نين من الحكومة
١٧ ديسمبر الشيوعيون يصرون على اخراج حزب العمال للوحدة الماركسية من حكومة قطالونيا
٢٢ ديسمبر متطوعون من ايطاليا يصلون اسبانيا للقتال في جانب القوميين
١٩٣٧
٦ يناير الرئيس فرانكلين دوايت روزفلت يحظر صادرات السلاح الى اسبانيا
١٢ يناير قمع الانتفاضة الاناركية في بيلباو
١٤ يناير تظاهرت ميليشيات الاناركيين واعضاء حزب العمال لوحدة الماركسيين في برشلونة من اجل الثورة الاجتماعية
٨ فبراير الجنرال جونزالو كويبو دا اللانو والجيش القومي يستوليان على ملقا
١٢ فبراير الكتيبة الدولية توقف تقدم القوميين عند جارما
٥ مارس مؤتمر الحزب الشيوعي الاسباني يطالب باستئصال حزب العمال لوحدة الماركسيين
٨ مارس الفيلق الايطالي يستولى على جوادالاجارا
١٨ مارس الجيش الجمهوري يهزم الفيلق الايطالي خارج مدريد
٣٠ مارس الجنرال ايميليو مولا يفتتح هجوم القوميين في منطقة الباسك
١٩ ابريل فرنشيسكو فرانكو يوحد الكتائب الاسبانية مع الكارليين الكاثوليك ليشكل حزبا واحدا
٢٦ ابريل جحافل الكوندور الالمانية تقصف وتدمر جرنيكا، عاصمة الباسك في الشمال الاسباني
٣ مايو الاناركيون والسينديكاليون يتمردون في برشلونة ضد اسلوب الحكومة السلطوي
٥ مايو فرنشيسكو لارجو كاباليرو يرسل بحرس الهجوم الى برشلونة
١٠ مايو الاسبوع الدامي، الجيش الجمهوري يقمع انتفاضة برشلونة
١٧ مايو خوان نجرين يحل محل لارجو كاباليرو كرئيس للحكومة الجمهورية
٣ يونيو مقتل الجنرال ايميليو مولا في حادث تحطم طائرة
١٦ يونيو خوان نيجرين يصدر قرارا بتجريم حزب العمال لوحدة الماركسيين
القبض علي اندريس نين وتوجه له تهمة التواطؤ مع الجنرال فرانكو
١٩ يونيو جيش القوميين يستولى على بيلباو
٢٠ يونيو اغتيال اندريس نينو زعيم حزب العمال لوحدة الماركسيين على يد عملاء الاتحاد السوفيتي.
٢٤ يونيو راؤول روبسون يلقي خطابا هاما عن الحرب في قاعة البرت بلندن
٢٦ يونيو القوات القومية تستولى علي سانتاندر
٦ يوليو الجنرال فنسنت رويو يشن هجوما على برونيت
١٠ اغسطس خوان نيجرين يحل مجلس اراجون الذي كان يهيمن عليه الاناركيون
٢٥ اغسطس الجيش القومي يستولى على ميناء الساحل الشمالي سانتاندر
٢٨ اغسطس القوميون يقصفون مدريد لاول مرة
الفاتيكان يعترف بنظام فرانكو
١ اكتوبر القوات الجمهورية تستولى على بلشيت
١٧ اكتوبر فرانشيسكو لارجو كاباليرو يعلن معارضته لخوان نيجرين
٢٨ اكتوبر القوات الجمهورية تتحرك من فالنسيا الى برشلونة
١٢ نوفمبر كونفدرالية العمل الوطنية تنسحب من حكومة الجبهة الشعبية
٨ ديسمبر القوات الجوية القومية تقصف برشلونة
١٤ ديسمبر الجيش الجمهوري يشن هجوما على اراجون
١٩٣٨
٩ يناير الجيش الجمهوري يستولى على مدنية تيرول من القوميين
٣٠ يناير الجنرال فرانكو يضم اول مدني الى حكومته
٢٢ فبراير جيش القوميين يستعيد سيطرته على مدينة تيرول
١٦ مارس القوات الجوية الايطالية تبدأ قصف برشلونة بالقنابل
١٧ مارس ليون بلوم، وقد عاد للسلطة مرة اخرى في فرنسا، يعيد فتح الحدود مع اسبانيا
٢٨ مارس انداليسيو برييتو يدعو لبدء مباحثات سلام
٥ ابريل خوان نيجرين يطرد انداليسيو برييتو كوزير للحرب من وزارته
١٥ ابريل جيش القوميين يستولى على بلدة فيناروز الجمهورية
١ مايو خوان نيجرين يقترح ١٣ بندا لعقد السلام
٢١ يونيو ليون بلوم يستقيل والحدود الفرنسية الاسبانية تغلق مرة اخرى
٢٥ يوليو ٨٠ الف جندي من القوات الجمهورية تبدأ في عبور نهر ابرو
٣ سبتمبر جيش القوميين يخترق خطوط الجمهوريين عند كانديسا
٢١ سبتمبر خوان نيجرين يعلن الانسحاب المقترح للكتيبة الدولية من اسبانيا
٤ اكتوبر كل القوات الاجنبية التي تحارب في صف الجيش الجمهوري تغادر خطوط القتال
٢٨ اكتوبر بداية محاكمات قيادات حزب العمال لوحدة الماركسيين في برشلونة
١٥ نوفمبر استعراض الكتيبة الدولية لقواتها في شوارع برشلونة
١٦ نوفمبر جيش القوميين يحقق انتصارا عند نهر ابرو
١٩ نوفمبر فرانكو يمنح المانيا امتيازات تعدينية في مقابل معونتها العسكرية
١٩٣٩
٢٥ يناير خوان نيجرين ينتقل وحكومته من برشلونة الى فيجويراس
٢٦ يناير القوميون يحتلون برشلونة
٤ فبراير الرئيس مانويل ازانيا يعبر الحدود الى المنفى
٢٧ فبراير نيفيل تشمبرلين يعترف بحكومة الجنرال فرانكو
٤ مارس خوان نيجرين يحاول تشكيل حكومة شيوعية على المناطق التي يسيطر عليها
سيجيسموندو كاسادو وجوليان بيستييرو يؤسسان عصبة الدفاع الوطني المعادية لنيجرين
٦ مارس خوسيه ميايا القائد الجمهوري في مدريد ينضم الى عصبة الدفاع الوطني المعادية لنيجرين
٧ مارس لويس بارسيلو، القائد الجمهوري للفيلق الاول، يحاول استعادة مدريد
٨ مارس هزيمة القوات الشيوعية في مدريد
١٢ مارس خوان نيجرين ومستشاروه السوفيت يفرون من اسبانيا جوا.
٢٧ مارس الجيش القومي يدخل مدريد بعد حصار دام حوالي ٣ سنوات
٣٠ مارس جيش القوميين يحتل فالنسيا
١ ابريل الجنرال فرانكو يعلن نهاية الحرب الاهلية الاسبانية.

نظرة للماضي بعد سبعين سنة، بقلم: توم فيتزل
سلطة العمال والثورة الاسبانية
في الانتخابات القومية الاسبانية عام ١٩٣٦، نجح ائتلاف من الليبراليين والاشتراكيين في اكتساح حكومة يمينية قمعية ليخلعها من السلطة ويحل محلها. اطلق العمال الاسبان، مستفيدين من وجود مناخ اقل قمعا، اوسع موجة اضرابات في التاريخ الاسباني، بعشرات من الاضرابات العامة التي شملت مدن بأكملها ومئات من الاضرابات الجزئية. بنهاية يونيو كان مليون عامل قد اعلنوا الاضراب.
بعد ما يقرب من شهر بعد انتخابات فبراير ١٩٣٦، قادت فدرالية العمال الزراعيين ٨٠ الف عامل زراعي معدم في حملة للاستيلاء على ٣ الاف مزرعة في “سيبريا الاسبانية” – منطقة استريمادورا التي ضربها الفقر الطاحن . احتد الاستقطاب السياسي، وقد علت نبرة الجدل داخل البلاد حول المستقبل، بعمليات اغتيال ثأرية متبادلة بين اليسار واليمين. ومع الدعوات العلنية من السياسيين اليمينيين لاستيلاء العسكر على السلطة، بدأ في التاسع عشر من يوليو الانقلاب الذي توقعه الجميع في اسبانيا.
لاول مرة في تاريخ اسبانيا، يقاوم الشعب بطريقة هجومية محاولة استيلاء للجيش على السلطة. انهزم الجيش في ثلثي البلاد. تحركت النقابات لتصادر مقادير هائلة من ارصدة الرأسماليين، وتضع معظم الاقتصاد الاسباني تحت ادارة العمال. انشأت النقابات جيوشها العمالية الثورية الخاصة لمحاربة العسكريين الاسبان. تسببت محاولة العسكر سحق الحركة العمالية في البلاد في انطلاق ثورة الطبقة العاملة الاسبانية التي كانت تخشاها النخبة الاسبانية منذ وقت طويل. الحرب الاهلية نفسها كانت صراعا طبقيا في احد اكثر اشكاله تطرفا.
اثنان من اللاعبين الرئيسيين في هذه الدراما كانتا فدراليتين من فدراليات العمال الكبرى بالبلاد. أولاهما هي الكونفدرالية الوطنية للعمل (CNT) بعضوية اوائل عام ١٩٣٦ بلغت ١.٦ مليون عامل (طبقا للاحصاءات الحكومية). هذه الكونفدرالية هي نتيجة سبعة عقود تقريبا من العمل الاناركي لتنظيم العمال في اسبانيا. منذ عام ١٩١٩ قامت تلك الكونفدرالية على اساس “النقابة الفردية” – نقابات صناعية محلية مدارة ذاتيا. في برشلونة عام ١٩٣٦ بلغت عضوية اتحادات نقابات عمال البناء والمعادن في الكونفدرالية اكثر من ٣٠ الف عضو في كل من القطاعين.
لم يكن هناك احد في اي نقابة من اتحادات الكونفدرالية الوطنية للعمال يتلقون رواتب نظير عملهم كمسئولين فيها. احب العمال الفكرة الاناركية القائلة بأن الكفاح المشترك لا يجب ان يصبح ابدا مهنة شخصية وسبيل ارتزاق شخصي. آمن الاناركيون بفكرة أن المسئولين مدفوعي الرواتب يشجعون العمال على ان يتطلعوا اليهم بوصفهم الزعماء القادرين على حل مشاكلهم، وهذا يؤدي الى هيمنة هؤلاء الرؤساء على النقابات. في ١٩٣٦ تواجد عدد قليل جدا من القادة مدفوعي الرواتب في كونفدرالية العمل الوطنية – السكرتارية القومية، وسكرتارية منطقة قطالونيا، وسكرتارية النقابة الصناعية الوطنية لصناعة الصيد التجاري. هؤلاء المسئولون، وهيئة تحرير الصحف اليومية للكونفدرالية في مدريد وبرشلونة، كانت اجورهم تساوي اجر عامل متوسط. وكانت هذه المناصب المدفوعة الاجر تدور على شاغليها بعد سنة واحدة فقط.
الاناركيون في كونفدرالية العمل الوطنية – في الوقت الذي نظموا فيه النضالات حول الهموم المباشرة، شجعوا ايضا المناقشات حول رؤى مجتمع ما بعد الرأسمالية، دون هياكل للظلم والاضطهاد والاستغلال. “انعدام السياسة” في الكونفدرالية كان يعني انها تعارض الاستراتيجية الانتخابية او البرلمانية في التغيير الاجتماعي. كان هدف مناضلي الكونفدرالية هو تحرير الطبقة العاملة من الاضطهاد الطبقي من خلال العمل الجماعي بواسطة العمال انفسهم.
كل وحدة نقابية تتشكل من “اقسام” لها مجالسها الخاصة بها ومندوبين منتخبين عن مكان العمل. في الصناعات الانتاجية مثل النسيج والصناعات المعدنية، هناك قسم لكل منشأة او مصنع. في صناعة البناء، “الاقسام” تتطابق مع المهن المتنوعة في الصناعة. كل الاتحادات الصناعية المستقلة ذاتيا في المدينة او المقاطعة (كوماركا) تتجمع معا في مجلس عمالي محلي (الفدرالية المحلية).
كانت النقابات جزءا من سياق اوسع لمؤسسات الحركة. نظم اليسار التحرري في اسبانيا ايضا مدارس بديلة وشبكة كثيفة مما كان يسمى الاتينيوس – مقرات مراكز مجتمعية. كانت الاتينيوس مراكز للجدل، والفعاليات الثقافية، وفصول محو الامية (نسبة بين ٣٠٪ الى ٥٠٪ من السكان كانوا اميين في اسبانيا الثلاثينات)، وهكذا. الفكرة المميزة للاناركية الاسبانية كانت هي تمكين الناس العاديين، وتحضيرهم للمشاركة الفعالة في الكفاح من اجل التحول الاجتماعي.
كانت النقابية التحررية لكونفدرالية العمل الوطنية شكلا من السياسة “المجازية”. بتطويرهم لنقابات تقوم على اساس المشاركة في صنع القرار من خلال المجالس والمندوبين المنتخبين غير مدفوعي الاجر،اعتقد مناضلو الكونفدرالية انهم يمارسون شكل من التنظيم يمثل تصورا لمجتمع مستقبلي يدير العمال فيه الصناعة ويدار المجتمع ذاتيا من خلال ديموقراطية المشاركة المجالسية.
المنظمة العمالية الكبرى الثانية في اسبانيا كانت الاتحاد العام للعمال (UGT)، بعضوية ١.٤ مليون عامل في اوائل ١٩٣٦. انحاز الاتحاد العام للعمال لصف حزب العمال الاشتراكي الاسباني (PSOE) رغم ان الحزب الشيوعي الاسباني كان نشيطا داخله ايضا. كان الاتحاد العام هو اغلبية التنظيم النقابي في المناطق الوسطى القشتالية من اسبانيا، التي تشمل مدريد، وشكل كذلك اغلبية في مناطق مناجم الفحم في اوسترياس على ساحل الاطلنطي الشمالي. فدرالية العمال الزراعيين (FNTT) بالاتحاد العام للعمال بلغت عضويتها نصف مليون في ربيع عام ١٩٣٦. من خلال حملتها من اجل الاصلاح الزراعي بالاستيلاء على الاراضي، شكلت الفدرالية الفلاحية حركة ثورية جماهيرية في الريف.
الرواج الاقتصادي وفرق الموت
الحشد والتعبئة الجماهيرية والاستقطاب الاجتماعي الذي ادى الى الحرب الاهلية كان قمة ازمة اجتماعية استحكمت في اسبانيا طوال عقود. بدأت الازمة في الاعلان عن نفسها ابان فترة الحرب العالمية الاولى. اتخذت اسبانيا وضع الحياد اثناء الحرب واصبحت قادرة على التجارة مع كلا الطرفين: الحلفاء والمحور. بدأت عملية رواج للصناعة الكثيفة والتمدين في قطالونيا. واستمر كل هذا الازدهار اثناء الرواج العالمي للعشرينات. في تلك الفترة كانت برشلونة اسرع المدن في غرب اوروبا نموا. نشأت ضواحي صناعية سريعا حول المصانع الجديدة. كانت برشلونة مركزا تجاريا كبيرا في البحر المتوسط منذ العصور الوسطى، وكانت بيتا لطبقة رجال الاعمال في شتى مجالات الاقتصاد.
ايضا ادى الرواج الاقتصادي بسبب الحرب العالمية الاولى الى نمو المنظمتان الرئيسيتان للعمال في اسبانيا، الكونفدرالية والاتحاد العام. وشجعت الثورة الروسية في فبراير ١٩١٧ ايضا على ظهور اتجاه راديكالي بشكل متنامي. كانت اعلى نقطة في الكفاح العمالي اثناء الحرب العالمية الاولى اضرابا وطنيا عاما في ١٩١٧، ايدته كلتا المنظمتان، الكونفدرالية والاتحاد العام. في برشلونة سادت الكونفدرالية على المدنية حتى تحرك الجيش لقمع الاضراب. (رواية فيكتور سيرج “ميلاد سلطتنا” هي رواية مؤثرة عن احداث الاضراب العام في برشلونة عام ١٩١٧).
لمواجهة التهديد المتنامي للكونفدرالية في قطالونيا، بدأ سيفريانو مارتينيز انيدو، رئيس شرطة برشلونة، تجنيد مسلحين لاغتيال مسئولي ونشطاء الكونفدرالية، بمساعدة البوليس. قدم اصحاب الاعمال ومسئولو الكنيسة الكاثوليكية الرومانية التمويل اللازم لفرق الموت هذه. اثناء هذه الفترة وقعت ٤٤٠ محاولة قتل عمال في قطالونيا . اجبر العمال على الانضمام قسرا لنقابات العمال “الصفراء”، (“الاتحادات النقابية الحرة”)، تحت تهديد السلاح. قلب صغير من العمال الكارليين المتدينين كانوا قد شكلوا هذه النقابات الحرة. الكارلية كانت شكلا من الفكر السياسي الكاثوليكي اليميني في اسبانيا. كرد فعل، شكل بعض الاناركيين الشباب مجموعات عمل مسلح، قامت بعمليات ثأرية اغتالت فيها اصحاب الاعمال وزعماء الكنيسة الذين شاع عنهم تمويلهم لفرق الموت تلك.
لسنوات ظلت اسبانيا تحاول التمسك باخر قطعة ارض من امبراطوريتها في المغرب. في ١٩٢٣ احدى الحملات العسكرية في المغرب، ارسلها الملك الفونسو، افضت الى كارثة راح فيها ١٠ الاف جندي اسباني. اطبق الجيش بالديكتاتورية على اسبانيا، برئاسة الجنرال ميجويل بريمو دا ريفيرا، جزئيا كوسيلة لقمع الغضب الناتج عن هذه الكارثة. تم حظر الكونفدرالية في عموم البلاد. تقدم بريمو دا ريفيرا مخططا لدمج الاتحادات النقابية في الدولة بواسطة هيئات التحكيم؛ وشجع الجنرال مشاركة الاتحاد العام للعمال بوصفه بديل “اكثر مسئولية” من الكونفدرالية. “النقابات الحرة”، التي بشرت بالتناغم بين العمل ورأس المال وبشكل من الفاشية الكهنوتية البروليتارية، تنافست مع الاتحاد العام للعمال على التمثيل داخل هيئات التحكيم. شكلت النقابات الحرة، بدعم من الدولة ورجال الاعمال، منظمة على المستوى القومي عام ١٩٢٥ (الفدرالية الوطنية للنقابات الحرة – FNSL) بعضوية ٢٠٠ الف ، مساوية في الحجم تقريبا للاتحاد العام للعمال.
اضراب الايجارات الجماهيري
هرب الملك من البلاد مع انهيار الديكتاتورية عام ١٩٣٠. جاءت الانتخابات بتحالف من الليبراليين والاشتراكيين الى السلطة، ليحكموا جمهورية جديدة. استعادت نقابات الكونفدرالية الوطنية للعمل الحق القانوني في التنظيم.
اتحاد نقابات عمال برشلونة للبناء في الكونفدرالية، في مواجهة البطالة المتنامية والرغبة في اعادة بناء منظمتهم، بدأوا حملة لاجتياح مواقع البناء لضم اعضاء ولمطالبة المقاولين باستئجار مزيد من العمال بنسبة ١٥٪. كان منطق نقابات البناء ان قطاع الاسكان في قطالونيا قد حقق ارباحا خيالية اثناء فترة الرواج في العشرينات – ارباح ارتبطت باستثمارات غير انتاجية. زيادة اعداد العاملين في الصناعة سوف يساعد على دوران مزيد من النقود، مما يساعد على معارضة الاتجاه نحو الركود. مع تدفق العمال الى الوحدات النقابية لكونفدرالية العمل الوطنية، انهارت اتحادات مهن البناء في فدرالية النقابات الحرة الكاثوليكية.
في اواخر العشرينات، بدأ جدل على مستوى هيئة الكونفدرالية حول الاتجاه المستقبلي للاتحادات النقابية. احد جوانب هذا الجدال كان اقتراحا لمجموعة اتحادات محلية في اتحادات الصناعة الوطنية من اجل عمل منسق ضد اصحاب العمل في الصناعة عبر البلاد كلها. خوان بييرو – عامل زجاج متعلم تعليما ذاتيا ومنظر نقابي ذو وزن كبير – استطاع اقناع كونجرس الكونفدرالية بالسماح لقيام اتحادات وطنية داخل الصناعة في ١٩٣١. ومع ذلك، بعض الاناركيين عارضوا هذا المقترح على ارضية انه قد يؤدي الى تطور بيروقراطية جديدة تتشكل من مسئولين مدفوعي الاجر لا تستطيع النقابات المحلية وقتها السيطرة عليهم. نتيجة لهذه المعارضة، نشأت اتحادات وطنية للنقابات في صناعات قليلة جدا داخل الكونفدرالية قبل عام ١٩٣٦. قام اتحاد وطني نقابي للصناعة بين عمال شركة الهاتف الوطنية الاسبانية. في ١٩٣١، شنت الكونفدرالية اضرابا عبر البلاد ضد شركة التليفونات. كان ذلك مبادرة للشروع في نضال نقابي من اجل الدفاع عن حقوق قوة العمل النسوي التي كانت تعمل بشكل كبير في وحدات التحكم المركزي لتشغيل خطوط الهاتف.
جانب اخر من الجدال داخل الكونفدرالية كان هو كيفية الخروج من قفص النضال داخل الصناعة الذي يركز فقط على قضايا الاجور وظروف العمل. كان هناك شعورا قويا بأن الكونفدرالية تحتاج الى مد نفوذها ليتجاوز سياق الكفاح العمالي الصرف الى مناطق اخرى من المجتمع. نادى خوان بييرو بتشكيل لجان احياء سكانية للتنظيم حول القضايا الاعرض التي تهم الطبقة العاملة، وليس فقط المسائل المتعلقة بظروف العمل.
اثناء رواج العشرينات، ارتفعت الايجارات حوالي ١٥٠٪ في برشلونة. الازدحام، وبناء البيوت الرخيصة بواسطة كبار الملاك خربي الذمة والاسكان دون المرافق الاساسية مثل المياة اصبح امرا شائعا. في بدايات الثلاثينات، بدأ نشطاء الكونفدرالية مناقشة امكانية الكفاح حول مسائل الايجارات، وبدأت المقالات حول ازمة السكن في الظهور في الصحيفة اليومية الكبرى التي تديرها الكونفدرالية في برشلونة، سوليداريداد اوبريرا.
بدأ الكفاح ضد الايجارات بلقاء جماهيري لاتحاد بناء الكونفدرالية في ابريل عام ١٩٣١. في هذا اللقاء اقترح ارتورو باريرا وسانتياجو بيلباو تشكيل لجنة دفاع اقتصادي، بمشاركة اتحادات نقابية اخرى. كان كلا من باريرا وبيلباو اعضاء بارزين في فدرالية الاناركيين الايبريين (FAI). هذه الفدرالية كانت اندماجا فضفاضا لجماعات اناركية عملت بشكل اكبر كتكتلات داخل اتحادات الكونفدرالية النقابية.
بعد سلسلة من لقاءات لجان الاحياء، استقرت حملة الايجارات على مطلب بتنزيل الايجارات ٤٠٪ في لقاء جماهيري بقصر الفنون الجميلة في الخامس من يوليو. قرر اللقاء ان مقدمات الايجار التي يدفعها المستأجرون يجب استخدامها لدفع ايجار الشهر التالي وبعد ذلك سوف يرفض المستأجرون دفع الايجار اذا لم يوافق اصحاب العقارات الكبار على تخفيض الايجار. هيئة الغرفة التجارية لاملاك المدن – منظمة اصحاب العقارات – نددت بالحملة بوصفها انتهاك اجرامي لحقوقهم. طالبت الغرفة الشرطة بالعمل من اجل قمع هذه الحملة. بنهاية اغسطس، اخذت مفوضية الدفاع الاقتصادي تعلن ان ١٠٠ الف من الناس توقفوا عن دفع الايجار.
الطاقات التي انضمت الى الكفاح من اجل الايجار العادل تعدت العضوية التي كانت قائمة وقتها في كونفدرالية العمل الوطنية وانضمت اعداد كبيرة من النساء اللائي كن لهن دورا نشيطا في الكفاح. في احد المرات جماعة من الاسالتوس (asaltos) – فرق الاغارة – قوة بوليس وطنية شبه عسكرية انشأها السياسيون الجمهوريون في اوائل الثلاثينات – ارسلت لاخلاء احد المستأجرين، تراجعت تلك القوة متقهقرة عندما واجهتها جموع حاشدة من النسوة والاطفال. ولأن موظفي البلدية المسئولين عن تنفيذ قرارات الاخلاء كان يتهيبون القيام بذلك امام حشود الناس او بسبب تعاطفهم مع اضراب الايجارات، بدأ كبار الملاك تجنيد ميليشياتهم الخاصة لتنفيذ قرارات الاخلاء.
اشتكت منظمة كبار الملاك للحكومة الوطنية وطالبتها بالتحرك لقمع الاضراب. لارجو كاباليرو، السكرتير التنفيذي للاتحاد العام للعمال واحد زعماء الحزب الاشتراكي الاسباني، كان عضوا في وزارة حكومة التحالف الاشتراكي الليبرالي. كاباليرو لم يكن متعاطفا مع اضراب الايجارات، واصفا اياه “بالاضراب الاحمق”. في نفس الوقت، اتحاد كاباليرو العام للعمال كان يوفر غطاءا لكسر اضراب التليفون الذي تقوده كونفدرالية العمل في مدريد.
وسط حركة الاضراب في برشلونة، حدث تفجيرا هائلا. لم يصب احد، ولكن وقع دمار شديد بمعدات التليفونات هناك. وحتى رغم انه لم تكن هناك صلة بين هذا الانفجار واضراب الايجار، استخدمت الحكومة هذا الانفجار ذريعة لحظر لقاءات مفوضية الدفاع الاقتصادي. حظرت الحكومة ايضا لقاءات اتحاد نقابات التليفونات المشارك في الكونفدرالية.
عينت الحكومة الوطنية محاميا من التيار المحافظ كحاكم مدني لقطالونيا الذي اعلن انه ببساطة لن يسمح باستمرار اضراب الايجارات. بدأت السلطات في استخدام الاعتقال الوقائي لاحتجاز سانتياجو بيلباو و٥٢ اخرين من نشطاء الكونفدرالية. كان معنى الاعتقال الوقائي ان بالامكان احتجاز الشخص لاجل غير مسمى دون توجيه اي تهمة له ودون تحويله للقضاء. تلك كانت احد الوسائل الكريهة التي استخدمتها الديكتاتورية العسكرية. ظن الناس ان تلك الاساليب هي اساليب من الماضي لا تستخدمها الجمهورية الجديدة.
فعليا، استطاع البوليس قمع اضراب الايجارات عن طريق القبض على المستأجرين الذين كانوا قد عادوا الى شققهم بمساعدة جيرانهم بعد اخلاءهم منها. ورغم ذلك، في مناطق عديدة من المدينة دخل عدد من الملاك الافراد في صفقات لتخفيض الايجار مع المستأجرين. لهذا شعر عديد من المستأجرين انهم قد اكتسبوا شيئا ما. بالنسبة للجيل الاصغر من اعضاء الكونفدرالية، تلك كانت المرة الاولى التي ينخرطون فيها في حملات عمل مباشر على نطاق واسع. بالنسبة للمشاركين من الطبقة العاملة كان ذلك درسا مباشرا في الطريقة التي تصطف بها تلاوين كبيرة من المجموعات ضدهم، من ملاك العقارات الى السياسيين الى رجال الشرطة .
الارض والكنيسة
كانت اسبانيا في الثلاثينات بلدا يعيش تطورا اقتصاديا غير متساوي. ربما تبدو قطالونيا الصناعية الثرية مثل مناطق اخرى متطورة في بلاد اوروبا الغربية، ولكن المناطق الاسبانية الاخرى كانت بالاحرى مختلفة. كانت اسبانيا ما تزال بلدا زراعيا، ٤٥.٥٪ من السكان “ذوي النشاط الاقتصادي” يعملون في مهن مرتبطة بالزراعة. في اي بلد زراعي جزء كبير من الثروة مرتبط بملكية الارض. في جنوب جبال جواداراما توجد منطقة الاقطاعيات التي يعمل بها الاقنان، هذا الاقليم الذي تعرض لغزو الجيش القشتالي من بلاد المور في العصور الوسطى. كان المستثمرون الرأسماليون يرعون تلك الاقطاعيات – اقطاعيات ضخمة – بعد كسر القيود الاقطاعية على بيع الاراضي في القرن التاسع عشر. في هذا الاقليم امتلكت ٢٠٠٠ عائلة ٩٠٪ من الارض. في الوقت الذي يستخدم ٧٥٠ الف عامل معدم دون ارض في زراعة هذه الارض باجور تساوي حد الكفاف.
شمال جبال الجواداراما مناطق تملك فيها الفلاحين الصغار مزارع صغيرة الى متوسطة المساحة. في بعض مناطق الشمال، كانت الحيازات صغيرة جدا الى الحد الذي لا يكفي لاعاشة اسرة واحدة. اضطر الفلاحون الى تأجير انفسهم مقابل اجر، او العمل في الحصاد مقابل حصة من المحصول.
القاعدة الاجتماعية الرئيسية لاحزاب اليمين المتطرف كانت من المزارعين الذين يمتلكون الارض في مناطق الشمال مثل قشتالة القديمة ونافاري، والشريحة الوسطى المتدينة – رجال الاعمال الصغار، والمحامون، والموظفون الخ – في بلدات المحافظات. في المدن الكبيرة وعلى طول ساحل الاطلنطي وسواحل البحر المتوسط تلك الطبقات الوسطى كانت القاعدة الاجتماعية للاحزاب الجمهورية الليبرالية.
اعتبرت طبقات النخبة في اسبانيا الكنيسة الكاثوليكية الرومانية الاسبانية كعامل ايديولوجي جوهري للنظام الاجتماعي. ولكن الكنيسة كانت مكروهة بشكل واسع بين اوساط الطبقة العاملة بسبب تبشيرها الذي نادى بالرضا بالفقر بينما تكتنز ارصدة واموال واسعة وتحتضن القطاعات الاوفر حظوظا والاوسع ثراءا في المجتمع. في الثلاثينات كان عدد رجال الدين في اسبانيا اكبر من اي بلد اخر ما عدا ايطاليا. تواجد ٣٥ الف اسقف و٨٠ الف راهب وراهبة. ورغم ذلك، لم يكن حضور اللقاءات الدينية واسعا جدا. جنوب جبال الجواداراما، بلغ هذا الحضور نسبة متدنية تساوي ٥٪ من السكان . للعلم كان معني معارضة الكنيسة ان العديد من المدرسين والاطباء كانوا ضد رجال الدين. معاداة رجال الدين شاعت بين اليسار الاسباني، من الاناركيين العماليين الى الجمهوريين الليبراليين من الطبقات المتوسطة.
اول حكومة ليبرالية/اشتراكية في ١٩٣١ هاجمت سلطة الكنيسة عن طريق عدم التصريح باي دور للكنيسة في التعليم غير النصائح الدينية. تم حل نظام الجيزويت القوي. تأسس نظام الزواج والطلاق المدني.
الانتفاضات وصراع الفصائل.
انخرط الائتلاف الليبرالي/الاشتراكي ايضا في اعمال قمع متنوعة موجهة ضد نقابات الكونفدرالية الوطنية للعمل. رحب كاباليرو بهذه التدابير القمعية وانتهزها فرصة لبناء نقابات الاتحاد العام للعمال على حساب الكونفدرالية. في هذا المناخ القمعي، والذي دفع بالكونفدرالية الى مواجهات مباشرة مع السلطات، عدد من المجموعات الاناركية في الكونفدرالية دفعت النقابات الى محاولة اضراب عام ثوري والى انتفاضات مغامرة. في سيناريو نمطي، جماعة من الاناركيين تستولي على مبنى البلدية، وترفع عليه العلم باللونين الاحمر والاسود، وتحرق سجلات الملكية وتعلن قيام “الشيوعية التحررية” في البلدة. اطلق المدافعون عن هذه الاساليب عليها اسم “التمرينات الثورية”. محاولات الانتفاضة هذه كانت ردة للمفهوم الاناركي في القرن التاسع عشر المعروف باسم “الدعاية من خلال الفعل” – فكرة ان عمل يضرب به المثل يقوم به مجموعة ثوار يمكنه ان يشعل شرارة هبة جماهيرية تلقائية. في اكثر هذه المحاولات سوءا – اضرابا عاما قوميا في يناير ١٩٣٣- نفذت فرق الاعدام شبه العسكرية مذبحة في قرية كاساس فييجاس بالاندلس. احرقت عائلة بأكملها في كوخها واطلق البوليس النار على من استسلم من الاخرين.
اسوأ مخاوف العديد من النقابيين تحققت في هبة يناير ١٩٣٣: كتب جيروم مينتز، ” حفنة صغيرة من المتشددين استخدمت الكونفدرالية الوطنية ونقاباتها الاقليمية وورطوا كامل العضوية في اعمال خطيرة ومؤذية. سحلت العضوية سحلا شديدا في قتال الشوارع، وقبض على الزعماء وتعرضوا للضرب، واغلقت النقابات “.
من وجهة النظر السينديكالية، التحول الاجتماعي يتطلب تنظيم وتعليم الطبقة العاملة بشكل مسبق، وتطوير مهاراتها وثقتها بنفسها، وصنع استراتيجية ثورية متماسكة، وليس اعتمادا على “التلقائية” الصرف. خوان بييرو، في كتابه “السينديكالية” الصادر عام ١٩٣٣، وضع الفكرة كالتالي:
“بالنسبة لنا، الثورة الاجتماعية ليست موضوع الانتفاض بشكل عنيف ضد قوات الدولة النظامية… تتكون الثورة الاجتماعية من الاستيلاء على المصانع والمناجم، والارض والسكك الحديدية. لا يكفي ان تستولى على الثروة الاجتماعية، من الضروري ان تعرف كيف تستخدمها – وان تستخدمها فورا، دون اي انقطاع “.
سوف يكون”الاستمرار” مضمونا بحقيقة ان التحول الاجتماعي يتم تنفيذه بواسطة العمال انفسهم، الذين يمتلكون المهارة لاستمرار تشغيل الصناعة.
صراع الفصائل داخل الكونفدرالية الوطنية للعمل في اوائل الثلاثينات اشتعلت سخونته بعد ارسال مجموعة من ثلاثين مسئولا وناشطا في النقابات وثيقة مكتوبة الى صحافة الرأسماليين ينتقدون فيها ما زعموا انه “ديكتاتورية” تهيمن على الكونفدرالية بواسطة فدرالية الاناركيين الايبيرية. اشتهر الناشطون الثلاثون واتباعهم باسم الاتجاه الثلاثيني. لم يكن الثلاثينيون فقط هم المعارضون للانتفاضات المغامرة التي تقوم بها فدرالية الاناركيين الايبيريين بقطالونيا. مجموعات فدرالية الاناركيين خارج قطالونيا اتخذت موقفا نقديا ايضا. بقيام الجمهورية، احد قيادات الثلاثينيين – انجيل بيستانيا – بدأ الدفاع عن فكرة تشكيل حزب سياسي للعمال، وسرعان ما اسس الحزب السينديكالي ليدخل منافسا في الانتخابات البرلمانية. ورغم ان معظم الثلاثينيين لم يتبع بيستانيا في سياسة الانتخابات، قلق اناركيون شتى من ان يكون ذلك هو الطريق الذي يتوجه اليه الثلاثينيون.
وثارت هواجس فدرالية الاناركيين في قطالونيا بسبب جماعة لينينية منتظمة داخل نقابات كونفدرالية العمل الوطنية. في ١٩٣٠ فدرالية عمال قطالونيا وجزر البليار اندمجت مع اغلبية من الحزب الشيوعي القطالوني لتشكل كتلة العمال والفلاحين (BOC). كتلة العمال والفلاحين كانت كتلة معادية للستالينية رغم اتخاذها القالب اللينيني “لحزب الطليعة”. كانت كتلة العمال والفلاحين قوية على نحو خاص في منطقة لايدا. احد الشخصيات القيادية في الكونفدرالية بمنطقة لايدا كان يواقين مورين، المدرس الشعبي. مورين كان قائدا لهذه الكتلة.
حاولت الكتلة ايضا تحقيق السيطرة على المراكز المجتمعية (الاتينيوس) في قطالونيا. كانت الهيئة الرئيسية التي تتخذ القرارات في تلك المراكز المجتمعية هي المجالس الدورية التي تنتخب اللجنة الادارية للمركز. استعرضت الكتلة قوتها في تلك المجالس لتحقيق السيطرة على اللجنة الادارية.
بحلول عام ١٩٣٢ حققت الفدرالية الاناركية الايبيرية قدر من الهيمنة على كونفدرالية العمل الوطنية كافي ليجعلها قادرة على طرد النقابات التي تهيمن عليها جماعة الثلاثينيين وكتلة العمال والفلاحين. نتيجة لذلك فقدت كونفدرالية العمل الوطنية معظم تنظيماتها النقابية في منطقة لايدا. في ١٩٣٤ شكلت النقابات التي تسيطر عليها كتلة العمال والفلاحين فدرالية جديدة للعمال، وهي فدرالية العمل للوحدة النقابية (FOUS). في ١٩٣٥ اندمجت الكتلة مع جماعة لينينية اصغر وغيرت اسمها لحزب العمال لتوحيد الماركسيين (POUM).
في ١٩٣٣ كسبت الاحزاب اليمينية الانتخابات، ودخلت اسبانيا مرحلة الحكم القمعي، المعروفة باسم “السنتان السود”. في هذا الوقت لارجو كاباليرو وكثير من اعضاء الحزب الاشتراكي بدأوا في الميل يسارا. بدأ كاباليرو في الحديث عن الحاجة الى “ثورة بروليتارية” و”حكومة عمال”.
عدد من الاحداث ادى الى تحول حزب العمال الاشتراكي الاسباني الى اليسار: صعود هتلر الى السلطة في المانيا والحزب الاجتماعي المسيحي الفاشي الكهنوتي في النمسا، وارتفاع معدلات البطالة، والغضب الشعبي نتيجة مذبحة قرية كاساس فييجاس، وتصلب اصحاب الاعمال الاسبان. كميات الاموال القليلة التي اتيحت لتقديم اراض الى الفلاحين معدمي الارض بواسطة الحكومة لم تكن كافية على الاطلاق لانجاز القدر المطلوب من الاصلاح الزراعي. كان هناك القليل جدا من الفائدة التي يمكن تعيينها من تحالف حزب العمال الاشتراكي الاسباني مع الجمهوريين الليبراليين في سنوات ١٩٣١-١٩٣٣.
احد علامات انتقال الاشتراكيين الى اليسار كانت محاولة قام بها الحزب اثناء الاضراب الوطني العام في اكتوبر ١٩٣٤. علاقات الحزب مع كونفدرالية العمل الوطنية لم تكن قد تطورت بعد، ولم يتحقق بينهما الا قدر قليل من التنسيق مما حكم على الاضراب بالفشل في معظم انحاء اسبانيا. كان الوضع مختلفا في استورياس حيث عمل الاتحاد العام للعمال والكونفدرالية سويا من اجل تطوير “تحالف عمالي” لمدة شهور. وهكذا في اكتوبر امسكت النقاباتان بزمام المنطقة لمدة اسبوعين، في انتفاضة مشتركة. ولكنهما كانتا معزولتين. عندما ارسلوا بالجيش لسحق التمرد، قتل الالاف وارسلوا بالاف عدة الى السجون. اغتصبت زوجات وبنات المتمردين وتعرضن للايذاء والتشويه البدني بواسطة الكتيبة الاجنبية – وهي وحدة من الجيش تشكلت من المجرمين وقطاع الطرق وعصابات اللصوص من بلاد عديدة. القت الانتفاضة بالذعر في قلوب طبقات النخبة بينما استبعد القمع الوحشي الطبقة العاملة لتنأى بنفسها عن الاحداث.
الرؤية اليسارية التحررية
في اوائل عام ١٩٣٦ بلغت عضوية الاتحاد العام للعمال والكونفدرالية الوطنية للعمل اعلى مستوى لها في كل الاوقات. وفي الاثناء التي امسك بخناق البلاد كلها جدل مكثف حول المستقبل، انتشرت موجة من الاضرابات عمت انحاء البلاد، متضمنة اضرابات عامة عديدة باتساع المجتمع كله. بانتصار تحالف الاشتراكيين والليبراليين في انتخابات فبراير، امكن للعمال ان يتوقعوا فسحة يتنفسون فيها لتنظيم اضرابات وللضغط من اجل التغيير. كانت اتحادات العمال الزراعيين تنفذ اصلاحها الزراعي عبر استيلاء جماهيري على الاراضي الزراعية. منظر الجماعة الثلاثينية خوان بييرو اخبر صحفيا من الصحفيين في مايو: “الجماهير تتحرك نحو الثورة”.
العديد من الناس، مع نداء نشطاء اليمين الى الجيش للامساك بالسلطة، توقعوا انقلابا عسكريا. في وسط هذا المناخ من الحشد والتعبئة والازمة، عقدت كونفدرالية العمل الوطنية كونجرسا قوميا في سرقسطة. بحلول عام ١٩٣٥ كانت الجماعات الاناركية القطلونية قد تحركت بعيدا عن مرحلتها المبكرة التي كانت تنادي فيها بالانتفاضات الثورية واتجهت صوب مصالحة مع الثلاثينيين. الفيدرالية الاناركية الايبيرية، حتى توفر اقصى وحدة ممكنة من اجل المعارك القادمة، دعت انصار الثلاثينيين الى العودة الى الكونفدرالية الوطنية للعمل.
من بين القضايا التي تناولها الكونجرس كانت رؤية الكونفدرالية لنوع المجتمع الذي تريد خلقه، وهو ما اطلقت عليه اسم “الشيوعية التحررية”. وثيقة الرؤية التي اقرها كونجرس سرقسطة حاولت خلق تأثيرات نافذة اناركية كوميونالية وسينديكالية تحررية على التفكير اليساري التحرري الاسباني في تصوراته لمجتمع ما بعد الرأسمالية.
وضع تصور لهيكل مزدوج الحاكمية للمجتمع، يقوم على اساس مجالس اماكن العمل ومجالس السكان في مناطق سكنهم بالقرى واحياء المدن. تنتخب مجالس اماكن العمل هيئات وتتصل هذه الهيئات في فدرالية قومية للصناعة، لادارة مختلف الصناعات.
وضع الكونجرس ايضا تشديدا قويا على “البلديات الحرة” واستقلالها الذاتي، ليعكس تأثرا قويا للاناركية الكوميونالية. وهذا عن طريق مؤسسة تضرب بجذورها في مجالس السكان بالقرى والاحياء الحضرية. في المدن الكبيرة، مثل برشلونة، تنتخب المجالس مجلسا للبلدية. اعضاء هذا المجلس البلدي سوف يستمرون في العمل في وظائفهم المعتادة في مجال الانتاج الاجتماعي، والقضايا الهامة سوف ترجع الى المجالس القاعدية من اجل اتخاذ القرار.
في كتيب التخطيط الاجتماعي المقترح من قبل دييجو عباد دي سانتيلان ، الفدراليات القومية للصناعات وهي فدراليات تتمتع بالاستقلال الذاتي على تنوعها سوف تتصل بمجلس اقتصادي، يعمل بدوره كهيئة تنسيقية. ولكن الخطط الفعلية سوف تتطور بواسطة المؤتمرات الاقليمية والقومية لمندوبين من فدراليات الصناعة، بمساعدة طاقم للدعم الفني. وهذه النظرة، في الواقع العملي، نسخة سينديكالية ديموقراطية للتخطيط التشاركي.
تختلف وثيقة الرؤية لكونجرس سرقسطة عن اقتراح عباد دي سانتيلان باضافة هيكل لمجالس السكان وفدراليات جغرافية لهؤلاء السكان كتعبير عن الحكم الذاتي السياسي وايضا كقناة ليدلي المستهلك برأيه، مع اضطلاعه بمسئولية تسيير وعدم تعارض الاقتراحات الخاصة بالخدمات العامة مثل الرعاية الصحية والاعلام وتخطيط المدن والاسكان. ولكن كيف سينضم عمليا صوت المستهلكين الى نظام التخطيط الاجتماعي؟ في الحقيقة لم تقل وثيقة سرقسطة شيئا عن ذلك. لم تمتلك الاناركية التقليدية مفهوما ما عن التخطيط التشاركي – التطور التفاعلي لخطة اجتماعية من خلال التفاوض بين العمال والمستهلكين.
قدمت وثيقة سرقسطة طريقا لوصل البلديات الحرة في مؤتمرات شعبية قومية واقليمية. في الواقع العملي، مهدت تلك الطريقة السبيل الى هيئات تشريعية محلية واقليمية وقومية. وضعت الوثيقة ايضا تصورا “لميليشيا شعبية” – بكلمات اخرى، جيشا – كوسيلة للدفاع عن النظام الاجتماعي الجديد . الهيكل الذي يستطيع ان يضع احكام وقواعد لمجتمع والذي يدافع عن السلطة التي تنفذ هذه الاحكام والقوانين بالقوة؛ هذا الهيكل هو في الواقع فكرة سياسية، شكل من الحكم. إن لم تكن الحياة السياسية التحررية هي دولة، اذا المطلوب هو وضع تمييز بين الحياة السياسية (او هيكل للحكم) والدولة. الاناركيون التقليديون الذين كتبوا حول هذه المسألة لم يكونوا واضحين فيها بشكل كبير.
محاولة بيتر كروبوتكين لوضع هذا التمييز ادت الى التشديد على الاستقلال الذاتي المحلي واللامركزية المميزة للاناركية الكوميونالية الاسبانية: لان “الدولة تأسست من اجل غرض محدد وهو فرض حكم الطبقات المهيمنة، اي حركة نحو تحويل الاقتصاد الى الشكل الاجتماعي و”تحرير العمل” يتطلب “شكلا جديدا من التنظيم السياسي” يكون “اكثر شعبية، اكثر لا مركزية، اقرب الى حكم ذاتي شعبي” منه الى “حكومة نيابية”، التي تمثل نوع الدولة المميزة للرأسمالية، من وجهة نظر كروبوتكين .
ورغم ان كونجرس سرقسطة تبنى اقتراحا من اجل “تحالف عمال ثوري” مع فدرالية نقابات اتحاد العمال العام، فشل الكونجرس في مناقشة استراتيجية فعلية او برنامج عملي في مواجهة الوضع المباشر الذي تواجهه كونفدرالية العمل الوطنية. نتيجة لذلك، اجبرت الكونفدرالية على “اتخاذ خطوات عملية في اضطراب شامل ” (بكلمات قيصر ام لورينزو) بعد الكونجرس بشهرين، في اعقاب الانقلاب العسكري الذي استولى على الحكم.
الانقلاب
بدأ استيلاء الجيش في اسبانيا في ساعات الصباح الاولى ليوم التاسع عشر من يوليو. في الخامسة صباحا بدأت صافرات المصانع ببرشلونة في الانطلاق. رتبت الكونفدرالية عملية اطلاق صافرات المصانع كاشارة تنبيه لمنظمة الدفاع التابعة لها بأن الجيش يتحرك وان القوات العسكرية تخرج من قواعدها. كانت الكونفدرالية قد نظمت حوالي ٢٠٠ مجموعة دفاع عن الاحياء في انحاء منطقة برشلونة، تتكون هذه المجموعات من حوالي ٢٠٠٠ ناشط مسلح، وقد انشأت الكونفدرالية لجنة دفاع عمالية اقليمية للتنسيق بين هذه المجموعات. في الليلة السابقة على الانقلاب اسرت مجموعات الدفاع العمالية شحنة من السلاح من على سفينة راسية في ميناء برشلونة.
وعندما ركزت الكونفدرالية قواتها عند احد قواعد الجيش في الصباح، قام رقيب في الجيش الاسباني باطلاق الرصاص على ضابطه الفاشي واقنع زملاءه الجنود بالاستسلام. وهكذا فتحت الكونفدرالية طريقا للحصول على مدد كبير من السلاح. الموظفون في شركة الحافلات اسروا السيارات المدرعة التي تستخدمها الشركة لنقل الاموال السائلة واستخدموها كسيارات مدرعة في القتال. فور انتقال الكونفدرالية الى العمل المباشر ضد الجيش، اشتركت الميليشيات شبه العسكرية في القتال. في برشلونة، باحد احياء الطبقة العاملة حول ثكنات للجيش، قام رائد في الشرطة بتسليم السلاح لأي شخص يستطيع ان يظهر له بطاقة النقابة. بدأ الطيارون في القوات الجوية الاسبانية قصف مواقع الجيش حول برشلونة والاغارة عليها.
لم يحدث في اي مكان باسبانيا ان اتخذ صف جنود الشرطة المبادرة في قتال الجيش من انفسهم. في المواقع التي فشل العمال فيها بالقيام بتحركات هجومية مسلحة ومنحوا ثقتهم للمسئولين في الحكومة الليبرالية، لعب البوليس لعبة الصبر والانتظار. في معقل الكونفدرالية القوي بسرقسطة، في اراجون، وضع احد زعماء الكونفدرالية المحليين ثقته في احد المسئولين المحليين الجمهوريين الليبراليين. عندما تمرد الجيش، كانت النتيجة مذبحة رهيبة. في عام ١٩٧٩ اكتشفت مقبرة جماعية خارج سرقسطة تحتوي على ٧ الاف جثة.
تقريبا في كل مكان باسبانيا تحرك نشطاء النقابات فيه بطريقة هجومية ضد الانتفاضة العسكرية وانضمت لهم قوى الشرطة، انهزم الانقلاب العسكري. في مدريد عديد من اعضاء حرس الهجوم كانوا اشتراكيين. اماكن قليلة هي التي استطاع الناس فيها هزيمة الجيش دون مساعدة البوليس. لم يكن هناك مكان في اسبانيا تمرد فيه جنود الجيش ضد ضباطهم دون ان يحاصرهم العمال ورجال الشرطة الغاضبون.
ضباط البحرية الاسبانية كان معظمهم تقريبا من ذوي الدماء الزرقاء ابناء الطغمة المالية من كبار ملاك الارض. كانوا يحتقرون الصفوف الادنى من البحارة. العديد من البحارة الاسبان كانوا يعملون سابقا في صناعة النقل البحري التجاري في اسبانيا حيث كانوا على الاغلب اعضاء في نقابات الكونفدرالية او نقابات الاتحاد العام للعمال. كانوا هم ايضا يكرهون ضباطهم. في الليلة التي سبقت التاسع عشر من يوليو عقد البحارة في الاسطول الاسباني اجتماعات سرية، وانتخبوا لجان السفن، وشرعوا في القبض على الضباط الفاشيست او اطلاق النار عليهم.
بنهاية الاسبوعين، فقد الجنرالات الفاشيست تقريبا نصف قوة جيشهم القائم في اسبانيا، و٤٠٪ من قوة الشرطة وثلثي قوة البحرية ومعظم القوات الجوية. انهزم الانقلاب العسكري في ثلثي اسبانيا، بما فيها المناطق الصناعية والمدن الكبيرة.
اهم قوة كانت متاحة للجنرالات الفاشيست هي ٢٥ الف رجل يشكلون قوام الجيش الافريقي، وهي القوة الاستعمارية التي صلبت عودها المعارك من المرتزقة ورجال العصابات الاجرامية. ومع سيطرة البحارة على سفن البلاد الحربية في يوليو، وتلك السفن تجوب مضيق جبل طارق جيئة وذهابا، اصبحت امكانية النقل البحري لجيش افريقيا من المغرب الى اسبانيا قضية مستحيلة مؤقتا. عند هذه النقطة، مدت المانيا النازية يد العون للجنرالات الفاشيست الاسبان بتزويدهم بطائرات وطيارين المان لنقل جيش افريقيا الى اسبانيا – وهو اول جسر جوي ينقل جيشا بأكمله الى ميدان المعركة في التاريخ العسكري. ومع استيلاء العمال على معامل تكرير النفط ومحطات البنزين في اسبانيا، تعرض الجيش الفاشي لخطر نفاد الوقود منه. قدمت شركة تكساكو ساعتها شكلا اخر من المعونات الدولية. الرئيس التنفيذي لهذه الشركة امر ناقلات النفط البحرية التي تجوب البحار التوجه الى الموانئ التي يسيطر عليها الجيش الفاشستي. زودت الشركة الجيش بخمسة ملايين دولار بنزين في مقابل دفع آجل للثمن.
وفي نفس الوقت، ضباط البحرية البريطانية في جبل طارق اصابهم الرعب من مشاهدة السفن الحربية الاسبانية يقودها بحارة من الرتب الادنى غير مبالين بالقواعد التقليدية المرعية للزي وتبادل التحيات برفع قبضات اليد. عاون ضباط البحرية البريطانية الفاشيست الاسبان معاونة مباشرة. عندما كان الجيش الاسباني يحاصر من البر بلدة الجيسيراس، حاول بحارة الاسطول الاسباني حماية البلدة من البحر عن طريق اطلاق نيران مدافع سفنهم ضد مواقع الجيش الفاشي. منعت البحرية البريطانية ذلك بواسطة تحرك السفن الحربية البريطانية امام البلدة.
انشأت لجان تطهير في المدن التي استولى عليها الجيش الفاشي. تشكلت هذه اللجان بشكل نمطي من مسئول من البوليس، وكاهن، وممثل كتائب الفاشيست، ومالك ارض محلي. اعدت قوائم باسماء اليساريين المعروفين كان ينفذ فيهم الاعدام بشكل منهجي. طبقا لعضو من الكتائب: “٨٠٪ من الذين تم اعدامهم في الصفوف الخلفية كانوا عمال. استهدف القمع بتر الطبقة العاملة جسديا، وتدمير قوتها… لقد كانت حربا طبقية “. تقول التقديرات ان السلطات اعدمت بين ١٠٠ و٢٠٠ الف شخص في المنطقة التي سيطر عليها الفاشيون اثناء الحرب الاهلية.
بعد هزيمة الجيش في برشلونة في العشرين من يوليو، تدفق مئات الالاف من الناس في الشوارع، ليحتفلوا بالانتصار. رئيس البوليس، فريدريك ايسكوفيت، وقد انتابه القلق من نمو قوة كونفدرالية العمل، ارسل بالشرطة الى مستودعات سلاح الجيش في سانت اندرو حيث كان بالمخازن حوالي ٣٠ الف بندقية. ولكنهم وصلوا بعد فوات الاوان. كانت الفدرالية قد استولت على السلاح توا . احتلت الكونفدرالية ايضا التحصينات العسكرية في مونتيوخ، المطلة على برشلونة.
الكونفدرالية، اضافة الى توزيعها السلاح على جماعات الدفاع عن الاحياء، تحركت فورا لخلق جيشها الخاص. تم تجنيد الاف النساء والرجال من اعضاء نقابات الكونفدرالية. اصدرت لجنة الدفاع الكونفدرالية قرارا بمصادرة السيارات – تاكسيات، وسيارات ركوب الاغنياء، والحافلات، والشاحنات. نظمت طوابير من وحدات الميليشيا المتحركة بغرض القيام بهجوم لطرد الجيش من قطالونيا والمناطق المجاورة لها. سلطة اتخاذ القرار العليا في كل طابور كانت مجلس اعضاء الميليشيا. انتخب ضابط للقيادة (“المندوب الرئيس”) في كل طابور. الوحدات الادنى انتخبت مندوبا “للجنة الحرب” – اللجنة الادارية للطابور. ضابط الجيش الاسباني المتعاطف كان يلحق بكل طابور كمستشار فني. الاتجاه العام والكلي للطوابير كان عمل لجنة الدفاع الخاصة باتحادات الكونفدرالية.
اثناء صيف ١٩٣٦، طردت طوابير ميليشيا العمال الجيش الفاشي من فالنسيا وقطالونيا خارج مقاطعة قطالونيا ومن مساحة ١٠٠ كيلومتر الى الغرب عبر منطقة اراجون – اوسع مساحة من الارض غنمتها واستولت عليها القوى المعادية للفاشية في الحرب الاهلية.
كانت برشلونة مركز صناعة السيارات الاسبانية. اتحاد الصناعات المعدنية في الكونفدرالية تحرك مباشرة بعد ١٩ يوليو لمصادرة ارصدة هذه الصناعة، وتحويلها الى الانتاج الحربي لصالح ميليشيا النقابة. خلال اسابيع، انشأت الكونفدرالية ٢٤ مصنعا للمعادن والكيماويات لصناعة القنابل والمتفجرات والسيارات المدرعة لصالح جيش العمال الثوري.
الجدل في الكونفدرالية حول السلطة السياسية
طبقا لاقوال مساعديه، كان لويس كومبانيز قلقا وعصبيا في ٢٠ يوليو. رئيس شرطته ايسكوفيت، كان قد حذره توا بأن الشرطة لم يعد في استطاعتها اعادة تأكيد سلطة الحكومة . الكونفدرالية الان بحكم الامر الواقع تمتلك قوات مسلحة في قطالونيا. كان كومبانيز رئيسا للحكومة الاقليمية البرلمانية في قطالونيا ورئيس الحزب الجمهوري اليساري لقطالونيا. كان هذا الحزب قد هزم العصبة القطالونية، حزب البزنس الكبير، في انتخابات فبراير ١٩٣٦. الشرائح المتوسطة القطالونية – صغار التجار والبزنس الصناعي الصغير، وصغار ملاك الارض، والمحامون والمهنيون، والمدراء والعائلات الفلاحية – كانوا القاعدة الاجتماعية الرئيسية للحزب الجمهوري اليساري.
شغل كومبانيز وظيفة المحامي السابق للكونفدرالية، ويعرف كثير من الاناركيين. احتاج الى توجيه نداء لهم يمنعهم من الاطاحة بحكومته.
كان ريكاردو سانتز، وبوينافنتورا ديوروتي، وخوان جارسيا اوليفير نشطاء قياديين في لجنة الدفاع الاقليمي بالكونفدرالية، واعضاء في جماعة “نحن” (Nosotros) – احدى جماعات الفدرالية الاناركية الايبيرية. دعا كومبانيز هؤلاء الرجال الى مكتبه في العشرين من يوليو. اخبرهم كومبانيز:
“اول كل شيء يجب علي القول انه لم يتم التعامل ابدا مع كونفدرالية العمل ولا الفدرالية الاناركية بالاهتمام الواجب الذي يستحقانه. لقد تعرضتم للملاحقة الفظة باستمرار. وانا، الذي اعتدت ان اكون معكم، اجبرتني الحقائق السياسية الواقعية على ان اعارضكم واطاردكم. انتم الان تسيطرون على المدينة وعلى قطالونيا لانكم بمفردكم استأصلتم العسكريين الفاشيين. ولكن دعني اذكركم انه لا ينقصكم العون اليوم من رجال حزبي، وايضا العون من الجندرمة والحرس الرئاسي… لقد ربحتم والسلطة بين ايديكم. لو انكم لستم في حاجة لي ولو انكم لا تريدونني كرئيس لقطالونيا، اخبروني الان ولسوف اكون مجرد جندي اخر في الكفاح… انتم تستطيعون الاعتماد على ولائي كرجل وكقائد حزب يؤمن ان الماضي المجلل بالعار قد اتى الى نهايته اليوم وانا آمل مخلصا ان قطالونيا سوف تقف في طليعة البلاد الاكثر تقدما في القضايا الاجتماعية “.
اقترح كومبانيز عندئذ مشاركة الكونفدرالية في لجنة ميليشيا معادية للفاشية، تسيطر عليها احزاب الجبهة الشعبية، لادارة المجهود الحربي ضد العسكرية الفاشية. تلك كانت مراهنة قمار ماهرة لأن استقلال اللجنة الاسمي عن الدولة سوف يسمح للاناركيين ان يقولوا انهم لا يشاركون في هيئة حكومية ولكن ذلك سوف يجرهم الى سياق عمل تحت سيطرة زعماء احزاب الجبهة الشعبية، ولسوف يترك الحكومة سليمة لا تمس.
كان الرأي الشخصي لسانتز وديوروتي وجارسيا اوليفير ان الكونفدرالية يجب عليها الاطاحة بالحكومة الاقليمية ، ولكنهم لم يصرحوا بهذا الرأي لكومبانيز. اخبروه ان الكونفدرالية هي التي تتخذ قرار فيما يجب عمله. تلك الليلة، عقد مجلس برشلونة المحلي للعمل في الكونفدرالية لقاءا لتقرير موقفه من هذا الموضوع. في ذلك اللقاء، كان موقف جارسيا اوليفير ان “الحركة يجب ان تستولى على السلطة”. فيليكس كاراسكير، احد معلمي المدارس، ودييجو عباد دي سانتيلان، كلاهما ممثلان للفدرالية الاناركية، دخلا سجالا ضد اقتراح جارسيا اوليفير. الا ان الجدل حكمه اطار مفردات سؤال: “هل يجب ان نفرض رؤيتنا بالشيوعية التحررية؟ هل يجب ان تحكم الكونفدرالية بمفردها؟” كان منطق كاراسكير وعباد دي سانتيلان ان ذلك سوف يكون ديكتاتورية تفرضها الاقلية. بعد نقاش ساخن، صوت مجلس برشلونة للعمل ضد اختيار الاستيلاء على السلطة .
ومع ذلك، هذا القرار لم يفض الى تسوية المسألة. القرار الفعلي سوف يقرره الاجتماع الشامل الاقليمي لكل المجالس المحلية للعمل في الكونفدرالية لمنطقة قطالونيا. دعت السكرتارية الاقليمية للقاء في ٢٣ يوليو. كان هذا اللقاء الاقليمي الشامل اجتماعا لاكثر من ٥٠٠ مندوب عن المجالس المحلية للعمل في الكونفدرالية. اقيم الاجتماع في كاسا دي كامبا، المقر الرئيسي السابق لجمعية اصحاب العمل. هذا المبنى الواسع كان قد تم الاستيلاء عليه كعمل ثوري، من اجل توفير فضاء لاجتماعات الكونفدرالية، وفدرالية الاناركيين ومنظمة النساء الاناركيات.
اقترح وفد مجلس العمال في منطقة بايو لوبريجات ان الاتحادات النقابية يجب ان تستولى على السلطة وتطيح بالحكومة الاقليمية؛ الان حانت اللحظة لتنفيذ برنامج كونفدرالية العمل الثوري، من وجهة نظرهم. بايو لوبريجات هي منطقة الضواحي الصناعية في الحد الجنوبي لبرشلونة، وهي منطقة تم بناؤها اثناء الرواج الصناعي في العشرينات. طلب وفد بايو لوبريجات من جارسيا اوليفير ان ينسق ويعتمد على موقفهم اثناء الجدل. كان جارسيا اوليفير خطيبا مفوها عمل معظم حياته كنادل في المقاهي، عندما لم يكن في السجن. تركته خبرة حياته الطويلة في الكفاح الطبقي متمتعا باحساس قوي ان الطبقة العاملة سوف يكون عليها ان تفرض ارادتها على المجتمع اذا ما كان له ان يحرر نفسه ابدا.
شدد جارسيا اوليفير على ان العملية الثورية يجب ان نحكمها، ولا يمكن تركها في فراغ سلطة، هذا الفراغ الذي “سوف يسمح للاتجاهات الماركسية المتنوعة ان تمسك بزمام الامور وتقضي علينا”. السكرتير الاقليمي، ماريانو فاسكيز – عامل بناء من اصل غجري – حافظ على موقفه باستمرار بأنهم يجب ان يقبلوا بعرض كومبانيز بالمشاركة في لجنة ميليشيا معادية للفاشية مؤقتا بينما “يحكمون من الشوارع”.
كان المتحدثون الرئيسيون ضد جارسيا اوليفير هم فيدريكا مونتسني ودييجو عباد دي سانتيلان. مونتسني – روائية اناركية وخطيبة مفوهة تمتلك منزلا في حي راق ببرشلونة – كانت من اتباع الاناركية الفردية المتطرفة لماكس شتيرنر. كان كلا من مونتسيني وعباد دي سانتيلان عضوين في جماعة نيرفيو احدى جماعات فدرالية الاناركيين الايبيريين. مونتسيني كانت عضوة بلجنة شبه الجزيرة في فدرالية الاناركيين وكلاهما هي ودي سانتيلان تواجدا في هذا الاجتماع كممثلين للفدرالية الاناركية الايبيرية.
كان منطق مونتسيني ان مقترح جارسيا اوليفير لتنفيذ برنامج الكونفدرالية “بالشيوعية التحررية” سوف يعني فرض “ديكتاتورية اناركية” على السكان. ركز عباد دي سانتيلان على خطر التدخل الاجنبي، مشيرا الى وجود السفن الحربية البريطانية بالقرب من الشواطئ الاسبانية.
اشار جارسيا اوليفير، في رده عليهما، الى انه لم يتكلم ابدا عن “ديكتاتورية” للاناركيين او للكونفدرالية. واعترض على وصف حكم اتحادات العمال النقابية “ديكتاتورية”. واحتج جارسيا اوليفير بأن الكونفدرالية، بوصفها منظمة الاغلبية العمالية، عليها التزام ان تتصدر الطريق الى الامام في الثورة وانه يؤمن ان الممارسات التحررية الديموقراطية وايديولوجية الكونفدرالية سوف تكون ضمانا بأن حاكمية الاتحادات النقابية للمجتمع لن تتحلل الى نظام حكم سلطوي. وصنف تعليقات عباد دي سانتيلان بوصفها فقط دعوة للخوف. وفي رد على فاسكيز، قال جارسيا اوليفير انه على الاقل اعترفت السكرتارية الاقليمية بأن الثورة يجب ان نحكمها. ولكنه اصر على ان الكونفدرالية يجب ان تتحمل مسئولية صنع الثورة.
واثناء حديث جارسيا اوليفير، قطع حديثه بملاحظة ان فيدل ميرو – عضو اخر من جماعة نيرفيو الاناركية وناشط في جماعة الشبيبة التحررية – كان يتنقل من مندوبين الى مندوبين اخرين في القاعة، ليحشد الاصوات. عندما جرى التصويت، اقتراح التعاون مع احزاب الجبهة الشعبية في لجنة ميليشيا معادية للفاشية حصل على الاغلبية .
في ذكرياته الشخصية، اشار جارسيا اوليفير الى ان المندوبين تجمعوا على عجلة، دون اي فرصة للتشاور مع النشطاء في الاتحادات النقابية او فرصة لمناقشة تبعات ما هم بصدد تقريره. اعتقد جارسيا اوليفير ان اللقاء خضع زيادة عن اللزوم لنفوذ “المثقفين الاناركيين من البورجوازية الصغيرة” مثل مونتسيني وعباد دي سانتيلان، اللذان امتلكا نفوذا مؤكدا من خلال الصحافة الاناركية في قطالونيا.
لكن لماذا تأرجح موقف مندوبي المجالس العمالية مع ملاحظات مونتسيني ودي سانتيلان؟ تصور السلطة السياسية للاتحادات النقابية على انها “ديكتاتورية الكونفدرالية الوطنية للعمل” ربما يكون نتيجة لابهام في المفهوم السينديكالي عن الحياة السياسية “المجازية”. الفكرة بأن الاتحادات النقابية التحررية “تمثل تصورا مستقبليا” لمجتمع يتمتع بالادارة الذاتية لشئونه يمكن تفسيرها على انها تعني ان الاتحاد النقابي نفسه يمسك بالادارة الاقتصادية والسياسية للمجتمع – والسينديكاليون قد يتكلمون هكذا في بعض الاحيان. وهذا قد يؤدي الى استنتاج ان الكونفدرالية نفسها قد تكون الهيكل الحاكم للحياة الاقتصادية والسياسية. من هنا “ديكتاتورية كونفدرالية العمل الوطنية”.
ولكن المفهوم السينديكالي للحياة السياسية المجازية، “بناء المجتمع الجديد في رحم القديم”، لا يجب ان يفسر بهذه الطريقة. من الممكن ان نفهمه على انه يعني ان ممارسات وعادات ديموقراطية المشاركة المألوفة تقوم من خلال منظمات الاتحادات النقابية الجماهيرية ومن ثم ينعكس هذا في الهياكل الجديدة لادارة العمال للاقتصاد وهياكل الحاكمية السياسية، المنفصلة عن الاتحادات النقابية نفسها. كانت كونفدرالية العمل الوطنية ذات العضوية البالغة ٣٥٠ الف عضو هي منظمة العمال ذات الاغلبية في قطالونيا. كانت سوف تمتلك نفوذا عظيما على الاتجاه الذي سوف يأخذه هيكل السلطة السياسية الذي يشارك فيه الاتحاد العام للعمال (UGT) وفدرالية العمل للوحدة النقابية الماركسية (FOUS) كأقليات.
حديث مونتسيني عن “ديكتاتورية الكونفدرالية” دبجته هذه السيدة بعناية ليمتلك جاذبية للافكار المسبقة عند الاناركيين. ولكن ذلك الرأي لم يضع اطارا مناسبا للاوضاع التي كانت تواجه الكونفدرالية في ذلك الوقت. في الشهور التي تلت، سوف تصر الكونفدرالية على ان هدفها هو “انتصار الثورة البروليتارية”. النصر في هذا المسعى كان يتطلب ان تهدم الطبقة العاملة القواعد المؤسسية التي تقوم عليها سلطة الطبقات التي تهيمن على الطبقة العاملة وتستغلها.
القاعدة الاجتماعية التي قامت عليها الاحزاب السياسية الجمهورية في اسبانيا كانت طبقات البزنس الصغير والفئات المهنية والفئات التي تشغل الوظائف الادارية العليا. هذه الطبقات الاجتماعية كانت سوف تعارض لا محالة الثورة البروليتارية، حيث ان الاخيرة كانت ولا بد انها سوف تحل سلطة وامتيازات هذه الطبقات. اي سلطة سوف يحتفظ بها قادة الاحزاب القومية الجمهورية واحزاب الباسك الوطنية في الحكم سوف تستخدم لاعاقة عملية تمكين الطبقة العاملة. اكثر من ذلك، الحزب الشيوعي، منذ تبنيه للتوجه نحو “الجبهة الشعبية”، والجناح الاجتماعي الديموقراطي في حزب العمال الاشتراكي الاسباني، تحالف هذان الحزبان مع هذه الشرائح الوسطى المعادية للفاشية.
من ناحية اخرى، ومن الواضح بشكل مساوي، ان انتصار للطبقة العاملة كان يحتاج الى اقصى قدر من وحدة الطبقة العاملة. لم تستطع الكونفدرالية تجاهل ١.٤ مليون عامل في الاتحاد العام للعمال. وفي قطالونيا، كان هناك ايضا ٧٠ الف عامل في اتحادات فدرالية العمل للوحدة النقابية التابعة لحزب العمال للتوحيد الماركسي. جماهير اعضاء الكونفدرالية في كفاح الحياة او الموت ضد الجيش، كانت تصر على ضرورة ان تشكل الكونفدرالية تحالف مع منظمات الطبقة العاملة الاخرى. وكانت الكونفدرالية توا قد الزمت نفسها “بتحالف العمال الثوري” مع الاتحاد العام للعمال في الكونجرس الذي عقدته في مايو. وحدة الكونفدرالية مع الاتحاد العام في انتفاضة استورياس في اكتوبر ١٩٣٤ كانت مثالا يألفه كل فرد من الناس.
اذا لم تتمكن الكونفدرالية من الخروج ببرنامج عملي من اجل سلطة سياسية موحدة للطبقة العاملة، فقد كان هذا يعني ان البديل الوحيد سوف يكون تلك الاستراتيجية التي يروج لها الشيوعيين واحزاب الجبهة الشعبية الاخرى: وحدة من اعلى الى اسفل بين قادة وزعماء احزاب الجبهة الشعبية من خلال دولة جمهورية يعاد بناءها. لم يكن هناك اختيار اخر واقعي. اما ان تستولي الكونفدرالية على السلطة السياسية بالاشتراك مع اتحادات نقابية اخرى، او ان يقود الاحتياج الى الوحدة في الكفاح ضد الجيش الفاشي الى حل الجبهة الشعبية. في الحالة الاخيرة، سوف يعاد بناء الدولة الاسبانية – جهازا استبداديا تراتبيا يستخدم للدفاع عن مصالح الطبقات التي تهيمن على الطبقة العاملة.
ورغم ان جهاز الدولة الجمهورية كان منزوع السلاح بشكل مؤقت، بسبب تمرد الجيش القديم والشرطة القديمة وبناء ميليشيا العمال الثورية، الا ان جهاز الدولة كان مازال محتفظا بموارد ذات وزن ما دام سليما لم يمس. كان جهاز الدولة هذا يمتلك شرعية اجتماعية في عيون الطبقات الوسطى الجمهورية، وكان مسيطرا على النظام المالي للبلاد، واحتياطي الذهب والعملات الاجنبية والعلاقات التجارية. تقريبا بعد الانقلاب مباشرة بدأ الحزب الشيوعي حملته لاعادة بناء الدولة الجمهورية.
ومعنى هذا ان السؤال الحقيقي الذي واجهته الكونفدرالية كان هو كيف تخلق هيكلا مشتركا لحكم البلاد مع الاتحادات النقابية الاخرى، يكتسح من امامه جهاز الدولة القديم ويعمل على تأسيس سلطة الطبقة العاملة.
ما فعلته الكونفدرالية كان فعليا الالتفاف حول هذا الاستنتاج… ولكن ذلك اخذ منها ستة اسابيع اخرى من الجدل في الاتحاد.
لجنة الميليشيا المعادية للفاشية في قطالونيا لم تكن اداة “السلطة المزدوجة” للطبقة العاملة. في الواقع زعماء الجبهة الشعبية سيطروا على اللجنة، بالضبط مثلما سيطروا على الحكومة. عدد اعضاء الكونفدرالية البالغ عددهم ٣٥٠ الف شخص كان لهم فقط ثلاث مقاعد من ١٥ مقعدا في اللجنة، مع مقعدين اثنين اخرين لفدرالية الاناركيين الايبيرية. الاتحاد العام للعمال الذي كانت عضويته ١٠٠ الف في قطالونيا، كان لديه ايضا ثلاثة مقاعد. اتحاد مزارعي اسكويرا احتل مقعدا واحدا. كان للاحزاب السياسية الجمهورية الممثلة للطبقة الوسطى اربعة نواب.
خلال ايام بعد الانقلاب العسكري، تشكلت منظمة سياسية جديدة في قطالونيا – الحزب الاشتراكي الموحد لقطالونيا (PSUC). تشكل هذا الحزب من اندماج اربعة احزاب صغيرة: قسم من حزب العمال الاشتراكي الاسباني (PSOE) في قطالونيا، والحزب الشيوعي القطالوني (PCC) والحزب البروليتاري (وهو جماعة عمالية قطالونية قومية)، والاتحاد الاشتراكي (وهي جماعة ديموقراطية اجتماعية). الحزب الاشتراكي الموحد لقطالونيا، ٦ الاف عضو، اصبح فرعا للحزب الشيوعي الاسباني (PCE) التابع لخط موسكو في قطالونيا. احتل الحزب الاشتراكي الموحد لقطالونيا مقعدين اثنين في لجنة الميليشيا المعادية للفاشية، رغم ان حزب العمال لتوحيد الماركسيين (POUM) الاكثر عددا احتل مقعدا واحدا .
فدرالية العمل للوحدة النقابية الماركسية (FOUS) ذات الـ ٧٠ الف عضو لم يكن لها ممثلين. في اغسطس زعماء الكونفدرالية الاقليميين في قطالونيا يدخلون في صفقة مع الاتحاد العام للعمال من اجل السماح فقط لحاملي بطاقات الاتحادات النقابية لكلا المنظمتين بالدخول في نظام حصص الطعام الذي نشأ في اعقاب الانقلاب الفاشي. وقد اجبر هذا الاجراء حل فدرالية العمل للوحدة النقابية الماركسية (FOUS). كان هذا خطأ طائفيا من جانب قادة السينديكالية الاناركية. كان الخط السياسي لحزب العمال لوحدة الماركسيين (POUM) اقرب لخط الكونفدرالية منها لخط الشيوعيين الموالين لموسكو. وسرعان ما دعم الشيوعيون سيطرتهم على الاتحاد العام للعمال في قطالونيا. لو تركت فدرالية العمل للوحدة النقابية (FOUS) سليمة لم تمس لتوفر للكونفدرالية حليفا هاما.
برهنت لجنة الميليشيا المعادية للفاشية على عدم فاعليتها. لم تكن هناك سياسة موحدة او تنسيق حقيقي. كل منظمة استخدمت مواقعها كما تهوى وتريد. فدرالية مزارعي اسكويرا، والحزب الاشتراكي الموحد لقطالونيا وحزب العمال لوحدة الماركسيين كل من هذه المنظمات امتلكت فرق ميليشياتها الخاصة، متباعدة بها عن ميليشيا اتحادات الكونفدرالية الاوسع والاكثر عددا. كل واحدة من هذه المنظمات الاربع ادارت ميليشيتها ووفرت لها نظام امداد خاص بها وحدها. كان هذا هو النسق في اسبانيا كلها. لم تكن تلك هي الطريقة الفعالة لادارة كفاح مسلح ضد الجيش الفاشي. كان هناك فشلا عاما في التنسيق.
نشطاء ا لكونفدرالية القياديون وقادة الميليشيا رأوا حاجة واضحة لقيادة موحدة ونظم امداد وتدريب موحدة. وإن لم يستطعوا القيام بذلك نحو الميليشيا، فلسوف يكون هناك بالتأكيد ضغوط من اجل اعادة خلق جيش تقليدي تديره الدولة الجمهورية. خلال ايام من الانقلاب العسكري، بدأ الحزب الشيوعي دق الطبول من اجل اعادة خلق عسكرية تقليدية تتخذ الاوامر من اعلى الى اسفل.
كان من الممكن انقاذ نظام الميليشيا لو كانت الكونفدرالية قد تمكنت من ايجاد طريقة لخلق ميليشيا موحدة. الطريق الوحيد لصنع ذلك كان سوف يكون خلق هيكل حكم عمالي موحد لكل اسبانيا. كانت الاتحادات النقابية في حاجة للاستيلاء على السلطة.
لمعارضة السعي نحو اعادة بناء جيش هرمي تراتبي قديم، القى جارسيا اوليفير بخطاب في ١٠ اغسطس، مناديا بجيش ثوري للشعب:
“جيش الشعب الخارج من رحم الميليشيا يجب ان ينتظم على مبادئ جديدة. سوف ننظم مدرسة عسكرية ثورية ندرب فيها الضباط الفنيون الذين لن يكونوا نسخة كربون من الضباط القدامى، ولكن بالاحرى وببساطة فنيين يتبعون تعليمات الضباط الذين اثبتوا ولاءهم للشعب والبروليتاريا “.
في اجتماع شامل اخر للكونفدرالية في قطالونيا في اخر ايام اغسطس، جارسيا اوليفير، شاعرا بالاحباط والسخط من عجز لجنة الميليشيا المعادية للفاشية، اقترح مرة اخرى ان تستولى الكونفدرالية على السلطة، وان تلغي الجمهورية الاقليمية، وتقيل زعماء الاحزاب السياسية من اي دور، وتختزل دور الاتحاد العام للعمال الى اقلية، متماشيا مع حجمها في قطالونيا .
في ٣١ اغسطس، خوسيه جيرال، رئيس الوزراء في مدريد، اخبر عضوا في لجنة الكونفدرالية الوطنية: “كل شيء بين ايدي الكونفدرالية! الكونفدرالية تدير الحرب كما تريد ولكن دون المشاركة في المسئوليات العليا. احكموا! استولوا على السلطة! “.
في الاخير، اقيم مؤتمر لكامل الهيئة القومية للكونفدرالية في ٣ ديسمبر، بناء على اصرار الوفد الاقليمي لقطالونيا، وقررت الكونفدرالية التقدم باقتراح تشكيل حكومة عمالية ثورية لتحل محل الحكومة القومية للجبهة الشعبية: مجلس دفاع وطني يتكون من سبع مندوبين من الاتحاد العام للعمال وسبعة من الكونفدرالية، مع لارجو كاباليرو رئيسا . المجلس الوطني سوف يكون جزءا من نظام فدرالي مع مجالس دفاع اقليمية. سلطات هذه المجالس سوف تكون مقصورة على وظيفة الدفاع الذاتي الاجتماعي – “محاكم الشعب”، وميليشيا الشعب الموحدة. لن يكون لمجالس الدفاع اي سلطة للتدخل في ادارة الصناعة؛ سوف تدار الصناعات بواسطة العمال. كتب عميل روسي في اسبانيا رسالة للسلطات السوفيتية قال فيها: “وجد التفكير في خلق مثل هذه المجالس استجابة واسعة حتى بين الجماهير التي لم تكن تحت سيطرة نفوذ الاناركيين” . اقترحت الكونفدرالية ميليشيا الشعب الموحدة التي سوف تقوم بالسيطرة على “مفوضيات الكونفدرالية والاتحاد العام للعمال المشتركة” . سوف يكون لدى العمل المنظم احتكارا للسلطة المسلحة في اسبانيا.
ومع ذلك، فات الوقت بالنسبة للكونفدرالية. طوال الستة اسابيع الاولى بعد الانقلاب العسكري، ترأس الحكومة في مدريد ليبراليون عاجزون بلا فعالية. ومع ذلك، لارجو كاباليرو، السكرتير التنفيذي للاتحاد العام للعمال، كان قد اصبح توا رئيسا للوزراء في اوائل سبتمبر. وصرح كاباليرو علنا ان الثورة يجب عليها ان تجمد حركتها حتى نهزم الجيش الفاشي. مارسيل روزنبرج، السفير السوفيتي، حذر كاباليرو من ان اقتراح الكونفدرالية سوف يدمر “الشرعية الدولية” للجمهورية الاسبانية. مانويل ازانيا، رئيس الجمهورية، هدد بالاستقالة. ممثلو الكونفدرالية، لمجاملة الشيوعيين، عقدوا لقاءا مع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الاسباني واكدوا لهم ان كوادرهم في نقابات الاتحاد العام للعمال تعتبر تمثيلا لهم في السلطة المقترحة.
تاريخ لارجو كاباليرو والاشتراكيون اليساريون كان تاريخا من التأرجح. كانوا يتكلمون عن “الثورة البروليتارية” في لحظة، ثم يتراجعون بعدها لمواقف اشتراكية ديموقراطية معتدلة في اللحظة التالية. لاعطاء شخصية كاباليرو بعض القوة، احتاج الامر وضعه في موقف حرج. في قطالونيا كانت الكونفدرالية تمتلك المقدرة على شطب الحكومة الاقليمية ببساطة وتنفيذ اقتراح مجلس مشترك للحكم مع الاتحادات النقابية الاخرى. ولكن القيام بذلك كان سوف يجبر الاتحاد العام للعمال على تطبيق هذا الحل في كل انحاء اسبانيا.
انشئت مجالس للدفاع الاقليمي في استورياس واراجون. مجلس استورياس تشكل من ١٥ عضوا، بأغلبية من الاتحاد العام للعمال. اخذ الجمهوريون من الطبقات الوسطى مقعدان فقط. في اراجون فكرة المبادرة بتشكيل مجلس دفاع اقليمي تسيطر عليه الكونفدرالية جاءت من الاتحادات النقابية في القرى التابعة للكونفدرالية في منطقة اراجون التي حررتها الميليشيا العمالية.
ولكن قطالونيا كانت اكثر اهمية بكثير من مقاطعتي استورياس واراجون الريفيتان. كان لقطالونيا ثلاث ارباع طاقات اسبانيا الصناعية واوسع مدينة في اسبانيا. لو كانت حكومة قطالونيا الاقليمية قد استبدلت بهيكل حكم الطبقة العاملة، لم يكن يستطيع كاباليرو تجاهل ذلك. ولكن بدلا من ذلك، ذهبت كونفدرالية قطالونيا في الاتجاه المضاد. انضمت الكونفدرالية الى الحكومة الاقليمية في ٢٦ سبتمبر. وقد نسف ذلك بالكامل قدرة الكونفدرالية على المقايضة مع كاباليرو لانها بذلك اخبرته انها غير جادة في مقترح مجلس الدفاع.
وبينما كانت المفاوضات تدور في مدريد بين الكونفدرالية والاتحاد العام للعمال حول مجلس الدفاع الوطني، اقام ادواردو دي جوزمان محرر صحيفة الكونفدرالية المسماة “كاستيلا ليبرا” في مدريد. في رأيه، مبادرة تشكيل حكومة الطبقة العاملة في مدريد عرقلها فشل الكونفدرالية في الاستيلاء على السلطة في برشلونة. وحتى لو لم يكن التنفيذ الكامل “للشيوعية التحررية” ممكنا في هذه اللحظة، كان من الممكن خلق “حكومة بروليتارية – ديموقراطية طبقة عاملة شاملة تمثل فيها كل قطاعات البروليتاريا – ولكن البروليتاريا وحدها… ان تصنع ثورة، يجب الاستيلاء على السلطة. لو كانت الكونفدرالية فعلت ذلك في قطالونيا، لكانت قد ساعدت، ولم تعق، وضعنا كاقلية في مدريد. ولكنهم اعتقدوا ان السيطرة على الشارع لا تكفي، ولا ان تكون مسيطرا على السلاح. لقد اغفلوا بالكامل اهمية جهاز الدولة”.
طبقا لما قاله جوزمان، “كانت البرجوازية الصغيرة لا محالة معارضة للبروليتاريا. كان الشيوعيون يجندون اعضاءا من هذه الطبقة، وكان من المقدر للتحالف مع الجمهوريين من البرجوازيين الصغار ان يمنح هذا المعسكر قوة اذا ما اعيد تأسيس الحكومة الاقليمية والحكومة المركزية”. اعتقد جوزمان ان تلك كانت غلطة الكونفدرالية، الا تندفع نحو اقامة حكومة الطبقة العاملة من البدايات الاولى حين انعدم على الاطلاق وجود حكومة ذات فعالية في مدريد”. في رأيه، “ضاعت لحظة ثورية حملت في ثناياها وعدا عظيما “.
افترض دي جوزمان وجود تشوش حول مفهوم “رفض العمل السياسي” في الكونفدرالية. في رأيه ان ذلك كان يجب ان يعني “ببساطة الا نشارك في مهزلة الانتخابات البرلمانية “. وهو ليس مثل القول بأن العمل السياسي – هيكل الادارة الشعبية للحكم – امر ضروري من اجل استبدال الدولة. وبالضبط مثل تشديد السينديكاليين على أن استمرار وتواصل الانتاج الاجتماعي يتم الحفاظ عليه وصيانة استمراره عبر عملية التحول الاجتماعي، نفس المنطق يمكن تطبيقه على الوظائف السياسية – صنع وتنفيذ القوانين الاساسية في المجتمع. تلك الوظائف هي ايضا وظائف ضرورية.
استجابة لهموم الاشتراكيين وهواجسهم حول ولاء “البرجوازية الصغيرة المعادية للفاشية”، عدلت الكونفدرالية مقترحها بمجالس الدفاع الوطنية، في اجتماع لكامل هيئتها الوطنية في منتصف سبتمبر، فاصبح المجلس يتشكل من خمس مندوبين عن الكونفدرالية، وخمسة من الاتحاد العام للعمال، واربعة ممثلين للاحزاب الجمهورية. بهذا التعديل، تبنى احد الاحزاب الجمهورية الصغيرة – الجمهوريون الفدراليون – مقترح الكونفدرالية. ولكن لارجو كاباليرو استمر في رفض الاقتراح باعتباره “قفزة خارج اطار الدستور”. بانضمام الكونفدرالية للحكومة الاقليمية في قطالونيا، عرف كاباليرو ان الكونفدرالية ليست جادة في اقتراحها. قدم كاباليرو اقتراحا مضادا: ان تنضم الكونفدرالية لحكومة الجبهة الشعبية القائمة.
وفي النهاية، وفي اجتماع اخر لكامل هيئة الكونفدرالية في ٢٨ سبتمبر، هوراشيو برييتو، سكرتير جماعة الثلاثينيين القومية في الكونفدرالية، دفع في اتجاه قبول عرض كاباليرو. عارض وفد قطالونيا هذا الرأي بعناد. التنظيم الاقليمي في قطالونيا لم يكن منسجما في الرأي – فقد عارض ان تقوم الكونفدرالية على المستوى القومي بفعل ما كانوا قد فعلوه هم في قطالونيا.
الكونفدرالية في الاخير، وقد فشلت في تخطيط مسارا متماسكا لتوحيد الطبقة العاملة في بنائها لهياكل حكم جديدة، واستبدال الدولة الجمهورية، انضمت الى الحكومة القومية للجبهة الشعبية في ٣ نوفمبر، واحتلت اربعة مقاعد فقط من ١٨ مقعد وزاري . في اللقاء الاول للحكومة الجديدة، اقترح خوان بييرو ان توافق الحكومة على شرعية تحويل الاقتصاد الاسباني كله الى الشكل التعاوني. اوقف هذه المبادرة اعتراض الجمهوريون من الطبقات الوسطى، والقوميون من اقليم الباسك، وحلفاءهم الشيوعيون والاشتراكيون الديموقراطيون.
خلال شهر اكتوبر كله، الصحيفة اليومية للكونفدرالية في برشلونه، سوليداريداد اوبريرا، صعدت حملة كبرى تدعو لمقترح مجلس دفاع قومي مشترك بين الكونفدرالية والاتحاد العام للعمال. الان وقد اختارت الكونفدرالية التعاون من خلال جبهة شعبية، ارادت اللجنة الاقليمية للكونفدرالية خطا “ثوريا اقل صلابة” في هذه الصحيفة. من بين هيئة التحرير الذين اقيلوا بسبب معارضتهم لسياسة التعاون مع الجبهة الشعبية كان الصحفي المعوق، حاييم باليوس ومدير تحرير الصحيفة، ليبرتو كاليخاس. سوف يظهر كلا من باليوس وكاليخاس فيما بعد على سطح الاحداث في محاولة لاعادة احياء مقترح مجلس الدفاع العمالي في ربيع ١٩٣٧.
الاتحادات النقابية تتحرك نحو تحقيق التحول الاجتماعي من اسفل
لا يوجد تعبير اوضع عن الروح الثورية للكونفدرالية عن نزع الملكية الواسع للصناعة الرأسمالية في اسبانيا الذي تم على ايدي اعضائها في صيف عام ١٩٣٦، وادارة العمال المباشرة لها اثناء الحرب الاهلية.
في منطقة برشلونة وحدها، استولت الاتحادات النقابية على اكثر من ٣٠٠٠ منشأة كبيرة. لم تصدر تعليمات للقيام بذلك من اللجان القومية او الاقليمية في الكونفدرالية. جرت تلك التحركات بمبادرة من نشطاء الاتحادات المحلية. انتشرت عمليات نزع الملكية الخاصة للمنشآت الانتاجية في قطالونيا متزامنة مع سيطرة الكونفدرالية بحكم الامر الواقع على السلطة المسلحة.
بيرنيت بولوتن، كان مراسلا امريكيا لوكالة يو بي اي في اسبانيا في ذلك الوقت. من بين الصناعات التي وضعها بولوتن في قائمته كصناعات “صادرتها الاتحادات النقابية وتسيطر عليها لجان العمال” كانت الصناعات التالية: السكك الحديدية، النقل البحري التجاري، سيارات الاجرة والحافلات العامة والتاكسيات وشركات القوى الكهربائية، والغاز، والمياه، ومصانع عبوات الزجاج، والعطور، والنسيج والورق والاسمنت ومصانع صناعة الاغذية والبيرة وصناعة السينما والمسرح، والمسارح الاستعراضية ودار الاوبرا الكبرى، والصحف والمطابع، والمتاجر الكبرى، والفنادق والمطاعم الفاخرة والبارات . اضافة الى ذلك، شركات النقل البري، والمخابز، ومحلات الحلاقين وصناعات الزجاج والبلور، والصناعات البدائية في جبال البيرينيز، وصناعة الاثاث، والمستشفيات صودرت ايضا. الاتحاد القومي لنقابات التليفونات الصناعية للكونفدرالية الوطنية للعمل استولى على شركة التليفون الوطنية الاسبانية، اكبر فروع الشركة الامريكية المتعددة الجنسيات اي تي تي. في فالنسيا، خلقت الكونفدرالية منظمة لادارة شراء وتعبئة وتصدير محاصيل الموالح – اكبر مصدر في اسبانيا للعملات الصعبة من التبادل الاجنبي في الثلاثينات.
صودرت الاف من بيوت الاثرياء ومثلها من الشقق الواسعة في المباني السكنية الضخمة. كان هناك على الاقل ٢٠٠٠ من التجمعات الزراعية التعاونية تأسست في انحاء المنطقة المحررة المعادية للفاشية.
وقبل مناقشة تفاصيل الادارة الذاتية التي خلقتها الاتحادات النقابية، من المفيد ان نضع في بالنا ماذا كان غرض الكونفدرالية من ذلك. قبل الحرب الاهلية، لم تدافع الكونفدرالية ابدا عن مبدأ ان اماكن العمل يجب ان تصبح ملكية تعاونية خاصة لعمالها.
دافعت الكونفدرالية عن مبدأ الملكية الاجتماعية. كل مواقع العمل في صناعة ما يجب ان تتجمع معا في فدرالية صناعية تكون مسئولة عن ادارة تلك الصناعة. سوف تنسق مجالس اقتصادية اقليمية وقومية بين الفدراليات الصناعية. سوف تنعكس الملكية الاجتماعية في عملية تطوير الخطط الاجتماعية المتوقع ان تلتزم بها هذه الفدراليات الصناعية من خلال عملها. كما كتب عباد دي سانتيلان، المجالس الاقتصادية “سوف تتلقى الاوامر والتعليمات من اسفل، عمل المجالس الاقتصادية هو ضبط تفاصيل هذه التعليمات طبقا لما تخرج به المؤتمرات الاقليمية والقومية”.
وطبقا لقول خوان فيرر، صاحب المكتبة الذي كان سكرتيرا لاتحاد نقابات العمال التجاريين في الكونفدرالية ببرشلونة:
“كانت فكرتنا في الكونفدرالية بأن كل شيء يجب ان يبدأ من العمال، وليس – كما ينادي الشيوعيون – كل شيء يجب ان تديره الدولة. ولذلك اردنا من اجل تحقيق هذه الغاية ان ننشئ فدراليات صناعية – للنسيج والصناعات المعدنية واقسام المتاجر الكبرى الخ – سوف تكون ممثلة في مجالس اقتصاديات كلية (macroeconomics) تقوم بادارة الاقتصاد. كل شيء، بما فيه التخطيط الاقتصادي، سوف يبقى هكذا بين ايدي العمال “.
وفي تنويعات على هذا الموضوع اقرها كونجرس سرقسطة، كان هناك ايضا اسهام في مدخلات عملية التخطيط الاجتماعي حول قضية من يحدد ماذا ننتج وهي مجالس السكان حسب النطاق الجغرافي في الاحياء او القرى وفي مؤتمرات الشعب الاقليمية والقومية التي تصل ما بين هذه المجالس السكانية وبعضها البعض.
من وجهة نظر السينديكالية التحررية، التحويل الاجتماعي للاقتصاد من المفترض بناءه “من اسفل”، من خلال النشاط المباشر للعمال انفسهم. كان هناك جانبين او مرحلتين لعملية التحول الاجتماعي السينديكالي. المرحلة الاولى كانت مصادرة ممتلكات الرأسماليين وخلق فدراليات صناعية، لقمع منافسة السوق بين المشاريع في الصناعة الواحدة. المرحلة الثانية كان من المفترض ان تكون التخطيط الاجتماعي الكلي. في الواقع العملي، لم تصل اسبانيا ابدا الى هذه المرحلة الثانية.
في عدد من الصناعات، تحركت الاتحادات النقابية سريعا لخلق فدراليات صناعية، لتدمج بين ارصدة البزنس في تلك الصناعة. واينما نشأت فدراليات صناعية، كانت تلك الفدراليات من نوعين. في بعض الحالات، اصبحت اتحادات نقابات الكونفدرالية نفسها فدراليات صناعية تدير الصناعة. وفي حالات اخرى، كانت الفدرالية الصناعية هيكلا جديدا، منفصلا عن الاتحاد النقابي. مال هذا النوع الثاني من الفدراليات الصناعية الى الظهور في الاماكن التي كانت الاتحادات النقابية للاتحاد العام للعمال قوية. كانت الفدراليات الصناعية منفصلة رسميا عن الاتحادات النقابية بحيث يمكن لها ان تصبح منظمة يتشارك فيها الاتحاد العام للعمال والكونفدرالية في السلطة.
شركة مدريد-سرقسطة-اليكانتي هي شركة ضخمة للسكك الحديدية، قطاع خاص تقوم بتشغيل خطوط من مدريد لبرشلونة وفالنسيا، والخط الرئيسي بطول ساحل المتوسط. في العشرين من يوليو، وما زالت حرب الشوارع تدور في برشلونة، مناضلو اتحاد النقابات الصناعية القومي للسكك الحديدية في الكونفدرالية ابلغوا اعضاء الادارة العليا للشركة انهم مفصولين من وظائفهم. استولى العمال على الشركة. تمت مصادرة خط الترام الكهربائي الذي يعمل خارج برشلونة ايضا، وتم دمج السكك الحديدية معا في شبكة مواصلات واحدة. هذا الاستيلاء كان مبادرة من الاتحادات النقابية للكونفدرالية ولكن سرعان ما سار معها الاتحاد العام للعمال في نفس الطريق. امتلك كل اتحاد منهم نفس الحصة من قوة العمل. اطقم تشغيل القطارات، بتراثهم النضالي الاقوى، مالوا بعضويتهم النقابية الى الكونفدرالية. وكلاء المحطات، وكتبة السكك الحديدية ورؤساء العنابر مال معظمهم ناحية الاتحاد العام للعمال.
تسمت المنظمة الجديدة التي تشكلت لادارة تشغيل شبكة السكك الحديدية باسم فدرالية السكك الحديدية الثورية. اللجنة المنسقة – التي تتكون من ستة اعضاء من الاتحاد العام للعمال وستة من الكونفدرالية – تسمت باسم اللجنة الثورية. وفيما عدا المدير التنفيذي الذي كان منصبه لكل الوقت، باقي اعضاء اللجنة الثورية جميعهم استمروا في عملهم بوظائفهم الاعتيادية. لكل قسم من اقسام خطوط السكة الحديدية ولكل محطة، تشكلت لجنة من المندوبين المختارين بواسطة مجلس محلي. كانت مقترحات اللجنة تعرض في المجالس التي تعقد كل اسبوعين، من اجل تصديق العمال عليها او رفضها.
كانت السكك الحديدية تحقق خسارة قبل الحرب الاهلية، بسبب تنامي استعمال السيارات. لتحسين كفاءة شبكة المواصلات، تكفلت فدرالية السكك الحديدية بعمل بحث مكثف واسع لخدمات النقل بمساعدة اتحادات النقل في الكونفدرالية. وضعوا خريطة لكل انواع الترام، والنقل البري، وخدمات النقل البحري التجاري. اكتشفت الفدرالية ان مناطق شتى ريفية فقيرة لا تشتغل بها وسائل مواصلات عامة. وفي نفس الوقت، كان هناك العديد من الازدواجية في خدمات النقل على طول الممر الساحلي. ونتيجة لهذا، اتفقت نقابات النقل في الكونفدرالية على خطة لانهاء بعض الخدمات التي تنافس السكك الحديدية مثل خطوط السفن البحرية الساحلية، وخلقت خدمات للشحن البري والترام في المناطق الريفية المحرومة. انشأت السكك الحديدية فرعا جديدا في منطقة اراجون الريفية لخدمة كلا من القرى والميليشيا العمالية على جبهة الاراجون .
صادر اتحاد نقابات المنافع العامة في الكونفدرالية والاتحاد العام للعمال اكثر من عشرة محطات توليد كهرباء، وغاز ومياة. بشكل اولي، انشأت الاتحادات النقابية “لجنة مراقبة” بعد ١٩ يوليو في الشركات المختلفة، مع بقاء الادارة العليا القائمة في اماكنها. لم تحدث حالات نزع الملكية الا في نهاية شهر اغسطس. وكما حدث مع صناعة السكك الحديدية، تشكلت فدرالية صناعية منفصلة عن الاتحادات النقابية لتولي وظيفة الادارة العليا في الصناعة. كان كلا من الاتحاد العام للعمال والكونفدرالية باتحاداتهما النقابية للمنافع العامة يمتلكان تقريبا حصة مساوية من قوة العمل – كلا منهما لديه عضوية ٨٠٠٠ في قطالونيا. المجالس الادارية لمحطات المياة والغاز والكهرباء باقسامها، كل منها تشكل من اعداد متساوية من مندوبين عن الكونفدرالية والاتحاد العام للعمال، ويتحملون المسئولية امام مجالس العمال الدورية في المناطق المختلفة .
تواجدت العديد من الصناعات التي اصبحت اتحادات الكونفدرالية النقابية نفسها فدراليات صناعية لها، اي اداة الادارة الذاتية للعمال في الصناعة.
استولى اتحاد صناعة الاخشاب في الكونفدرالية بقطالونيا على الورش الصغيرة التي تصنع الدواليب الخشبية، حيث كانت ظروف أغلبها غاية في السوء، ومستوى الصناعة غير كفء وظروف العمل خطرة. استبدلت تلك الورش بمصنع جديد، اسمه دبل اكس. استوردت النقابة ماكينات فرنسية بآخر صيحة في تجهيزات الامان. صودر مصنع كبير للاثاث قائم ولكن اضيف له عنبرين لتوسيعه. كل مصنع من هذين المصنعين استخدم ٢٠٠ عامل.
احدى جماعات فدرالية الاناركيين الايبيرية عارضت السعي لضم كامل الصناعة في عملية تشغيل صناعية واحدة يديرها الاتحاد النقابي. دافعت هذه الجماعة عن مبدأ خلق مراكز انتاج صغيرة تتمتع بالادارة الذاتية. الناقدون لافكار تلك الجماعة وصفوا مثل هذا الموقف بردة للخلف الى حقبة الحرفيين الذين يعملون عند انفسهم ما قبل الرأسمالية. اقتراح الفدرالية الاناركية الايبيرية تلقى الهزيمة.
استولت النقابات ايضا على متاجر بيع الاثاث بالتجزئة. تم الاستيلاء على الصناعات البدائية في جبال البايرينيز. دبرت النقابات امر الصناعة بأكملها من استخراج المواد الخام الى بيع المنتج النهائي في المعارض.
آمنت النقابات انها يجب ان ترعى مجمل حياة اعضاءها وراحتهم في المعيشة. لتحقيق هذه الغاية شيدت النقابة صالة رياضات بحمام سباحة من الحجم الاوليمبي في مصنع دبل اكس. في احد اودية الجبال انشأت النقابات مزارع لانتاج الطعام لعائلات اعضاء الاتحاد النقابي.
يتذكر احد اعضاء الاتحاد النقابي لصناعة الاخشاب هذا الامر قائلا، “المفهوم الذي ساد هو ان الطبقة العاملة يجب ان تحصل على اثاث جيد باسعار رخيصة “.
مال اتحاد نقابات صناعة الاخشاب، مع وجود العديد من مناضليه مع الميليشيا في الجبهة، الى تعيين اصحاب العمل السابقين او اولادهم كرؤساء اداريين في الاقسام. كان هناك خطرا ما بوضع مثل هؤلاء الناس في هذه المناصب وقد اعتادوا على سلطة اعطاء الاوامر وانتظار الطاعة من الاخرين. في نفس الوقت، لم تتحول لجان الاتحاد الى مجالس ادارية لمنظمة تدير الصناعة. طبقا لقول احد اعضاء الاتحاد، تطور السخط لان الاعضاء شعروا انهم خارج عملية صنع القرار حيث كانت “تقاليد الكونفدرالية هي مناقشة وفحص كل شيء”. احد المشاكل، في رأيه، كانت هي الفشل في اصدار نشرة اخبارية تحافظ على اعلام الاعضاء بما يدور .
وكما في معظم حالات الادارة الذاتية للعمال في برشلونة لم تنتخب لجان جديدة لعمال خدمات المحال بعد ان تحولت اللجان النقابية لصناعة الاخشاب الى مجالس ادارية تدير الصناعة. اجرى رونالد فريزر مع عدد من النقابيين المخضرمين في الكونفدرالية حوارا لصالح صحيفة دم اسبانيا فقالوا انهم يعتقدون ان هذا الفشل في اعادة خلق منظمات نقابية منفصلة كان احد الاخطاء.
الغاء النظام الطبقي ليس مجرد عملية شكلية رسمية لنزع الملكية وخلق منظمات جديدة. يحتاج هذا الالغاء الى اعادة التفكير في توصيفات الوظيفة، وتساوى السلطة عبر تعلم مهارات جديدة وتولي العمال المسئوليات التي كان يؤديها في السابق “مهنيون”. “العادات المتأصلة في اعطاء الاوامر واطاعتها يجب تحطيمها. ولان النظام الجديد يرث تباينات في المهارات والتعليم والعادات مستمدة من الانظمة الكهنوتية التراتبية للسلطة، هناك خطر بالعودة الى تجسيد الخبرة واتخاذ القرار في قالب هرمي تراتبي جديد. ربما تستدعي الضرورة وجود المنظمات النقابية – المنفصلة عن هيكل الادارة الذاتية للصناعة – لرعاية مصالح العمال في مجرى عملية الانتقال هذه.
احد الصناعات الاخرى التي اعيد تنظيمها بالكامل كانت صناعة قص الشعر (الحلاقة). قبل ١٩ يوليو، تواجد ١١٠٠ دكان حلاقة في برشلونة، معظمهم هامشي للغاية. عمل بهذه الصناعة ٥٠٠٠ مساعد حلاق هم من بين اقل العمال اجرا في برشلونة. كانت الحكومة الاقليمية قد اعلنت قرار ٤٠ ساعة عمل في الاسبوع وزيادة الاجور بنسبة ١٥٪ بعد ١٩ يوليو – وهو واحد من عدة قرارات حاول بها اسكويرا اجتذاب دعم العمال. وقد تسبب هذا القرار في خراب العديد من محلات الحلاقة. عقدت جمعية عمومية واتفق على اغلاق كل المحلات الغير رابحة. استبدل الـ ١١٠٠ محل بشبكة من ٢٣٥ مركز للحلاقة في الاحياء، بتجهيزات افضل واضاءة افضل مما كانت عليه المحلات القديمة. وقد اصبح ممكنا، نتيجة للكفاءة المكتسبة، ان ترفع الاجور بنسبة ٤٠٪. ادار كامل الشبكة مجالس من اتحاد الحلاقين النقابي في الكونفدرالية. اصبح اصحاب المحلات السابقين اعضاءا في الاتحاد .
بالنسبة لبعض الناقدين، التحويل الاجتماعي لصناعة الحلاقة كان خطأ: “ما هو في الواقع الذي حولوه ليكون ملكية تعاونية؟”، تساءلت سباستيا كلارا، موظفة في حكومة الثلاثينيين في قطالوينا؛ “مقص، وموس، وزوج من كراسي الحلاقين. وماذا كانت النتيجة؟ كل هؤلاء المالكين الصغار… تحولوا ضدنا الان “.
ملاحظة كلارا تتغاضى عن فعالية المكاسب التي تحققت باجور اعلى للعمال وفكرة ان التحويل الاجتماعي ليس فقط مجرد تحويل اجتماعي للارصدة المادية ولكنه تغيير لعلاقات السلطة الاجتماعية. هدف الحركة السينديكالية التحررية كان القضاء على خصوع وتبعية العمال الموروثة في كونهم مأجورين يعملون لمصلحة الريس مقابل اجر.
الرعاية الصحية صناعة تحولت هي الاخرى بواسطة الثورة. في سبتمبر ١٩٣٦، تشكل اتحاد نقابي جديد لصناعة الصحة تابع للكونفدرالية في برشلونه من ٧٠٠٠ عضو – منهم ٣٢٠٠ من الممرضين الذكور. انتظمت المهن المتنوعة للرعاية الصحية داخل اقسام في اتحاد الصحة النقابي. انتزع هذا الاتحاد ملكية المستشفيات وخلق وادار نظاما مجتمعيا جديدا للرعاية الصحية في قطالونيا.
قبل يوليو، الممارسة الطبية نمطيا امتلكها الاطباء الكبار، الذين استأجروا بدورهم شباب الاطباء كمساعدين لهم. تركزت الخدمات الطبية في الاحياء الاكثر ثراءا. غالبا ما كان الاطباء يغيبون عن القرى الفقيرة. قصد النظام الجديد توفير توزيع اكثر عدالة للموارد الصحية. اذا لم يكن لدى قرية فقيرة طبيب، كان الاتحاد النقابي للصحة يسعى لتوفير طبيب لهذه القرية.
حاول الاتحاد النقابي للصحة ان يوقف العمل الخاص في الطب ولكنه لم يكن قادرا على نيل موافقة اغلبية الاطباء على ذلك. طلب الاتحاد من الاطباء كلهم العمل لمدة ثلاث ساعات يوميا من اجل الاتحاد النقابي الصحي، مما كان يوفر لهم وقتا كافيا في اليوم لرؤية مرضاهم الخصوصين. وكان الاتحاد يدفع لهم اجرا واحدا عندما كانوا يعملون لصالحه – ولكن اجر الاطباء في الساعة كانت يساوي اربعة اضعاف الاجر القياسي للعامل.
قدمت الحكومة بعض التمويل للمساعدة في رفع الاجور في نظام الرعاية الصحية المجتمعي في قطالونيا، ولكن هذا العون لم يكن كافيا لتغطية كل النفقات. ورغم ان تردد المنتفعين على العيادات الخارجية للشبكة الصحية الجديدة كان مجانيا، الا ان الاتحاد النقابي للرعاية الصحية فرض رسوما لزيارة الاطباء في عياداتهم ولاجراء الجراحات. نتيجة لذلك، عديد من النقابات والاتحادات، والصناعات التعاونية وتعاونيات القرى دخلت في اتفاقيات خاصة مع الاتحاد النقابي للرعاية الصحية لتقدم خدمات الرعاية الصحية المجانية لاعضائهم وعائلات الاعضاء. ادار الاتحاد الصحي عيادات اسنان وتولى ايضا اجراء الابحاث وصناعة الدواء والكيماويات الطبية.
انتشر نظام الرعاية الصحية الاجتماعي عبر انحاء المنطقة المعادية للفاشية من خلال عمل ٤٠ الف عضو في الفدرالية الصناعية القومية للرعاية الصحية المنضمة للكونفدرالية، والتي تتشكل من ٤٠ اتحاد نقابي محلي .
الجزء الاكبر من نظام النقل العام الداخلي في برشلونة كان نظام التروللي باص، والذي كان يعمل علي ٦٠ خطا في انحاء المدنية الكبرى. كانت شركة ترام برشلونة هي التي تقوم بشغيل هذا النظام، وهي شركة مملوكة اساسا لمستثمرين بلجيك. من العاملين السبعة الاف العاملين في الشركة، انتمى ٦٥٠٠ منهم للنقابة الموحدة للنقل في الكونفدرالية.
في العشرين من يوليو، اكتشفت مجموعة مسلحة من نقابة النقل في الكونفدرالية ان الادارة العليا في شركة ترام برشلونه قد هربت. اقيم اجتماع جماهيري لعمال النقل في اليوم التالي وصوتت الجمعية باغلبية كاسحة لصالح نزع ملكية شركات النقل باسم الشعب. تم الاستيلاء على ثلاث شركات خاصة للحافلات، وشركتين للتليفريك، وشركة قطارات مصاحبا للاستيلاء على شركة التروللي باص.
تضرر نظام التروللي باص بشدة في حرب الشوارع – دمرت العربات، وانهارت الاسلاك وعواميدها، وتحطمت الاكشاك الكهربائية، وتعطلت مسارات التروللي بمتاريس الشوارع. استطاعوا عمال النقل بعد ان عملوا ليلا ونهارا، استعادة نظام النقل في خمسة ايام. ومع الوقت اعادوا طلاء عربات الترام والتروللي باص باللونين الاحمر والاسود المميزين للكونفدرالية. قبل ١٩ يوليو، كانت اكشاك الكهرباء المغذية للترام والتروللي باص تقع في منتصف الشوارع مما جعل من الضروري بالنسبة لترام وتروللي باص برشلونة ان يسيروا في دورانات حادة مما كان يعرضها في احيان كثيرة الى الخروج عن قضبانها. بعد استيلاء الاتحاد النقابي على الشركة، نظمت فدرالية المنافع العامة المدارة بواسطة العمال اعادة وضع الاكشاك الكهربائية بطريقة تجعل سير الخطوط اكثر استقامة.
انماط النقل المتعددة – الاتوبيسات، قطار الانفاق، الترام – كانت “اقسام” منفصلة في الاتحاد النقابي، مثل مستودعات قطع الغيار الهائلة. كل هذه الاقسام كانت تدار من خلال لجان منتخبة، مسئولة امام مجالس العمال. انتخب احد المهندسين لكل لجنة ادارية، لتيسير عملية المشورة الفنية بين العمال اليدويين والمهندسين. كانت هناك جمعية عامة شاملة لاتخاذ القرارات التي تؤثر على نظام النقل ككل. لم يوجد منصب مدير اعلى او مدير تنفيذي.
كان ترامواي برشلونة يعمل بنظام تعريفة المنطقة الذي كان يعني زيادة التكلفة بالنسبة للناس في الضواحي العمالية الخارجية حتى ينتقلوا الى وسط المدنية. تحول نظام التشغيل تحت ادارة العمال الى تعريفة واحدة بسيطة عبر منطقة المدينة الكبرى، لمساواة تكلفة التعريفة لكل الركاب. ورغم تخفيض تذكرة الركوب هذه، استطاع نظام المواصلات الذي اداره العمال ان يحقق ارباحا. تم شراء كميات كبيرة من الادوات الميكانيكية الامريكية والفرنسية، حتى يكتفي نظام النقل الداخلي ذاتيا من قطع الغيار. دخل اتحاد النقل والمواصلات في الكونفدرالية في ترتيبات مع الاتحاد النقابي الجديد للصحة لضمان رعاية طبية مجانية لعمال النقل والمواصلات وعائلاتهم.
وبسبب القيود زمن الحرب المفروضة على جميع انواع السيارات، ازداد نسبة الركاب حوالي ٦٢٪ خلال السنة الاولى من ادارة العمال لشبكة المواصلات. لم يكن ممكنا الحصول على عربات ترام جديدة. وللتكيف مع زيادة عدد الركاب، اعاد العمال ترتيب الاماكن داخل ورش الصيانة، لتخفيض الوقت المطلوب لعمل الصيانة الدورية للعربات. عدد من العربات المتهالكة اعيد بناءها واعيدت للخدمة. تم بناء سيارات خفيفة الوزن جديدة لخطي التليفريك.
بعد صدور قرار الحكومة الاقليمية بالملكيات التعاونية في اكتوبر ١٩٣٦، شبكة النقل التي كانت تديرها الاتحادات النقابية، اعيد تنظيمها كتعاونية خدمية موحدة قطاع عام، منفصلة رسميا عن اتحادات الكونفدرالية. في بعض الاقسام من التعاونية حيث تواجد الاتحاد العام للعمال – كما في مترو الانفاق – كان لدى الاتحاد العام للعمال مندوبين في اللجان الادارية. قبل التاسع عشر من يوليو، عمال القضبان كانوا من اقل العمال اجرا وكان اجر العمال المهرة اكثر ٥٠٪. بعد الاستيلاء على الصناعة، كل العمال غير المهرة تلقوا نفس الراتب، بينما العمال المهرة (مثل العمال الميكانيكيين) كانت اجورهم ٦٪ اعلى فقط. تطوع العمال ايام الاحاد للعمل بالعنابر التي اقامتها نقابات النقل من اجل بناء المواد الحربية من اجل الميليشيا العمالية .
في سبتمبر، عقد مؤتمر في برشلونة لوضع حل عام لاماكن العمل المصادرة في الاقتصاد عموما. كيف تمضي الكونفدرالية نحو التحويل الاجتماعي للملكية؟ ماذا يجب ان تفعل الكونفدرالية بالمشاريع المصادرة؟ نمطيا، تلك المنشآت كانت تديرها الاتحادات النقابية بعد مصادرتها.
قبل الحرب، لم تدافع الكونفدرالية ابدا عن فكرة تحويل المشاريع المصادرة الى تعاونيات، تعمل في اقتصاد سوق. للمرة الاولى، اقترحت الفكرة في هذا المؤتمر كحل مؤقت لملء الفجوة الحادثة، حتى يأتي الوقت الذي يمكن فيه تنفيذ التحويل الاجتماعي الكامل للملكية. استخدمت كلمة “تعاونية” لوصف هذا الحل المؤقت لسد الفجوة عندما اقترحها في المؤتمر خوان فابريجاس، وهو محاسب قومي قطالوني انضم الى الكونفدرالية بعد يوليو ١٩٣٦.
يتذكر خوان فيرر، سكرتير الاتحاد النقابي التجاري بالكونفدرالية، “حتى تلك اللحظة، لم اكن قد سمعت ابدا عن التحويل التعاوني كحل لوضع الصناعة – كانت المتاجر الكبرى تدار بواسطة الاتحاد النقابي. الذي كان يعنيه النظام الجديد هو ان كل مشروع تحول الى التعاونية سوف يحتفظ بشخصيته الفردية، لكن لهدف اعلى وهو الدخول في فدرالية لكل المشاريع داخل نفس الصناعة “.
في ذلك المؤتمر، الاتحادات النقابية الاقوى، مثل المواصلات، والمنافع العامة، وعمال الصناعات الخشبية، والترفيه العام، والتي شرعت توا في تحقيق المرحلة الاولى من التحويل الاجتماعي للملكية – تجسيد كامل الصناعة في فدرالية صناعية – ارادت تلك الاتحادات استمرار هذا المسار. الاتحادات النقابية الاضعف والاصغر ارادت تحويل المشاريع المصادرة الى تعاونيات.
كانت التعاونيات المدارة ذاتيا تأكيدا عظيما على مقدرة الطبقة العاملة على ادارة الانتاج. طبقا لاقوال فيكتور البا – عضو حزب العمال للوحدة الماركسية اثناء الثورة:
“تعاونيات ١٩٣٦ لم تفشل فقط، ولكنها كانت تعاونيات ناجحة. مع وضع الظروف في الاعتبار، كانت هذه التعاونيات تجسيدا لمبدأ ان العمال يستطيعون القيام بالاعمال الادارية للمشاريع بنفس كفاءة او اكثر كفاءة من اصحاب العمل “.
رغم ذلك، عدم اتمام الثورة – الوجود المستمر للسوق والدولة، والفشل في خلق نظام للتخطيط الاجتماعي الشعبي – خلق المشاكل.
احد المشاكل التي بزغت كانت عدم تساوي التعاونيات بين بعضها البعض بسبب الاختلافات في تجهيزات كل مشروع من المشاريع التي ورثتها، والاختلاف في اتصالاتها بالاسواق، او اختلافات اخرى في اوضاع كل منها. على سبيل المثال، المرحلة الاولى من التحول الاجتماعي للملكية لم تتحقق بشكل اولي في صناعة النسيج ببرشلونة. استمر كل مشروع كتعاونية منفصلة. طبقا لقول جوزيب كوستا، سكرتير الاتحاد النقابي للنسيج في الكونفدرالية في الضاحية القريبة بادالونا:
“لم نر تعاونيات النسيج في برشلونة كنموذج لخبرتنا. معامل النسيج الفردية التي اصبحت تعاونيات تصرفت هناك من البداية كما لو انها وحدات مستقلة ذاتيا بالكامل، تسوق منتجها على قدر ما تستطيع هي مع اعطاء انتباه ضئيل للوضع العام. لقد تسببت في مشكلة فظيعة. كانت نوعا من الرأسمالية الشعبية “.
في بدالونا، نقابات الكونفدرالية نسقت ما بين كل معامل النسيج في انحاء البلدة.
صناعة النسيج، مثل كل الصناعات الانتاجية الاخرى في قطالونيا، كانت تنتج للسوق الاسباني. خسرت الصناعة في اسبانيا، وثلث البلاد في ايدي الجيش الفاشي، نصيبا كبيرا من سوقها. الانتاج الصناعي في قطالونيا انخفض بنسبة ٣٠٪ اثناء السنة الاولى من التحول التعاوني.
في النهاية، في فبراير ١٩٣٧، عقد مؤتمر مشترك بين الكونفدرالية والاتحاد العام للعمال لصناعة النسيج في قطالونيا لتأسيس مجلس صناعي للنسيج – فدرالية صناعية تقوم بالتنسيق وتنهي المنافسة بين معامل النسيج. وافق الكونجرس على ان تحويل المعامل الفردية الى تعاونيات كان خطأ وان من الضروري الشروع سريعا في الاتجاه نحو التحويل الاجتماعي الكامل لهذه الصناعة.
غالبا ما تتعامل التعاونيات مع خسارة الاسواق بالعمل لعدد ساعات اقل او بدفع اجور ناس لا تعمل اصلا. طبقا لاقوال عباد دي سانتيلان، اكثر من ١٥ الف من سكان قطالونيا في ديسمبر 1936 كانوا يتلقون رواتب دون ان يعملوا. وكما لاحظ، لم يكن امرا ذو كفاية اجتماعية ان يكون لديك مثل هذا العدد الكبير من الناس الذين يعملون اقل من المطلوب او لا يعملون بتاتا؛ فالمجتمع يخسر عمل هم قادرون على ادائه. لو وجد نظام للتخطيط الاجتماعي لكان سمح باعادة تخصيصهم لوظائف طبقا للطلب وطبقا للاحتياج الى ما يراد انتاجه.
اعاد عباد دي سانتيلان تأكيد الموقف الاصلي للكونفدرالية في صالح اقتصاد محول اجتماعيا:
“نحن حركة معادية للرأسمالية، وضد اصحاب الاملاك. لقد رأينا في الملكية الخاصة لادوات العمل، للمصانع، لوسائل النقل، في الجهاز الرأسمالي للتوزيع، السبب الاولي للبؤس وانعدام العدالة. نحن نريد تحويلا اجتماعيا لكل الثروة من اجل الا نترك فردا واحدا على هامش مأدبة الحياة “.
في اقتصاد محول اجتماعيا، الاتحاد المحلي والفدراليات الصناعية ليسو “ملاكا” للصناعة ولكنهم “فقط مديرون اداريون لخدمة المجتمع بأكمله”، هذا ما قاله دي سانتيلان.
فشل الكونفدرالية الوطنية للعمل في تجسيد السلطة السياسية كان في حد ذاته سببا لعدم اكتمال الثورة الاقتصادية. الحكومة الاقليمية سيطرت على الائتمانات الخارجية والنظام المالي. مع الوقت، اصبحت الصناعة التعاونية مديونة بشدة للحكومة. وقد استخدم ذلك فعليا لتأمين سيطرة متزايدة للدولة في السنوات الاخيرة من الحرب الاهلية، كما اكتسب الحزب الشيوعي سلطة متزايدة وتحرك نحو اقتصاد مؤمم.
هدف الاجر عند الكونفدرالية في الثورة كان “اجرا واحدا”. لو تم تنفيذ هذا الهدف، لكان ذلك يعني ان كل شخص سوف يأخذ نفس الاجر في الساعة. اوضح ناشط في نقابة النسيج بالكونفدرالية هذا المنطق كالتالي:
“نحن التحرريون لدينا مبدأ ملزم لنا: كل منا سوف ينتج طبقا لقدراته، وكل منا سوف يستهلك طبقا لاحتياجاته. الانتاج مثل الساعة – كل جزء يعتمد على الاخر. لو فشل احد الاجزاء تتوقف الساعة عن العمل. انه لامر صعب جدا ان تحدد اي من العمال الذين يقومون بهذا القدر الكبير والمتنوع من المهام هو الاكثر اهمية. عامل المنجم يحفر ويستخرج الفحم، والعامل ينقله الى المصنع، والعامل الفران يدفعه الى الافران التي تحرك المصنع. دون اي عامل منهم سوف تتوقف العملية. كلهم يجب ان يتلقوا نفس الاجر؛ الفرق الوحيد يجب ان يعتمد علي اجابة اسئلة مثل: هل الرجل اعزب ام متزوج ويعول اطفال؛ وفي الحالة الاخيرة، يجب ان يحصل المتزوج على نصيب اكبر لكل من يعوله “.
نفذ الاجر الواحد في بعض الصناعات وبعض المواقع. احد مثل هذه المواقع كان مدينة هوسبيتالت دي لوبريجات، ضاحية عمالية في الحد الجنوبي من برشلونة. كان النسيج هو الصناعة الاكبر هناك ولكن تواجد ايضا عدد من الصناعات المعدنية بورشها لتشكيل المعادن وافران صهرها. اتحادات الكونفدرالية في هوسبيتالت كانت جزءا من مجلس العمل لبايو لوبريجات التي دافعت عن الاطاحة بالحكومة الاقليمية في يوليو ١٩٣٦. في مدينة هوسبيتالت اكتسحت الكونفدرالية حكومة المدينة القديمة، ووضعت مكانها لجنة ثورية. عقدت اللجنة الثورية للكونفدرالية مجالس احياء متنوعة لتستطلع اراءها. لم يساو ذلك تماما فكرة الكونفدرالية السابقة على الحرب الداعية الى “بلديات حرة” لأن المجالس المشكلة على اساس جغرافي تلك لم تنتخب مجلس بلدية جديد؛ بل كانت مجالس تسيطر عليها الاتحادات النقابية.
قررت كونفدرالية هوسبيتالت، بسبب الاختلافات في الاوضاع الاقتصادية للتعاونيات، ان تنفذ سياسة الاجر الواحد بالشروع في التحويل الاجتماعي لاقتصاد البلدة، عن طريق دعم التعاونيات الاحسن وضعا للتعاونيات الاخرى الاقل بالعون المالي .
فدرالية السكك الحديدية الثورية ساوت اوليا اجور كل عمال السكك الحديدية. في ذلك الوقت، كان الحرس على بوابات عبور محطات السكة الحديد في اسبانيا معظمهم من النساء. كانت هذه النسوة اقل العمال اجورا في قطاع السكة الحديد. تلك النسوة كن اكثر من كسب من مساواة الاجر في السكة الحديد. فيما بعد، ومع ذلك، احتاجت فدرالية السكك الحديدية الى استئجار العديد من المهندسين. اضطرت الفدرالية اضطرارا الى ان تدفع لهؤلاء المهندسين اجورا اعلى مرتين ونصف.
في ظل اقتصاد السوق، يستطيع المهنيون المتعلمون ان يستفيدوا من خبراتهم النادرة ليطالبوا باجور اعلى ومميزات اخرى. يمكن التعامل مع هذه المشكلة مع الوقت في اقتصاد مجتمعي بنظام التعليم المجاني للعمال ومع الحملات المنهجية لرفع مهارات العمال. ولكن ذلك يستغرق وقتا للتنفيذ، وكان الاقتصاد المجتمعي لم يتجسد في الواقع العملي بعد.
تحققت المساواة في الاجر بين الرجال والنساء الذين يؤدون نفس العمل بطريقة عشوائية فقط هنا وهناك وحدثت على الغالب الارجح فقط في المواقع التي نظمت فيها منظمة النسوة الاحرار جمعيات للعاملات. تشكلت منظمة النسوة الاحرار على المستوى القومي في ربيع ١٩٣٦. في قطالونيا، خرجت منظمة النسوة الاحرار من هيئات النساء في اتحادات الكونفدرالية النقابية.
في اوائل الثلاثينات، الوحدة النقابية للصناعات المعدنية في الكونفدرالية بدأت دفع راتبا صغيرا لسوليداد استوراخ للعمل كمنظمة للنشاط. ثار قلق النقابة على نقص انخراط النسوة العاملات في نشاطها. اكتشفت استوراخ ان العاملات اذا ما حاولن الحديث في لقاءات النقابة بالكونفدرالية، فانهن كن يتعرضن للسخرية والاستهزاء من قبل الرجال. لم تكن المشكلة فقط سلوكيات ذكورية شوفينية من الرجال.
انتهت استوراخ بأن آمنت ان من الضروري لهؤلاء النسوة ان يكون لديهن منظمتهن المستقلة ذاتيا – ساحة آمنة لهن يستطعن دراسة القضايا الاجتماعية، وتعلم الخطابة، ويتم تحضيرهن ليكن ناشطات. ساعتئذ سوف تستطيع النساء ان تمسك بقضيتهن مع الرجال في اجتماعات النقابة. النتيجة كانت هيئة النساء في كونفدرالية العمل الوطنية بقطالونيا. ايضا نظمت هيئة النساء انشطة رعاية الاطفال حتى تستطيع الناشطات حضور اجتماعات النقابة ويترشحن فيها كمندوبات.
نصت منظمة النسوة الاحرار على ان غرضها هو تحرير النساء من “العبودية ثلاثية الابعاد” المتمثلة في عبودية “الجهل، والعبودية كنسوة، والعبودية كعمال”. لم تستخدم النساء اللائي اسسن منظمة النسوة الاحرار مصطلح “نسوي – feminist”. كن واعيات بوضعهن الطبقي مثل اندادهن الذكور. وبالنسبة لهن، “النسوية – feminism” كانت حركة للمرأة بهدف الحصول على وضع نخبوي في المهن المختلفة، والادارة العليا، والحكومة. اثناء الثورة والحرب جندت المنظمة ٣٠ الف مرأة من الطبقة العاملة تقريبا.
الشابات اللائي شكلن منظمة النسوة الاحرار، رغم ولائهن لحركة الكونفدرالية، اصررن على ان تحرير المرأة هو امر يتميز عن تحرير الطبقة العاملة، ورفضن ان يكن مجرد زوائد خارجية تابعة – “ملحقات نسوية” – لفدرالية الاناركيين الايبيرية او لكونفدرالية العمل الوطنية. لم تؤمن المنظمة ان الرجال يستطيعون تحرير المرأة. زعماء فدرالية الاناركيين الايبيرية والكونفدرالية، من ناحية اخرى، اصروا على ان حركة النسوة المستقلة ذاتيا هي حركة “انقسامية”.
احد ميادين التغيير في علاقات النوع في اسبانيا اثناء الحرب كان الازدياد الكبير في عدد النساء العاملات في الصناعة. حيث ذهب الرجال الى القتال في جيش الشعب المعادي للفاشية، تم تجنيد النساء ليحلوا محلهم في الحياة المدنية.
جمعية النسوة المناهضات للفاشية (AMA) تشكلت بين النسوة العاملات في الصناعة. هذه الجمعية كانت “حزام اشعاع” للحزب الشيوعي. ومع انتشار نفوذ الجمعية النسائية لمناهضة الفاشية في الصناعات، خشى نشطاء الكونفدرالية من انضمام النساء الى اتحادات الاتحاد العام للعمال النقابية. في هذه الحالة قد ينحسر وجود اتحادات الكونفدرالية. لمواجهة ذلك، فتحت النقابات المحلية للكونفدرالية قاعات اتحاداتها لمنظمة النسوة الاحرار. قدمت النقابات ساحاتها لمراكز رعاية الاطفال، وجماعات النساء الدراسية، وفصول محو الامية وبرامج تعليم الصبية من النساء. في المصانع التعاونية، كان يتم ايقاف العمل للسماح لناشطات منظمة النسوة الاحرار لالقاء محاضرات.
احد الصناعات التي كان لمنظمة النسوة الاحرار وجود قوي فيها هي صناعة النقل العام. كانت بورا بيريز عضو منظمة النسوة الاحرار وكانت واحدة من اولى النساء اللائي عملن قائدات لعربات الترام والتروللي باص في شوارع برشلونة. وكما تتذكر بورا بيريز، رجال نقابة النقل العام في الكونفدرالية اتخذوا من النساء “صبيان لهم يعملن في الصيانة الميكانيكية والقيادة، وهم الذين علمونا حقا الادوار التي قمنا بها”. رفاق كونفدرالية النقل العام، كما تقول بيريز، “تلقوة صدمة من النظرات المبهوتة على وجوه الركاب عندما علموا ان من يقود الترام الذي يركبونه امرأة “.
الخط البياني للحزب الشيوعي الاسباني
برغم الثورة البروليتارية الحقيقية التي كانت تجري في اسبانيا، اصر الحزب الشيوعي الاسباني على ان الاجندة المباشرة في اسبانيا هي اجندة “ثورة ديموقراطية بورجوازية”، وان الكفاح يجب ان نراه ببساطة من منطلق الدفاع عن “الجمهورية الديموقراطية”.
موقف الحزب الشيوعي الاسباني، ومحاولة الاممية الشيوعية لاخفاء طبيعة الثورة العمالية الفعلية في اسبانيا في دعايتها بالبلاد الاخرى، تم تخطيطها لطمأنة “الديموقراطيات” الرأسمالية الغربية، وتكرر قول ذلك على الاغلب، خصوصا في الولايات المتحدة، وبريطانيا وفرنسا. طرح الشيوعيون ومؤيدوهم وجهة النظر القائلة ان ذلك هو احسن سبيل لكسب الحرب ضد العسكرية الفاشية.
معظم الجدل التاريخي حول دور الشيوعية في الثورة والحرب الاهلية الاسبانية قد تركز حول مخططات ستالين الجيوبوليتيكية. كان الاتحاد السوفيتي قد بدأ توا في الخروج من عزلته الدولية، منضما الى عصبة الامم في ١٩٣٤. محاولة الشيوعيين لتهدئة مخاوف “ديموقراطيات” الرأسمالية البريطانية والامريكية والفرنسية لم تكن تكتيكا فقط من اجل الحصول على شحنات السلاح ولكنها كانت ايضا من اجل التكيف مع مخاوف ستالين من العسكرية الالمانية، ورغبته في الدخول اما في حلف عسكري مع “الديموقراطيات” الغربية وإما جرهم الى الصدام مع القوى الفاشية.
ولكن الحزب الشيوعي الاسباني طور قاعدته الاجتماعية الخاصة في اسبانيا اثناء الحرب الاهلية. ماذا كان المعنى الاجتماعي الحقيقي للحزب الشيوعي الاسباني في اسبانيا؟ لاجابة هذا السؤال، نحتاج الى القاء نظرة على البناء الطبقي للرأسمالية المعاصرة. رأى ماركس في الرأسمالية في القرن التاسع عشر بشكل اساسي صراع ثنائي القطبين بين الرأسمال والعمل.
ومع ذلك، ومنذ نهاية القرن التاسع عشر، ظهور اشكال للرأسمالية تنظمها الدولة، واشكال الكوربوريشن الظاهرة جلبت معها ظهور طبقة رئيسية جديدة، انا اسميها طبقة المدراء او رجال الادارة . فور ان اصبحت المشاريع الرأسمالية على هذا القدر الكبير جدا من الاتساع فوق طاقة اصحاب الاعمال على ادارتها بانفسهم، كان على الرأسماليين ان يتنازلوا عن قدر من ميدان السلطة لمستويات تراتبية من المدراء والمهنيون في الشركات العملاقة وشركات الدولة الضخمة. سلطة طبقة المدراء لا تقوم على اساس الملكية ولكن على اساس احتكارهم النسبي لادوات اتخاذ القرار واشكال العمل الاخرى ذات المكانة والنفوذ. تمتلك طبقة المدراء مصالح طبقية خاصة بهم. اكثر من ذلك، هذه الطبقة تمتلك القدرة على ان تكون طبقة حاكمة. المسار الذي ارتاده الحزب البلشفي في الثورة الروسية كان يعبر عن استخدامهم الدولة لبناء نظام اقتصادي جديد تتولى فيه طبقة المدراء الحكم، دون وجود رأسماليين.
لو اقتصرت زاوية رؤيتنا على البعد الطبقي للتحول الاجتماعي، هناك نمطان مختلفان محتملان للثورة المناهضة للرأسمالية. الثورة البروليتارية، لو ناجحة، هي عملية تفكيك الابنية الطبقية لسلطة الرأسماليين وطبقة المدراء للدرجة التي لا تسمح بعدها لايهما ان يهيمنا على الطبقة العاملة واستغلالها. ثورة المدراء، مع ذلك، هي مسار خط بياني للتغيير، لو كان ناجحا، يخلع الرأسماليين من موقعهم المهيمن ولكنه يمنح المكانة والنفوذ لطبقة المدراء كمجموعة مهيمنة جديدة. وتظل الطبقة العاملة مجموعة خاضعة ومستغلة.
الخط البياني لمسار الحزب الشيوعي الاسباني هو نموذج لما اسميه النضال اليساري لطبقة المدراء – السعي من اجل استراتيجيات وبرامج تمنح المكانة والنفوذ لطبقة المدراء، في ظل خطابة يسارية او خطابة مناهضة للرأسماليين. طبقة المدراء اليسارية هي اخر دفاع عن نظام الطبقات في البيئة الاجتماعية حين تهدد حركة الطبقة العاملة بقاء نظام الطبقات هذا. تمكين طبقة المدراء من النفوذ والسلطة كان واضحا في استراتيجية الحزب الشيوعي الاسباني: الحملة لاعادة بناء جهاز الدولة؛ الحملة لبناء جيش وشرطة هرمية المراتب وتجنيد كتائب من الضباط في الحزب؛ الحملة لتجنيد الشرائح المتوسطة في المجتمع الاسباني والدفاع عن مصالحهم؛ التحركات اثناء الحرب نحو تأميم الصناعات التعاونية وفرض سيطرة الدولة عليها.
مفهوم الحزب الشيوعي للثورة في اسبانيا كان مفهوم الثورة على مراحل. كانت المرحلة “البرجوازية الديموقراطية” هي مهمة النضال المباشر. فكرة المراحل هذه عبر عنها بوضوح جيورجي ديميتروف، سكرتير الاممية الشيوعية، في لقاء للاممية عقد في ٢٣ يوليو ١٩٣٦:
“يجب علينا في المرحلة الحالية الا نعين مهمة – للشيوعيين الاسبان – لخلق سوفيتات ومحاولة تأسيس ديكتاتورية البروليتاريا في اسبانيا. سوف يكون ذلك خطأ قاتلا. لذلك يجب القول: تصرفوا متنكرين بالدفاع عن الجمهورية؛ لا تتخلوا عن سياسة النظام الجمهوري في اسبانيا عند هذه اللحظة… عندما يتدعم موقفنا، نستطيع ان نمضي الى المزيد”. (تشديد مضاف )
كان هناك صراعا جيوبوليتيكيا دوليا بين نخبة المدراء في الدولة السوفيتية وبين القوى الامبريالية الرأسمالية. تحتاج الامبريالية الرأسمالية للاحتفاظ بانحاء الكوكب بقدر ما تستطيع مفتوحا امام تغلغل الرأسمال الخاص المتجول واساليب استغلاله. اي ثورة – سواء ثورة طبقة مدراء ومنسقين، ام ثورة قوميين، ام ثورة بروليتاريا – “تنتزع” مناطق من العالم خارج استحواذ الرأسمال الامبريالي سوف تضعف من قوة الرأسمالية العالمية ولهذا السبب سوف ترجح معارضة القوى الامبريالية الرأسمالية لها. ولنفس السبب، اي ثورة لطبقة المدراء سوف تكون في صالح نخبة المدراء للدولة السوفيتية.
شعار الدفاع عن “الجمهورية البرجوازية الديموقراطية” كان له معنيين بالنسبة للشيوعيين الاسبان. الاول، تحت هذا الشعار عمل الحزب الشيوعي في اسبانيا على تجنيد اعضاء من البزنس الصغير وطبقات المدراء، عن طريق الدفاع عن مصالحهم.
المعنى الثاني لدفاع الحزب الشيوعي الاسباني عن “الجمهورية البرجوازية” كان حملتهم لاعادة بناء جهاز الدولة الجمهورية. الاستراتيجية الثورية طويلة المدى للحزب الشيوعي كانت استراتيجية انتشار وتغلغل. باعادة بناء القيادة الهرمية المراتبية داخل ماكينة الجيش والشرطة، عمل الشيوعيون على الامساك والسيطرة على مناصب الضباط. هدفهم كان استخدام ذلك كوسيلة للاستيلاء فعليا على سلطة الدولة في اسبانيا.
بنهاية سبتمبر، بدأت حكومة الجبهة الشعبية عملية بناء قوة شرطة قومية جديدة، تحت اسم الحرس الوطني الجمهوري، وصلت الى ٢٨ الف فرد في ديسمبر. في نفس الوقت، تأسست قوة هائلة من ٤٠ الف فرد لشرطة حرس الحدود والجمارك تحت ادارة الدكتور خوان نجرين، استاذ الفسيولوجي والاشتراكي الديموقراطي الذي ينتمي لعائلة ثرية. في نوفمبر، قررت الحكومة استبدال ميليشيا العمال بجيش تقليدي له قيادة من اعلى الى اسفل. استطاع الحزب الشيوعي أن يغنم السيطرة على الاكاديمية الجديدة التي نشأت لتدريب الضباط. سيطر الحزب ايضا على القوميسارية الجديدة للحرب التي انشأت لممارسة النفوذ السياسي على الجيش من خلال شبكة من القوميساريين السياسيين. سيطر الشيوعيين على عملية تدفق الجرائد الى القوات في الجبهة. ضغط الشيوعيون ضغطا عظيما على الضباط لحثهم على الحصول على بطاقات عضوية بالحزب. هؤلاء الضباط الذين لم ينصاعوا لذلك تم نسفهم. دمر الحزب الشيوعي الاسباني معنويات الجيش “بواسطة التصرف على اساس اشرس حلقية ممكنة”، كما يتذكر احد الاعضاء الاشتراكيين اليساريين من عصبة الشبيبة الاشتراكية الموحدة .
في يوليو ١٩٣٦، بدأ الحزب الشيوعي الاسباني من وضع ضعيف. كانت عضويته في اسبانيا اقل من ٤٠ الف، ويمتلك تأييدا قليلا جدا داخل الطبقة العاملة الاسبانية. استخدم الشيوعيون العديد من التكتيكات للتغلب على وضع الضعف هذا. اولا، استخدم الشيوعيون استراتيجية افتراس قاعدة الحزب الاشتراكي. عدد من قادة منظمة الشبيبة الاشتراكية (ومنهم سانتياجو كاريللو) اخذوا في جولات بروسيا حيث المأدب والنبيذ. هؤلاء الشيوعيون السريون تفاوضوا حول اندماج بين منظمتي الشبيبة الاشتراكية والشيوعية، لخلق منظمة الشبيبة الاشتراكية الموحدة (JSU). افترضت صفقة الاندماج ان سياسات الشبيبة الاشتراكية الموحدة سوف تقرر داخل كونجرس يعقد لهذا الغرض. جماعة الشبيبة الاشتراكية كانت اكبر واوسع من الشبيبة الشيوعية واحتوت على العديد من اتباع الجناح اليساري الذي يستلهم كاباليرو في الحزب الاشتراكي. تم منع الاشتراكيين اليساريين من الحصول على سيطرة على قسم الحزب الاشتراكي في قطالونيا من خلال تكتيك اندماج مماثل. في خريف ١٩٣٦، حاول القادة الشيوعيون اقناع لارجو كاباليرو بالموافقة على اندماج بين الحزبين الاشتراكي والشيوعي. وقتها رأي كاباليرو نتيجة مثل هذه السياسة ولذلك رفض الاقتراح.
الفلاحون مالكو الارض، واصحاب الحوانيت، وملاك البزنس الصغير والمتوسط، والمدراء ، واصحاب الياقات البيضاء كانوا القاعدة الاجتماعية العريضة للاسكويرا في قطالونيا. وغالبا ما كانت هذه الشرائح الاجتماعية المتوسطة تشعر بالرعب من فكرة نزع ملكية الاعمال والمباني، وادارة الاتحادات النقابية للصناعة. في بلاد اخرى مهددة بالثورة البروليتارية، تلك الشرائح الاجتماعية اصبحت القاعدة الاجتماعية للفاشية. ولكن في قطالونيا كانت الشرائح الوسطى مناهضة للفاشية لانها كانت تنتمي لتيار القومية القطالونية. نجح الشيوعيون في تجنيد هذه الشرائح الوسطى الجمهورية النزعة في انحاء المناطق المعادية للفاشية لان الشيوعيين ظهروا كمدافعين عن مصالح هذه الطبقات اكثر تشددا واكثر انتظاما من الاحزاب الجمهورية القديمة.
اول اقتتال بين الحزب الاشتراكي الموحد لقطالونيا (PSUC) وكونفدرالية العمل الوطني في قطالونيا كان حول تشريع نزع ملكية مشاريع الاعمال. وقع هذا الاقتتال في اكتوبر، بعد ان انضمت الكونفدرالية الى الحكومة الاقليمية. طبقا لقول اندرو كابديفيلا، عامل النسيج الاناركي،
“قاتل الحزب الاشتراكي الموحد لقطالونيا والاسكويرا بشراسة من اجل تخفيض اعداد المشاريع المؤهلة لتحويلها الى تعاونيات بينما تمسكت الكونفدرالية وفدرالية الاناركيين الايبيريين باكثر القرارات راديكالية قدر الاستطاعة. سبب موافقة الكونفدرالية على تحويل الملكية الى الشكل التعاوني هو عدم استطاعتها تحويل الملكية الى الشكل الاجتماعي كما كان هدفنا. استولى العمال على المصانع… ولكن النصر لم يكن انتصار الكونفدرالية وحدها. لم نستطع الاستيلاء على الاقتصاد كله والسيطرة عليه “.
معظم ما عارضه الشيوعيون كان التحويل الاجتماعي للاقتصاد بواسطة النقابات، وعملية ربطها لكامل الاقتصاد بشكل مستقل عن الدولة. المحافظة على بقاء مشاريع القطاع الخاص كان سبيلا لايقاف وسد الطريق على التحويل الاجتماعي للاقتصاد تحت سيطرة الاتحادات النقابية. القانون الذي تم تمريره قنن فقط لعملية مصادرة المشاريع التي تزيد عمالتها عن ١٠٠ عامل، او المشاريع التي تتراوح عمالتها بين ١٠٠ و٥٠ عامل فإنها تصادر لو ان ٧٥٪ من عمالها قرروا مصادرتها. في الممارسة العملية، تجاهلت الكونفدرالية ببساطة حقيقة ان ذلك لم يكن متماشيا مع مصادرة الاعداد الواسعة من مشاريع الاعمال الاصغر التي كانت الفدرالية قد نفذتها. محاولات الحزب الاشتراكي الموحد لقطالونيا (PSUC) قطع الطريق على التحركات التي تتجاوز المصادرة الى ضرب اقتصاد السوق كان تكتيكا داعما للمهنيون والمدراء اضافة الى اصحاب البزنس الصغير.
ايضا نظم الحزب الاشتراكي الموحد لقطالونيا اصحاب مشاريع الاعمال الصغيرة واصحاب المحلات في منظمة مشاريع الاعمال الصناعية والتجارية الصغيرة (GEPCI). بحلول ربيع ١٩٣٧، ترعرعت منظمات اتحاد العمال العام في قطالونيا لتصل بالعضوية الى ٣٥٠ الف عضو (ومن ضمنهم ١٨ الف من منظمة مشاريع الاعمال الصناعية والتجارية الصغيرة)، متساويا تقريبا مع عضوية الكونفدرالية البالغة ٤٠٠ الف عضو. تأسس الكثير من هذا النمو على قيام الحزب الاشتراكي الموحد لقطالونيا بتنظيم الشرائح الوسطى من السكان. بنى الشيوعيون مركز ثقل قوي مضاد للثورة العمالية في قطالونيا.
شحنات الاسلحة السوفيتية للحكومة الجمهورية ووصول الكتيبة الدولية اثناء معركة مدريد في اكتوبر-نوفمبر ١٩٣٦، منح الحزب الشيوعي هالة من المكانة والنفوذ وكان سببا ثالثا لنمو قوتهم هذه. في نهاية سبتمبر ١٩٣٦، لويس كامبانيز وبوينافنتورا دوروتي زارا لارجو كاباليرو في مدريد في محاولة للحصول منه على التزام بجزء من احتياطي ذهب اسبانيا لامداد الصناعة الحربية والميليشيا بمزيد من الموارد. وافق كاباليرو اوليا على ذلك، ولكن خوان نيجرين اقنعه بتغيير رأيه. في ١٣ سبتمبر، وافق كاباليرو على ان يرسل نيجرين احتياطي الذهب الى حيثما يريد. في ذلك الوقت كانت اسبانيا تمتلك رابع اكبر احتياطي ذهب في العالم، مساويا ٨٠٠ مليون دولار (١١ بليون دولار باسعار اليوم). اقنع الشيوعيون نيجرين ان يرسل ٧٠٪ من احتياطي الذهب الى روسيا. كان الاسبان قد تلقوا تأكيدات شفوية بأن الذهب يمكن اعادة تصديره اليهم في اي وقت قد يرغبونه. فور وصول الذهب الى موسكو، علق ستالين رغم ذلك انه “لن يستطيع الاسبان رؤية ذهبهم مرة اخرى، بالضبط كما لا يستطيع ان ير المرء حلمة اذنه”.
نقل الذهب الاسباني الى روسيا دمر على نحو بالغ الاقتصاد الاسباني والمجهود الحربي ضد الفاشية. عندما تسربت اخبار ان البيزيتا الاسبانية لم تعد تتمتع بغطاءها الضخم من الاحتياطي الذهبي، هبطت قيمة البيزيتا بحدة في اسواق تغيير العملات الاجنبية. بحلول ديسمبر فقدت العملة الاسبانية نصف قيمتها. وقد تسبب ذلك في ارتفاع عظيم لتكلفة الواردات، وهكذا دمر ستالين قدرة اسبانيا المعادية للفاشية على استدامة المجهود الحربي .
قدم كل من هتلر وموسيليني ونظام الحكم الفاشي في البرتغال الدعم العسكري للجيش الفاشي الاسباني. في كتابه اسلحة لاسبانيا كشف الباحث البريطاني جيرالد هاوسون وثائق بتفاصيل غنية عن شحنات الاسلحة التي قدمت لكل جانب في الحرب الاهلية. اظهر هاوسون ان العسكر الفاشيست تلقوا اسلحة اكثر بكثير جدا مما تلقاه الجانب المعادي للفاشية. ارسل الروس مواد حربية للاسبان اقل بكثير مما كان يعتقد في السابق. ارسلوا القليل جدا من الاسلحة الحديثة. معظم الاصناف كانت قديمة وتوقف استعمالها.
واصبح من الصعب جدا على الجانب الاسباني المعادي للفاشية ان يحصل على سلاح باي ثمن نتيجة للمقاطعة التي نفذتها فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة. اغار مكتب التحقيقات الفدرالي على المخازن الكبيرة في المكسيك لاحتجاز الارقام الكودية للاسلحة كجزء من المشاركة الامريكية في جهود المقاطعة.
العهد الجديد (النيو ديل) في الولايات المتحدة الامريكية مال اوليا الى السماح بارسال شحنات اسلحة الى الجانب المعادي للفاشية في اسبانيا. نظم الاساقفة الكاثوليك حملة ضغط مكثفة ادت الى الدعم الامريكي لما يسمى حلف “عدم التدخل” (رغم حقيقة ان كنيسة الباسك الرومانية الكاثوليكية دعمت الجانب المعادي للفاشية). في مايو ١٩٣٨، قاد جوزيف كينيدي جهود جماعة ضغط كاثوليكية اخرى اوقفت بنجاح محاولة رجال الكونجرس الليبراليين افشال المشاركة الامريكية في المقاطعة .
اضطر وكلاء الجمهوريين الاسبان لتقديم رشاوى ضخمة في كل مكان ذهبوا اليه في العالم من اجل الحصول على السلاح. حلف “عدم التدخل” جعل القوى الاسبانية المعادية للفاشية اكثر اعتمادا على الاتحاد السوفيتي.
ارسال الذهب الى روسيا منح النظام السوفيتي السيطرة على تدفق الاسلحة على اسبانيا. مثلا، في اواخر ١٩٣٧، جارسيا اوليفير تعامل مع خوان نيجرين من خلال اقتراح تنظيم جيش حرب عصابات في جبال الاندلس. كانت معظم اراضي الاندلس قد اجتاحتها القوات الفاشية في الاسابيع الاولى من الحرب الاهلية ولكن كان من المعتقد ان الاف من القوى المعادية للفاشية يختبأون في الجبال هناك. اراد جارسيا اوليفير اسلحة وامدادات لتنظيم جماعة من حوالي ٢٠٠ رجل يتسللون الى الجبال. هذه المجموعة القلب سوف تنظم من ثم جيشا يناوش القوى الفاشية في خطوطها الخلفية. وافق نيجرين اوليا على ذلك. ولكن المندوب السوفيتي رفض الترخيص لهم بالسلاح لانهم لا يريدون جيش حرب عصابات يسيطر عليه الاناركيين.
ولم يؤد ارسال الذهب الى روسيا سوى تسهيل سرقة ستالين للاسبان. وقد باع السوفيت الاسلحة باسعار باهظة من خلال نسبة خاصة لتبادل العملات، لصالحهم، في صفقات الاسلحة. نصب الروس على الاسبان في ٥٠ مليون دولار في بيعهم طائرتين فقط. كتب هاوسون: “من كل اعمال النصب، والغش، والسرقات والخيانات التي قامت بها الحكومات والمسئولون ومهربو السلاح من كل انحاء العالم والتي كان على الجمهوريون ان يلقموا افواههم حجرا ويصمتوا عنها… سلوكيات ستالين والمسئولين الاعلى في المناصب السياسية العليا بالدولة السوفيتية (nomenklatura) نحوهم… كانت الاكثر قذارة، والاعظم غدرا، والاضعف حجة “.
“كرونشتاد الاسبانية”
في اوائل عام ١٩٣٧ شعر الشيوعيون بالقوة التي تكفي لعمل تحركات تمكنهم من وضع مهيمن في اسبانيا. وصلت عضوية الحزب الشيوعي الاسباني الى ٢٣٠ الف في مارس، اضافة الى عضوية منظمة الشبيبة الاشتراكية الموحدة التي وصلت وحدها الى ٢٥٠ الف عضو . اثناء نفس هذه الفترة، نمت عضوية فدرالية الاناركيين الايبيرية الى ١٦٠ الف عضو. فقط حوالي ٤٠٪ من عضوية الحزب الشيوعي الاسباني كانت من الطبقة العاملة.
ظهرت النية الشيوعية في التحرك ضد ثورة العمال واضحة جلية في صحيفة البرافدا في ديسمبر ١٩٣٦: “بالنسبة لقطالونيا، تطهير التروتسكيين والسينديكاليين الاناركيين قد بدأ، ولسوف يجري بنفس القوة التي جرى بها في اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية”.
خوان دومينيخ، سكرتير اتحاد نقابات عمال الزجاج في الكونفدرالية، كان مسئولا عن امدادات الغذاء في الحكومة الاقليمية في قطالونيا. في السابع من يناير، منظمة الامداد بالتموين التي تسيطر عليها الكونفدرالية كان قد تم حلها بناء على اوامر الحكومة الاقليمية. مسئولية الامداد بالطعام انتقلت من دومينيخ الى الحزب الاشتراكي الموحد لقطالونيا. القى الحزب المهمة على عاتق السوق الحر والبزنس – وهو تحرك دعم من قوة منظمة البزنس التجاري والصناعي الصغير في قطالونيا (GEPCI). كانت النتيجة ارتفاعا كبيرا في اسعار اصناف الطعام، بسبب الدعاية ونقص ونفاد المواد الغذائية. الصحافة الشيوعية القت باللائمة على التعاونيات.
في ٢٣ يناير، اتحاد العمال العام في قطالونيا، الذي سيطر عليه الان الشيوعيون، عقد “مؤتمرا” للفلاحين اصحاب الارض في قطالونيا. كان هذا المؤتمر بشكل اساسي احباط دعائي موجه ضد التعاونيات الزراعية. تحريض الشيوعيين ادى الى هبة مسلحة من فلاحي مقاطعة تاراجونا، نتج عنها صدامات مسلحة مع الحرس الثوري وقوات دوريات المراقبة (ميليشيا شكلها البوليس بعد ١٩ يوليو ١٩٣٦). تصاعد الصدام عندما بدأ رودريجوز سالاس، رئيس الشرطة الجديد الموالي للشيوعيين، التحرك لتجريد المدنيين من السلاح في برشلونة – وهو الهجوم على جماعات الدفاع عن الاحياء في الكونفدرالية. هذه الصدامات ادت الى قرار من الحكومة الاقليمية بحل ميليشيات دوريات المراقبة في ٤ مارس.
في نوفمبر ١٩٣٦، عندما انضمت الكونفدرالية الى حكومة الجبهة الشعبية، جارسيا اوليفير اصبح وزيرا للعدل. وقد جعله ذلك مسئولا عن نظام السجون في اسبانيا. في اكتوبر اخذ حرس السجون الف من السجناء اليمينيين في سجون مدريد الى اطراف البلدة وتم اعدامهم، دون اوامر بذلك. لمنع الانتهاكات من هذا النوع، عين جارسيا اوليفير احد الاناركيين، ميلكور رودريجوز، رئيسا للسجون في مدريد. في نفس الوقت، كان الشيوعيون قد اكتسبوا السيطرة على الحكومة الثورية في مدريد، بالسيطرة على عصبة الدفاع في مدريد. في ٢٠ ابريل ١٩٣٧، صرح رودريجوز بأن سجنا شيوعيا سريا قد تم اكتشافه في مدريد. في هذا السجن كان ابن اخت احد المسئولين الكبار في حزب العمال الاشتراكي الاسباني معتقلا، وعدد من الاشتراكيين الذين تم تعذيبهم فيه. هذه الفضيحة ادت بحكومة كاباليرو الى حل عصبة الدفاع في مدريد. غير الحزب الشيوعي الاسباني نغمة حديثه عن كاباليرو بعد ذلك بوقت قصير. في اوائل ١٩٣٦ وشمت الصحافة الشيوعية كاباليرو بخاتم “لينين اسبانيا”. في ربيع ١٩٣٧ كانت صحافتهم تصفه كابله عجوز يعاني من الشيخوخة.
في ٢٥ ابريل، اغتيل ناشط الحزب الاشتراكي الموحد، رولدان كورتدادا، احد مجموعة الثلاثينيين السابقين، في منطقة بايو لوبريجات – احد معاقل الاناركية. قبض على احد الناشطين الاناركيين البارزين في بايو لوبريجات ولكن لم يقدم دليلا على اتهامه. كانت جنازة كورتدادا فرصة لمظاهرة جماهيرية حاشدة في الشوارع – استعراض قوة من الشيوعيين.
في مناخ من التوتر المتزايد، انفجر الصدام بين الشيوعيين والكونفدرالية في الثالث من مايو عندما هاجمت قوات ضخمة من الشرطة التي يسيطر عليها الشيوعيين مبنى تحويل المكالمات التيليفونية الذي يديره العمال في برشلونة، مع اغارات اخرى منسقة على مباني تحويل المكالمات في مناطق اخرى. نظام التليفون في اسبانيا كان مدارا بواسطة فدرالية العمال التي تسيطر عليها الكونفدرالية الوطنية للعمل. كان عمال الكونفدرالية يسترقون السمع على مكالمات المسئولين الحكوميين من اجل الاحتفاظ بمعلومات عن مواقفهم. استخدم الشيوعيون هذا الامر كذريعة لمحاولة الاستيلاء على نظام التليفونات في اسبانيا. لم يكن الحزب الاشتراكي الموحد لقطالونيا ضد هذه الممارسة للتنصت على المكالمات، على كل. وكما يتذكر احد المساعدين القريبون من زعيم الحزب الاشتراكي الموحد لقطالونيا خوان كوموريرا فيما بعد: “طبعا، لو كان الحزب في موقع يستطيع فيه التنصت على المحادثات التليفونية، لكان صنع ذلك ايضا. يريد الحزب دائما ان يلم بكل المعلومات بشكل حسن “. كانت مسألة سلطة.
انتشر سريعا خبر الهجوم على مبنى التليفونات. خلال ساعات انطلقت لجان الدفاع عن الاحياء في الكونفدرالية الى العمل ضد الشرطة التي يسيطر عليها الشيوعيين وبدأت في مترسة المباني. انضم حزب العمال للوحدة الماركسية ومنظمة الشبيبة التحررية الى هذا الاقتتال الداخلي وسرعان ما سيطرت جماعات العمال المسلحين على معظم انحاء المدينة والضواحي. انتشر اضراب عام في كل منطقة برشلونة. احتفظت القوات الحكومية بسيطرتها فقط على بعض اجزاء من المنطقة المركزية.
كل هذا القتال كان رد فعل تلقائي من الطبقة العاملة ضد لعب مسلح بالسلطة من قبل الشيوعيين. حاولت اللجان المحلية والاقليمية في الكونفدرالية التفاوض حول انهاء القتال، ومنعت وحدات جيش الكونفدرالية من التدخل. في الرابع من مايو، اذاعت الكونفدرالية من خلال مكبرات الصوت ومن خلال راديو النقابات نداءات لانهاء القتال وناشدت كل شخص ان يعود الى عمله. كلا من فيديريكا منتسيني وجارسيا اوليفير، الوزيرين الاناركيين في الحكومة القومية، اذاعا من خلال الراديو مناشدات بانهاء القتال. وصف عضو من حزب العمال لوحدة الماركسيين ما حدث في المتاريس كرد فعل على خطاب مونتسيني في الراديو:
“مقاتلو الكونفدرالية كانوا هائجين غضبا لدرجة انهم امسكوا بمسدساتهم واطلقوا الرصاص على جهاز الراديو. بدا الامر عجيبا ولكنه حدث امام عيني. لقد جن جنونهم غضبا على الاطلاق، ومع ذلك اطاعوا ما طلبوه منهم. ربما هم اناركيون، ولكن عندما يصل الامر الى منظماتهم فلديهم انصياعا هائلا للانتظام “.
بدأ العمال في السادس من مايو تفكيك المتاريس. فورا انتهز الحزب الاشتراكي الموحد في قطالونيا هذه الفرصة التي منحها الوضع للاستيلاء على مبنى التليفونات. بدا ان زعماء الكونفدرالية يصدقون ان كل شيء سوف يعود الى حاله كما كان قائما قبل الاقتتال، حيث ان “اعضاءنا قد اظهروا اسنانهم حامية”. لكن الامور لم تمض على هذا النحو.
قوة بوليس شبه عسكرية شديدة التسليح باعداد كبيرة ارسلت الى برشلونة لاعادة فرض سلطة الحكومة. استولت هذه القوات على مخازن كبيرة للسلاح تحتفظ بها الكونفدرالية. في الحادي عشر من مايو، تم دفن ١٢ جثة مشوهة بشدة لاناركيين شباب في مدفن بالقرب من ريبوليت. في الخامس من مايو، قتل الشيوعيون الاناركي الايطالي كاميلو بيرنيري، استاذ الفلسفة والمنفي المهاجر بسبب الفاشية الايطالية، ومعه اناركي ايطالي اخر.
في لقاء لمجلس وزراء حكومة الجبهة الشعبية في ١٥ مايو، اقترح الشيوعيون تحركا لحظر الكونفدرالية وحزب العمال لوحدة الماركسيين. رد كاباليرو بأن ذلك لا يمكن تنفيذه بطريقة قانونية ابدا، وانه لن يسمح بذلك طالما بقي رئيسا للحكومة. عندئذ غادر الوزراء الشيوعيون الاجتماع. وعندما قال كاباليرو، “مجلس الوزراء ما زال منعقدا”، غادر الوزراء الاشتراكيون الديموقراطيون، والجمهوريون والقوميون الباسك الاجتماع ايضا، مساندة للشيوعيين. فقط الوزراء الاشتراكيون اليساريون الثلاثة والوزراء الاربعة من الكونفدرالية ايدوا كاباليرو.
كانت الحكومة المركزية والحزب الشيوعي الاسباني هما المنتصر الاساسي في احداث مايو الدامية. تم طرد الكونفدرالية من كلا من الحكومة المركزية والحكومة الاقليمية في برشلونة.
سريعا، حرمت الحكومة المركزية الحكومة الاقليمية في قطالونيا من سيطرتها على البوليس المحلي وفعليا دمرت الاستقلال الذاتي لقطالونيا. كامبانيز واسكيرا تم تهميشهما بالكامل. حل خوان نيجرين محل كاباليرو – وهو الاشتراكي الديموقراطي الذي كان متعاطفا مع الشيوعيين. تحرك الشيوعيون ضد الاشتراكيين اليساريين، مستخدمين البوليس للاستيلاء على صحفهم الكبرى التي يسيطر عليها فصيل كاباليرو في حزب العمال الاشتراكي الاسباني.
صدق نيجرين على القمع الموجه ضد حزب العمال لوحدة الماركسيين الذي رفض كاباليرو ان يفعله. اندرو نين، زعيم حزب العمال لوحدة الماركسيين، سريعا ما قبض عليه، وتعرض للتعذيب والاغتيال بواسطة عملاء شيوعيين. في ١٥ اغسطس، صدر قرار بمنح سلطات لهيئة التحقيق العسكرية (SIM). هذه الهيئة هي شرطة سياسية سرية، يتسيدها عملاء البوليس السري العسكري السوفيتي (GPU). في مدريد وحدها كان عدد عملاء هيئة التحقيق العسكري السريين حوالي ٦٠٠٠.
كان بيل هيريك عضو الحزب الشيوعي الامريكي من نيويورك يخدم في كتيبة ابراهام لنكولن باسبانيا. في مذكراته، يصف هيريك كيف رشقته عيون غاضبة عدوانية بينما يسير في جولة ببرشلونة مرتديا زي الكتيبة الدولية اواخر عام ١٩٣٧… وكيف بصق الناس عليه. كتب هيريك عن ان احد الرؤساء في الحزب اجبره على مشاهدة اعدام شاب من الثوريين رميا بالرصاص في احد سجون هيئة التحقيق العسكرية. وصف هيريك مشهد اعدام فتاة هتفت “تحيا الثورة – Viva la revolución” في وجه احد بلطجية هيئة التحقيقات العسكرية الذي اطلق رصاصة ففجر رأسها. سيطر منظر اعدام تلك الفتاة على مخيلة هيريك ولازمه شبحها مما ادى الى خروجه فعليا من الحزب الشيوعي الامريكي بعد عودته الى مدينته نيويورك .
قامت استراتيجية الجبهة الشعبية على اساس فكرة محاولة الحصول على سماح من القوى الامبريالية الرأسمالية بشحنات السلاح الى الجانب المعادي للفاشية في اسبانيا. ولم تكن تلك استراتيجية واقعية تماما. القلق الاكبر للنخبة البريطانية كان البلشفية، وليس الفاشية. وهذا هو سبب تقديم الحكومة البريطانية في الثلاثينات تنازلات لا تنتهي لهتلر.
قادت استراتيجية الجبهة الشعبية بشكل طبيعي الى رؤية الكفاح على انه حرب اصطلاحية تقليدية. ولكن بمعايير الحرب التقليدية، كان الفاشيون يمتلكون ميزة متقدمة. كان لديهم جيشا مدربا وسبل للحصول على سلاح بكميات اكبر، عن طريق هتلر وموسوليني. فشل تنظيم حروب عصابات خلف خطوط الفاشيين جاء من هذه الصورة التي رسمت الكفاح بوصفه حرب تقليدية. ولكن حرب العصابات كانت سوف تستفيد من تميز الجانب المعادي للفاشية بالتأييد الجماهيري لتكبيل قطاعات واسعة من الجيش الفاشي.
لم توجه نداءات على اسس طبقية الى العمال في البلاد الاخرى لأن استراتيجية الجبهة الشعبية لم تصور القتال على انه كفاح جوهري من اجل سلطة الطبقة العاملة. وكما كتب جورج اورويل:
“فور ان تم تضييق منظور الحرب الى مجرد “حرب من اجل الديموقراطية” اصبح مستحيلا ان تتوجه بأي دعوة واسعة المدى تناشد عون الطبقة العاملة في الخارج… السبيل الذي كانت تستطيع الطبقة العاملة في البلاد الديموقراطية ان تساعد به الرفاق الاسبان كان هو العمل الصناعي – الاضراب والمقاطعات. لم يبدأ حدوث اي شيئ من هذا القبيل ابدا “.
الميزة المتقدمة الكبرى التي امتلكها الجانب المعادي للفاشية هي الحماس الثوري الجماهيري. ناور الشيوعيون لاكتساب السيطرة على الجيش، واخفاء او تدمير ادارة العمال للصناعة، وساهموا في تحطيم المعنويات.
التحويل التعاوني القسري؟
في اغسطس ١٩٣٧، اصدرت حكومة نيجرين مرسوما بإلغاء مجلس اراجون للدفاع الذي تسيطر عليه الكونفدرالية. قوات الجيش تحت قيادة الجنرال الشيوعي انريك لايستر حطمت التعاونيات، وسلمت الارض مرة اخرى الى ملاكها، وقبضت على ٦٠٠ من اعضاء الكونفدرالية (وقتلت بعضهم).
اتهم الشيوعيون، لتبرير مذبحة اراجون، اتهموا الاناركيين بانهم يديرون عمليات نظام تعاوني اجباري. زعم الشيوعيون انهم ذهبوا الى هناك لتحرير المزارعين. عرض الاناركيون من جانبهم صورة ان تشكيل التعاونيات للاقتصاد الزراعي في اراجون كان منتجا لمبادرات محلية، حركة تحرر من اصحاب العمل الزراعيين وملاك الاراضي المستغلين. قامت شواهد تدعم كلا الصورتين.
طبقا لماكاريو رويو، العضو الفلاح باللجنة الاقليمية للكونفدرالية باراجون، عنصر من عناصر الاكراه لم يكن من الممكن تفاديه في اي ثورة. فالطبقات المهيمنة لا محالة سوف تقف موقفا مضادا لتحرر الطبقة العاملة. ولكن الى اي مدى يمتد هذا الاكراه والارغام؟ سياسة الشيوعيين حول الزراعة كانت مصدرا للنزاع مع اقسام من فدرالية العمال الزراعيين (FNTT) في الكونفدرالية والاتحاد العام للعمال.
الشقاق الاكبر كان حول السياسة نحو ملاك الاراضي المتوسطين والكبار الذين لم يفروا من اراضيهم كرد فعل لانقلاب الجيش. هؤلاء الناس امتلكوا الارض الكافية لتأجير عمال يعملون لصالحهم. هؤلاء الملاك كانوا المعادل الاسباني لطبقة الكولاك في الثورة الروسية عام ١٩١٧. في معظم الاراضي المعادية للفاشية، كلا من فدرالية العمال الزراعيين والكونفدرالية عادة ما اتخذوا موقف يسمح لهؤلاء الملاك الفلاحين بالاحتفاظ بالارض التي تستطيع عائلاتهم زراعتها فقط. كان هدف فدرالية العمال الزراعيين والكونفدرالية هو القضاء على استخدام العمل المأجور في الريف.
ولكن الحزب الشيوعي الاسباني كان معارضا لنزع ملكية اي مالك للارض لم يفر. ومع ذلك، الفلاحين ملاك الارض الاكثر غنى وثروة كانوا عادة يمينيين، وكانوا غالبا الرؤوس السياسية caciques اليمينية في القرى. سياسة الشيوعيين المدافعة عنهم – التي تصل حتى الى نقطة مساعدتهم على استرجاعهم للارض التي تحولت ملكيتها الى التعاونيات – دعمت عناصر اليمين في الريف.
الممارسات الفعلية للكونفدرالية بالتحويل التعاوني لشكل ملكية الاراضي الزراعية والانتاج الزراعي اختلف باختلاف المناطق. في الاندلس، سياسة الكونفدرالية كانت هي نفسها سياسة الحزب الشيوعي الاسباني. لم تنزع الكونفدرالية ملكية اي ارض على الاطلاق. انشأت الفدرالية تعاونيات زراعية على عزب واقطاعيات الملاك الذين هربوا، واستخدمت الحيازات الصغيرة التي جلبها الفلاحين طواعية اليها .
النزاع حول اراجون كان ايضا حول المدى الذي يجبر عنده الفلاحين اصحاب الملكيات الصغيرة الذين لا يستخدمون اي عمل مأجور على ادماج حيازاتهم الصغيرة في التعاونيات. هذا الصنيع كان عكس نصيحة كروبتكين في كتابه غزو الخبز ولم تتبعه الكونفدرالية في اجزاء اخرى من المنطقة المعادية للفاشية.
كان ساتيرنينو كارود ابنا لعامل زراعي بلا ارض في اراجون وقائدا لاحد طوابير ميليشيا الكونفدرالية. كان كارود مدركا بشكل جيد كيف يرتبط الفلاحون بقوة بقطعة الارض الصغيرة التي يمتلكونها. “انها جزء من وجودهم. انهم عبيد لها. حرمانهم منها مثل خلع قلوبهم من بين ضلوعهم. يجب الا نرغم الفلاح على تسليم ارضه الى التعاونيات “. ولكن في اراجون نصيحة كارود لم يأخذها احد دوما في اعتباره.
قرية انجويس مثال على ذلك. ينقل لنا رونالد فريزر، من كتابه “في دماء اسبانيا”، عبارات لحديث زوجين من انجويس. كلاهما كانا من المؤيدين المتحمسين المؤمنين: قال الرجل انه سوف يعطي حياته دفاعا عن الكونفدرالية. عندما انشأت التعاونية، كانا سعداء للخروج من تحت قبضة ملاك الاراضي الذين كانوا يطحنونهم في العمل.
لكن الزوجين وصفا المدينة وهي تدار بواسطة لجنة من ٢٠ رجل يطوفون فيها ومسدساتهم معلقة على جنوبهم ولا يعملون عملا ما. الفلاحون الذين حاولوا العيش لم يستطيعوا شراء السماد او البذور حيث ان النقود كانت قد الغيت والموارد تحت سيطرة التعاونية. اللجنة التي ادارت البلدة كانت تحشو جيوبها. افضل الطعام والاطايب كانت ينتهي بها السبيل الى منازلهم. هذا ما زعمه الزوجان.
كان رجال اللجنة يتجولون في الانحاء في سيارات صادروها من العائلات الثرية. وعلى غير منوال النساء الاخريات في البلدة، نساءهم كن معفيات من العمل. نادرا ما كانت تعقد مجالس القرية ولم تكن هناك اجراءات مرعية لسحب العضوية عن الاعضاء. الزوجان المناصران للكونفدرالية قالا انه ساد سخط عظيم على تلك الاوضاع. آمن الزوجان انه لابد من ثورة اخرى للتخلص من تلك النخبة الادارية الجديدة .
دعاية الشيوعيين صورت الامر في كل اراجون على انه يشبه احوال قرية انجويس. في الواقع، كانت هناك بلدات اخرى اوضاعها مختلفة تماما.
ماس دي لاس ماتاس كانت بلدة ثرية مزدهرة للفلاحين الصغار الذين يمتلكون اراضي في اراجون، يبلغ سكانها ٢٥٠٠ نسمة. قبل الحرب، كانت عضوية الاتحاد النقابي للكونفدرالية هناك حوالي ٢٠٠ عضو. بادر الاناركيون في انشاء تعاونية شملت القرية بالدعوة لعقد مجلسا للسكان. انتخب المجلس لجنة معادية للفاشية – نصفها كان من اعضاء الكونفدرالية ونصفها من انصار الحزب الجمهوري اليساري. كلا من اللجنة المنتخبة ومجلس البلدة اصبحا الحكومة الجديدة لها وادوات للتحويل الاجتماعي لاقتصاد البلدة. هذا مثال لما كان يسميه الاناركيون الاسبان “البلديات الحرة”. وهذا واحد من الاماكن القليلة التي بنى فيها الاناركيون فعليا هذا النوع من هيكل للحكم قائم على اساس مجالسي جغرافي اثناء الثورة.
ادخل العديد من الفلاحين حيازاتهم الصغيرة من الارض في تعاونية البلدة، موافقين على العمل في الارض بشكل جماعي. احد مميزات ذلك انه كان اكثر جدوى في استخدام الميكنة، التي قامت البلدة بشرائها من اجل استخدامها في عمليات فلاحة وزراعة الارض. كان سكرتير التعاونية شاب عمره ٢٦ عاما يعمل لدى نفسه كصانع دواليب خشبية. احضر ادواته الشخصية وادخلها في التعاونية. سيطرت التعاونية على كل الخدمات. السلطة السياسية التي مارستها تعاونية البلدة ظهرت في حقيقة انهم حظروا استئجار اي شخص للعمل كأجير. كما حظروا ايضا لعب القمار وبيع المشروبات الروحية .
رفضت ٥٠ عائلة من ملاك الارض في القرية الانضمام الى التعاونية وانضموا الى الاتحاد العام للعمال. ومع ذلك، لم يعارض كل الفلاحين الاكثر ثراءا التعاونية. عندما سأل زائر احد اكثر الرجال ثروة في البلدة عن سبب انضمامه الى التعاونية، اجابه: “لماذا؟ لان هذا هو اكثر الانظمة الموجودة انسانية”.
لم يعارض الاتحاد العام للعمال دائما التعاونيات. في قرية اندورا، اغلبية اعضاء التعاونية كانوا ينتمون الى الاتحاد العام للعمال.
عندما قامت قوات ليستر الموالية للشيوعيين بغزو اراجون في ١٩٣٧، انعقد مجلس السكان في ماس دي لاس ماتاس، وبوجود البوليس على رأس الاجتماع، سمحوا لأي شخص يريد الخروج من التعاونية ان يفعل ذلك. هبطت عضوية التعاونية الى ١٥٠٠. وهكذا استمر ٦٠٪ من السكان طوعيا يدعمون التعاونية، رغم التهديد الموجود في القوات الشيوعية.
التحول الى التعاونية في اراجون كان له غرض مزدوج. للمدى الذي كانت فيه المبادرة محلية، الدوافع كانت ادارة ذاتية مجتمعية والمساواة. ولكن جيش العمال في اراجون، الذي تواجد على بعد كيلومترات قليلة فقط من القرية، لم يكن يمتلك خط يعتمد عليه تماما من الامداد لقطالونيا وفالنسيا وهما المنطقتان التي كانت الميليشيا هذه قد تشكلت فيهما. لعبت قرى اراجون ايضا دور تزويد هذه الميليشيات العمالية بالطعام.
في الاغلب، الغيت النفود وفرض نظام الحصص. بالسيطرة على استهلاك السكان المحليين، كان يمكن توليد فوائض من اجل تزويد الجيش الثوري. العمل مجانا لصالح الميليشيا المعادية للفاشية كان موضع فخر لانصار اليسار في القرى، ومصدر استهجان وسخط بين اليمينيين في القرى.
ولكن الغاء النقود في حد ذاتها كان مصدرا اخر للسخط بين الفلاحين الصغار. طبقا لرئيس الكونفدرالية في القرية التعاونية الكوريسا، لم يعجب الفلاحون فكرة اخذ الاشياء مجانا من المتجر العمومي لانهم يشعرن ان ذلك يشبه التسول . فهم يعتقدون انهم يكسبون الحق عند مستوى معين من الاستهلاك من خلال عملهم.
السكرتير الاناركي للتعاونية الناجحة في ماس دي لاس ماتاس قال ان الغاء النقود “ظهر انه كان احد اخطاءنا الكبيرة”. آمن الرجل انه قد كان من الافضل ان ندفع للناس نظير عملهم، ونمنحهم مكافآت اضافية نظير احتياجات من يعولونهم.
لو ان البالغين القادرين جسديا يكسبون حقا لهم في الاستهلاك بناء على عملهم، فهذا يسمح لكل فرد ان يرتب احتياجاته الخاصة من المنتجات طبقا لرغباتهم الخاصة. غياب النقود ادى الى حالات من الاسراف والتبديد وانعدام الكفاءة مثل تخلص الناس من الخبز الزائد لانهم يحصلون عليه مجانا.
ساتورنينو كارود اعتقد ان الغاء النقود كان نتيجة مؤسسة على خلط للامور بين النقود والرأسمال. واصر على ان هناك حاجة لنظام محاسبة اجتماعية . وهذا سوف يتطلب وحدة نقدية لتحتوي القيمة في طياتها بالنسبة لنا التي هي قيمة الموارد المستخدمة في انتاج الاشياء. الرأسمال هو علاقة اجتماعية للهيمنة، تمارس من خلال الشراء السوقي لوسائل الانتاج واستئجار العمال، من اجل صنع الارباح. لا تفترض النقود استمرار وجود تلك الترتيبات الرأسمالية الاقتصادية.
الهدف الحقيقي للشيوعيين لم يكن تدمير التعاونيات. ساعد الشيوعيون على تشكيل التعاونيات الزراعية في مناطق اخرى. هدف الشيوعيين في اراجون كان تدمير قوة الكونفدرالية الوطنية للعمل. وبينما كانت القوات الشيوعية تهاجم الكونفدرالية في اراجون، لم تسمح قيادة الكونفدرالية لوحدات جيش الكونفدرالية في منطقة الاراجون بالتدخل. اثر كل هذه الحقبة كان تدمير المعنويات. وقد ساهم ذلك في غزو الجيش الفاشي لاراجون بعدها بشهور قليلة.
اصدقاء دوروتي
اثناء القتال في ايام مايو بين الشرطة التي يسيطر عليها الشيوعيون وخصومهم من الطبقة العاملة في برشلونة، اقترحت مجموعة اصدقاء دوروتي – وهي جماعة من فدرالية الاناركيين الايبيريين – بديلا لسياسة التعاون مع الجبهة الشعبية التي تبنتها الكونفدرالية. وزع الاصدقاء (الاميجوس) منشورات اثناء القتال يدعون الكونفدرالية الى الاطاحة بالحكومة الاقليمية، واستبدالها بمجلس ثوري (junta) في قطالونيا يسيطر عليه اتحادات الكونفدرالية النقابية. دعت منشوراتهم ايضا الى التحويل الاجتماعي الكامل للاقتصاد ونزع سلاح الشرطة.
شكل الاصدقاء منظمتهم في مارس١٩٣٧، بناء على مبادرة من اعضاء ميليشيا الكونفدرالية الذين عارضوا خلق جيشا جمهوريا جديدا بهيكل هرمي للقيادة. اطلق على المجموعة اسم دوروتي بسبب حربه الاخيرة داخل الكونفدرالية في اكتوبر١٩٣٦. هوراشيو برييتو، لرغبته في استخدام شعبية دوروتي، حاول ان يجعله احد وزراء الكونفدرالية في حكومة الجبهة الشعبية. دوروتي رفض. قال دوروتي، “عندما ينزع العمال ملكية البرجوازية، وعندما يهاجم المرء الممتلكات الاجنبية، وعندما يصبح النظام العام في ايدي العمال، وعندما تسيطر الاتحادات النقابية للعمال على الميليشيا، وعندما يكون المرء، في الواقع العملي، في عملية صنع ثورة من اسفل لاعلى”، ببساطة لا يصلح مع ذلك ان تحافظ على استمرار شرعية الدولة الجمهورية .
الاميجوس (الاصدقاء) كانوا سينديكاليين تحررين يحاولون اعادة احياء برنامج مجلس الدفاع الذي دافعت الكونفدرالية عنه في سبتمبر-اكتوبر ١٩٣٦. اثنان من النشطاء القياديين في مجموعة الاصدقاء هما ليبرتو كاليياس وخاييم باليوس. في سبتمبر واكتوبر ١٩٣٦، كلاهما كان عضو هيئة ادارة منظمة التضامن العمالي اثناء حملة مقترح مجلس الدفاع.
في احداث مايو الفعلية في ١٩٣٧، لم يكن للاصدقاء وزنا كافيا في الكونفدرالية لاحداث تغيير في الاتجاه. كان لدى الاصدقاء بعض النفوذ بين وحدات ميليشيا الكونفدرالية وجماعات الدفاع عن الاحياء في الكونفدرالية. ولكن الوزن الاكبر في الكونفدرالية بقطالونيا كان لمقاتلي الوحدات النقابية المحلية، ومندوبي مجالس العمال المحلية ومجالس عنابر المصانع ومحلات العمل في الصناعات التي تحولت الى الملكية التعاونية. لو سادت وجهة نظر الاصدقاء بين المجالس العمالية، لكانوا قد استطاعوا الحصول على سيطرة في المجمع الاقليمي العام وطردوا المنادين بالتعاون مع اللجنة الاقليمية للجبهة الشعبية.
عندما يجد الناس انفسهم يتبعون مسارا معينا من الحركة، فانهم يريدون الشعور بان لديهم تبريرا حتى يقدموا على ذلك. وهذا يعني ان هناك ميل عند الناس لايجاد مبرر لتصرفاتهم. حوالي مايو ١٩٣٧، السينديكاليون الاناركيون القياديون كانوا يتبعون استراتيجية الجبهة الشعبية ويحتلون مناصب في مراتب السلطة الهرمية في الحكومة وفي الجيش لبعض الوقت. كان ذلك محكوما بتغيير نظرتهم العامة للامور. احد الامثلة الطيبة على ذلك هو خوان جارسيا اوليفير. في يوليو واغسطس ١٩٣٦، كان اوليفير بطلا ممثلا للكونفدرالية “في المخاطرة بكل شيئ”، في الاطاحة بالحكومة القطالونية الاقليمية، والاستيلاء على السلطة لتمسك بها الكونفدرالية. حوالي شهر مارس ١٩٣٧، تغيرت وجهة النظر هذه؛ اصبح خوان جارسيا اوليفير مدافعا عن ائتلاف الجبهة الشعية. ظهر هذا التغيير في صورة درامية عن طريق مسلكه اثناء احداث مايو، معارضا اي محاولة لتوسيع الصراع، والاستيلاء على السلطة لصالح النقابات واتحاداتها.
انتقد الاصدقاء في منشورهم الرئيسي فشل الكونفدرالية في الاستيلاء على السلطة السياسية في يوليو ١٩٣٦:
“ما حدث كان يجب ان يحدث. الكونفدرالية… لم تمتلك برنامجا متماسكا. لم يكن لدينا فكرة الى اين نمضي… عندما ننفق وجود منظمة بأكمله في التبشير بالثورة، فعلى تلك المنظمة التزاما ان تتصرف عندما تنهض مجموعة من الظروف المواتية. وفي يوليو قدمت الفرصة نفسها. كان يجب على الكونفدرالية ان تقفز الى مقعد السائق في البلاد… بهذه الطريقة كنا سوف نكسب الحرب وننقذ الثورة. ولكن الكونفدرالية فعلت العكس. تعاونت مع البرجوازية في شئون الدولة، بالضبط في الوقت الذي كانت الدولة تتداعى نحو الانهيار الكامل “.
اضافة الى الدفاع عن فكرة مجالس الدفاع القومية والاقليمية تحت سيطرة الاتحادات النقابية، دافع الاصدقاء ايضا عن تشكيل “بلديات حرة” – هياكل حكم تقوم على اساس مجالس سكان الاحياء او القرى – التي كانت الكونفدرالية تدافع عنها في البرنامج الذي اقره كونجرس سرقسطة في مايو ١٩٣٦. باليوس اطلق على البلديات الحرة اسم “حكومة ثورية صحيحة”. تمسك الاصدقاء ايضا بالبرنامج السينديكالي للتحويل الاجتماعي للاقتصاد من اسفل من خلال ادارة الاتحادات النقابية للمشاريع الاقتصادية.
طبقا لاقوال باليوس، مبادرة العمال في احداث مايو ببرشلونة اظهرت “عزم البروليتاريا الذي لا يهتز نحو وضع قيادة للعمال في المسئولية بالنسبة للكفاح المسلح، والاقتصاد وكامل وجود البلاد. وهو ما يقال عنه (بالنسبة لأي اناركي يخاف من الكلمات) ان البروليتاريا كانت تحارب من اجل الاستيلاء على السلطة التي كانت ستمضي ضروريا عبر تدمير الادوات البرجوازية القديمة وتشييد هيكلا جديدا مكانها يقوم على اساس اللجان التي طفت الى السطح في يوليو (١٩٣٧) “.
من وجهة النظر الاناركية الاجتماعية، القضية الرئيسية حول مجالس الدفاع المقترحة سوف تكون قابليتهم للمساءلة امام المجالس في مستوى القاعدة. اقترح الاصدقاء ان مجالس الدفاع تنتخب بواسطة مجالس الاتحادات النقابية. ولكن ماذا عن صناعة السياسات؟ سوف يكون الحل الممكن هنا جعل مجالس الدفاع تأخذ اوامر عملها من كونجرس الشعب القومي والاقليمي المقترح في برنامج سرقسطة للكونفدرالية المطروح في مايو ١٩٣٦. هذه الهيئات كان مقدرا ان تكون كيانات قصدية، تتشكل من مندوبين ينتخبون بواسطة المجالس القاعدية، بينما تعود القضايا الكبرى للمجالس القاعدية من اجل اتخاذ القرار فيها.
اقترحت الكونفدرالية ايضا حظر تدخل مجالس الدفاع في ادارة الاقتصاد، تلك الادارة التي سوف يسيطر عليها العمال من خلال نظام فدراليات الصناعة التي يديرها العمال ونظام التخطيط الاجتماعي.
وهكذا فيما يبدو لي ان الاقتراح السينديكالي بمجالس الدفاع وميليشيا الشعب الموحدة والتي تسيطر عليها النقابات كان تكتيكا على الاقل يتضمن انسجاما في الرؤية للاناركية الاجتماعية.
في اي نقاط يختلف مقترح مجالس الدفاع عن المفهوم اللينيني “للاستيلاء على السلطة”؟ اعتقد ان الاختلاف هو اوضح ما يكون اذا ما نظرنا الى الجدل الذي ثار داخل الحزب الشيوعي الروسي في ١٩٢١. في ذلك الوقت، نيكولاي بوخارين، والكسندرا كولونتاي وعدد اخر من البلاشفة تقدموا باقتراح نظام هيئات ادارة للاقتصاد الروسي تنتخبها النقابات. ندد لينين بهذا الاقتراح بوصفه “انحرافا سينديكاليا اناركيا” لانه سوف يعطي السلطة الاقتصادية “لجماهير غير حزبية” شكلت ٩٠٪ من عضوية الاتحادات النقابية. بمنطق موقف لينين، كان عليه ان يندد ايضا بمقترح لجان دفاع الكونفدرالية لانه سوف يعطي السلطة الاقتصادية والسياسية والمسلحة “لجماهير غير حزبية” في الاتحادات النقابية.
رغم ذلك، بالنسبة لخوسيه بييراتس، كانت “قوة السينديكاليين الاناركيين” بعد ١٩ يوليو ١٩٣٦ تكمن في نسق انتشار السلطة في المنطقة المعادية للفاشية، مفتتة الى عناقيد لا حصر لعددها من اللجان المحلية والاقليمية .
بييراتس، الذي نشط في الشبيبة التحررية بقطالونيا، عارض انضمام الكونفدرالية الى الحكومة الجبهة الشعبية ولكنه عارض ايضا البديل الداعي الى استبدال الحكومة المركزية الجمهورية بمجلس دفاع قومي مشكل من الكونفدرالية والاتحاد العام للعمال. قال بييراتس ان مقترح مجلس الدفاع كان “مجرد حكومة اخرى باسم اخر”. لكن الا يمكن ان يقال هذا عن اي نظام للحياة السياسية يقدم نسق للحكم العام في اسبانيا ككل؟ كان بييراتس محررا لصحيفة في قطالونيا باسم “اقراطيا”، ومعنى الاسم “لا حكم”. يبدو ان اناركية “لا حكم” بييراتس كانت معارضة لاي نوع من الحياة السياسية الشاملة او لأي هيكل حاكم لاسبانيا كلها.
ولكن ذلك ببساطة كان مستحيلا. كانت هناك ضرورة ملحة لقيادة موحدة في القتال المسلح ضد العسكر الفاشيست. عمال الكونفدرالية والاتحاد العام للعمال كانوا يصرون على الوحدة في النضال. كانت هناك طريقتين فقط حتى يمكن تحقيق هذه الوحدة. اما ان تأخذ الكونفدرالية زمام المبادرة وتستبدل جهاز الدولة القائم في قطالونيا وعلى المستوى القومي، موحدة عمال الكونفدرالية والاتحاد العام للعمال في سلطة للحكم تسيطر عليها الطبقة العاملة، وإلا سوف ينجح الشيوعيون في توحيد السكان خلف راية اعادة بناء جهاز الدولة وجيش بقيادة هرمية. تلك كانت الاشكالية الجوهرية التي واجهت الكونفدرالية بعد ١٩ يوليو ١٩٣٦.
لو اطاحت الكونفدرالية بالحكومة الاقليمية في قطالونيا وخلقت هيكلا لمجالس حاكمة قومية واقليمية من الكونفدرالية والاتحاد العام للعمال ووحدت ميليشيا الشعب، تحت سيطرة النقابات، لكان في استطاعة الكونفدرالية ان تسد الطريق على مقترحات الشيوعيين بجيش هرمي القيادة وارسال الذهب الى روسيا. لم تستطع الكونفدرالية سد الطريق على استراتيجية الحزب الشيوعي الاسباني للظفر بسلطة الدولة. وبفشلها في اتباع هذا المسار، جعلت الكونفدرالية من استراتيجية الجبهة الشعبية امرا لا مناص منه، وهكذا سهلت نمو سلطة الشيوعيين. ومع التسليم بتفوق الجانب الفاشي في امدادات السلاح، فلم يكن خلق نظام سياسي تسيطر عليه الطبقة العاملة في اسبانيا ضمانا للانتصار. ولكنه قد يكون عاملا لتحسين فرص النجاح.
باليوس والاصدقاء، وهذا يوضع في رصيدهم الايجابي، رأوا ان السينديكالية التحررية تفترض مسبقا نظاما للحياة السياسية – هيكلا للحكم الذاتي السياسي – يستبدل الدولة، لو كان للطبقة العاملة ان تنجح في تحرير نفسها.
ظهرت الاناركية التقليدية غامضة وغير منسجمة الرؤى فيما يتعلق بمسألة ما الذي يمكن ان يحل محل الدولة. افتقدوا الوضوح نحو ضرورة وجود نمط جديد للحياة السياسية لاداء الوظائف السياسية الضرورية – وضع القوانين والقواعد الاساسية، وتكييف الاتهامات الخاصة بالسلوك الاجرامي والتقاضي لتسوية النزاعات بين الناس، والدفاع عن الترتيبات الاجتماعية الاساسية ضد الهجوم الداخلي والخارجي عليها والتنفيذ الجبري للقواعد والاحكام الاساسية. لا يمكن التخلص والاستغناء عن الوظائف السياسية للمجتمع بأكثر مما نستطيع التخلص به من الانتاج الاجتماعي. ولكن يمكننا القيام بالوظائف السياسية عن طريق هيكل من الحكم الذاتي الجماهيري، الذي يمد جذوره في ديموقراطية المشاركة لمجالس المجتمعات المحلية والطوائف الاجتماعية واماكن العمل.

توم فيتزل، نظرة للوراء سبعين سنة، موقع زي نت، 3 اغسطس 2006.
ابيل باز، “دوروتي”: الشعب المسلح، ص 181.
البرتو بالكيلز، قطالونيا المعاصرة (الجزء الثاني، 1900 -1936)، ص 17، اقتباسا من رونالد فريزر، دماء اسبانيا: تاريخ شفوي للحرب الاهلية الاسبانية.
كولين ام وينستون، العمال واليمين في اسبانيا، 1900-1936.
بيانات ومعلومات اضراب الايجارات في برشلونة عام 1931 مستقاة من نيك رايدر، “ممارسة العمل المباشر: اضراب الايجارات في برشلونة 1931، ومن كتاب ديفيد جوودواي، واخرون، الاناركية: التاريخ النظرية الممارسة.
انتوني بيفور، الحرب الاهلية الاسبانية، ص 29.
جيروم منتز، اناركيو كاساس فييخاس، ص 268.
اقتباس من كتاب رونالد فريزر، دماء اسبانيا: التاريخ الشفوي للحرب الاهلية الاسبانية، ص 544.
فيكتور البا وستيفان شوارتز، الماركسية الاسبانية في مقابل الشيوعية السوفيتية: تاريخ حزب العمال لوحدة الماركسيين.
دييجو عباد دي سانتيلان، التنظيم الاقتصادي للثورة (مترجم الى الانجليزية باسم بعد الثورة).
فكرة تخطيط المشاركة طورها لاول مرة في سبعينات القرن العشرين عدد من الاقتصاديين الراديكاليين. النسخة الاكثر شهرة هي نموذج “اقتصاديات المشاركة” الذي طوره مايكل البرت وروبين هاهنل. في الرؤى الاشتراكية المبكرة، تجد كتاب “التخطيط التشاركي” من تأليف ستيف روسكام شالوم، واخرين.
تجد مقتطفات من وثيقة كونجرس سرقسطة مترجمة الى الانجليزية في كتاب روبرت الكسندر، الاناركيون في الحرب الاهلية الاسبانية، المجلد الاول، ص ص 48 الى 67.
بيتر كروبتكين، “العلم الحديث والاناركية”، من منشورات كروبتكين الثورية: مجموعة كتابات بيتر كروبتكين، روجر ان بالدوين، واخرين، ص ص 183-184.
قالها سيزار ام لورنزو بالاسبانية، “Los anarquistas y el poder”، ص 92.
ديونيسيوس ريدريخو، من لقاء معه في اوائل السبعينات، فريزر، نفس المرجع، ص 320.
فريزر، نفس المصدر، ص 71.
فريزر، نفس المصدر، ص 110.
ابل باز، نفس المرجع، ص 213.
طبقا لقول ريكاردو سانتز، مقابلة معه في اوائل السبعينات، نقلا عن فريزر، نفس المرجع، ص 110.
هذا الجدل موصوف في كتاب فريزر، نفس المصدر، ص 112.
هذه الرواية للنقاش الذي جرى منقول عن خوان جارسيا اوليفير، “خطوات خطأ: اخطاء في الثورة الاسبانية” لمايك باركر. (هذا المنشور هو ترجمة انجليزية لمخطوطات من مذكرات جارسيا اوليفير، اصداء الماضي).
حول تشكيل لجنة الميليشيا المناهضة للفاشية، سيزار ام لورينزو، نفس المرجع، ص 86.
خوسيه يبيراتس، الاناركيون في الثورة الاسبانية، ص 161. (ترجمة لكتاب الاناركيون في الازمة الاسبانية).
سيزار ام لورينزو، نفس المرجع، ص 98.
سيزار ام لورينزو، نفس المرجع، ص 180.
سيزار ام لورينزو، نفس المرجع، ص ص 180-181.
خوسيه بيراتس، نفس المرجع، ص 163.
رونالد رادوش، ماري ارهابيك، وجريجوري سيفوستيانوف، واخرين، اسبانيا تعرضت للخيانة: الاتحاد السوفيتي في الحرب الاهلية الاسبانية، ص 48.
لقاء مع ادواردو دي جوزمان، اوائل التسعينات، فريزر، نفس المرجع، ص 186 وص ص 335-336.
خوسيه بيراتس، نفس المرجع، ص ص 185-186.
اوجستين جويامون، جماعة اصدقاء دوروتي: 1937-1939، ص 24.
برنت بولوتن، التنكر الاعظم: المؤامرة الشيوعية في الحرب الاهلية الاسبانية، ص ص 43-44.
مقابلة مع خوان فيرر في اوائل السبعينات، فريزر، نفس المرجع، ص 220.
جاستون ليفال، التعاونيات في الثورة الاسبانية، ص ص 253-264.
جاستون ليفال، نفس المصدر، ص ص 240-245.
اقتباس في كتاب برنيت بولوتن، نفس المصدر، ص 50.
اقتباس في كتاب فريزر، نفس المصدر، ص 221.
اوجستين سوتشي، مقتطفات مترجمة في كتاب سام دولجوف، واخرين، التعاونيات الاناركية: ادارة العمال الذاتية في الثورة الاسبانية 1936-1939، ص ص
فريزر، نفس المرجع، ص 233.
جاستون ليفال، نفس المصدر، ص ص 264-278.
جاستون ليفال، نفس المصدر، ص ص 245-253.
فريزر، نفس المرجع، ص 212.
اقتباس في كتاب روبرت الكسندر، الاناركيون في الحرب الاهلية الاسبانية، المجلد الاول، ص 487.
اقتباس في كتاب فريزر، نفس المرجع، ص 239.
دييجو عباد دي سانتيلان، تصريحات في ديسمبر 1936، ملحقة بطبعة 1937 من كتاب بعد الثورة، ص 121.
اقتباس في كتاب فريزر، المرجع السابق، ص 218.
جاستون ليفال، نفس المصدر، ص ص 289-295.
هذه المعلومات حول منظمة النسوة الاحرار مستقاة من كتاب مارتا ايه اكيلسبرج، نساء اسبانيا الاحرار: الاناركية والكفاح من اجل تحرير المرأة.
مايكل البرت وروبرت هاهنل، “تذكرة للركوب: مواقع اكثر على الخريطة الطبقية”، فيما بين العمل والرأسمال، بات ووكر واخرين.
رونالد رادوش، ماري ايابيك، وجريجوري سيفوستيانوف، واخرون، نفس المصدر، ص 11.
سقراط جوميز، اقتباس في فريزر، نفس المصدر، ص 333.
فريزر، اقتباس من نفس المرجع، ص 215.
انتوني بيفور نفس المرجع ص 124.
انتوني بيفور نفس المرجع، ص 174.
جيرالد هاوسون، اسلحة لاسبانيا: القصة التي لم يرويها احد عن الحرب الاهلية الاسبانية، ص 151.
تقرير كتبه اندريه مارتي للسلطات السوفيتية، في مارس 1937، ترجمه رونالد رادوش وماري ار ايابيك، وجريجوري سيفوستيانوف، نفس المرجع، ص 145.
اقتباس في فريزر، نفس المرجع، ص ص 377-378.
خوان ادرادي، نقلا عن فريزر، نفس المرجع، ص 382.
بيل هيريك، القفز فوق الخطوط.
جورج اورويل، تحية تبجيل لقطالونيا، ص 69.
فريزر، المرجع السابق، ص 271.
فريزر، اقتباس، المرجع السابق، ص 364.
جاستون ليفال، المرجع السابق، ص ص 136-143.
جاستون ليفال، المرجع السابق، ص 123.
رئيس لجنة القرية في الكونفدرالية، اقتباس من فريزر، المرجع السابق، ص 362.
ساتورنينو كارود، نقلا عن فريزر، المرجع السابق، ص 363.
اقتباس لاقوال دوروتي في كتاب الحرب الاهلية الاسبانية: الاناركية في النضال، الفصل الرابع.
فرقة اصدقاء دوروتي، نحو ثورة طازجة (ترجمة لكتاب Hacía una revolución nueva).
حاييم باليوس، نقلا عن اوغسطين جوييامون، المرجع السابق ص 92.
خوسيه بييراتس، المرجع السابق، ص 183.

http://wp.me/pu7aS-wA

الاناركية الثورة الروسية في اوكرانيا١٩١٧ – ١٩٢١

الاناركية
مجتمع بلا رؤساء
او المدرسة الثورية التي لم يعرفها الشرق
إعداد وعرض: احمد زكي

موجز تاريخ حياة ماخنو
نستور ماخنو ثوري اوكراني، ولد في عائلة فقيرة ببلدة جولاي بولايي، باوكرانيا، وهو اصغر اخواته الخمس. سجلت عائلة ماخنو ابنها من مواليد عام ١٨٨٩ في محاولة لتأجيل تجنيده في الجيش القيصري، ولكنه ولد في ٢٦ اكتوبر ١٨٨٨ ومات في ٢٥ يوليو ١٩٣٤. درس ماخنو في مدرسة دينية بعض الاشياء البسيطة بين الثامنة والثانية عشر من العمر. بعد الثورة الروسية الاولى في ١٩٠٥، انضم ماخنو سريعا لجماعة من الاناركيين وانخرط في عمليات سطو مسلح، ونهب اموال وقتل التجار الاثرياء ورجال الشرطة. في ١٩١٠ صدر ضده حكم بالاعدام شنقا لكن بدلا من ذلك ارسلوه الى سجن بوتيرسكايا بموسكو حيث امضى هناك ستة اعوام. سمحت له فترة السجن ترقية تعليمه ومعارفه، من خلال رفاق الزنزانة (من اهم من ساعده على ذلك كان بيوتر اركينوف). بعد ثورة فبراير ١٩١٧، اطلق سراح ماخنو، لينضم الى الحركة الثورية في اوكرانيا وساعد في تنظيم عملية مصادرة اموال وممتلكات كبار ملاك الاراضي والرأسماليين هناك.
في اوائل عام ١٩١٨، وقعت الحكومة البلشفية الجديدة في روسيا معاهدة برست ليتوفسك للسلام مع قوى المحور، ولكنها بموجب هذه المعاهدة تنازلت عن مساحات واسعة من المناطق التي كانت تحت حكمها ومن ضمنها اوكرانيا. لم يرغب سكان اوكرانيا في الوقوع تحت حكم قوات المحور، ولهذا نشب التمرد هناك. تشكلت وحدات من الانصار وشنت حرب عصابات ضد القوات الالمانية والنمساوية، وسرعان ما اتخذ هذا التمرد نبرة سياسية اناركية. كان نستور ماخنو واحد من المنظمين الرئيسيين لجماعات الانصار تلك، والتي توحدت في جيش الانتفاضة الثوري لكل اوكرانيا، وايضا اطلق عليه اسم الجيش الاسود (لان مقاتليه كانوا يحاربون تحت علم الاناركية الاسود)، واطلق عليهم ايضا “الماخنويين” او “ماخنوفشيشينا”. دخل الجيش الثوري لانتفاضة اوكرانيا عدد من المعارك ضد البيض (الثورة المضادة) ومرتكبي مذابح معاداة السامية. في المناطق التي طرد منها جيش اوكرانيا الثوري الجيوش المعارضة، سعى القرويون (والعمال) الى الغاء الرأسمالية والدولة من خلال تنظيم انفسهم في مجالس قروية، وكوميونات ومجالس حرة. تمت مصادرة المصانع والارض الزراعية ووضعت تحت سيطرة اسمية للعمال والفلاحين، ولكن من شغل منصب العمد والعديد من المناصب الرسمية اتوا مباشرة من بين صفوف انصار ماخنو العسكريين، بدلا من الشغيلة المحليين. وّهو محل جدل حتى اليوم اذا ما كانت حكومة ماخنو اكثر ديموقراطية في تلك الفترة ام لا.
المنطقة المحررة (اوكرانيا الاناركية)
وجد الهيتمان ، بافلو سكوروباديسكي، رئيس الحكومة الالعوبة في الدولة الاوكرانية، صعوبات جمة في محاولاته للسيطرة على اوكرانيا بينما يواجه جيش ماخنو التحرري. وهكذا، تم استدعاؤه الى المانيا بعد انهيار الجبهة الغربية الالمانية. في مارس ١٩١٨، نجح الجيش الثوري الاوكراني في هزيمة القوات الالمانية والنمساوية والقوميين الاوكرانيين بزعامة سايمون بيتلورا، والعديد من قطاعات الجيش الابيض.
عند هذه النقطة، تحول الدور العسكري لماخنو الذي اضطلع به في سنوات عمره الاولى الى دور تنظيمي. اصدر المؤتمر الاول لكونفدرالية الجماعات الاناركية، المسماة الناباط (“الجرس”)، خمس نقاط رئيسية: الشك في كل الاحزاب السياسية، ورفض كل الديكتاتوريات (وبشكل رئيسي تلك التي تفرض على الشعب من اعلى)؛ ونفي اي مفهوم للدولة، ورفض اي “فترة انتقالية” او “استبداد البروليتاريا”، والادارة الذاتية لكل العمال من خلال مجالس العمال الحرة (السوفيتات). وفي الوقت الذي دافع فيه البلاشفة عن منطق ان مفهومهم “ديكتاتورية البروليتاريا” يعني بالدقة “حكم مجالس العمال”، عارض برنامج ماخنو هذا التدبير البلشفي “الانتقالي” الذي يخفي تحته “ديكتاتورية الحزب”.
زعم انصار ماخنو، من نوفمبر ١٩١٨ حتى يونيو ١٩١٩، انهم يخلقون مجتمعا اناركيا في اوكرانيا يمارس العمال والفلاحون فيه الحكم بطريقة ديموقراطية.
الثورة المضادة: الضربات المضادة البيضاء والحمراء
قاوم الماخنويون محاولات اجتياح الجيش الابيض الاوكراني للبلاد من الجنوب والشرق لمدة ثلاث اشهر قبل ان تنضم الى مجهودهم الحربي وحدات الجيش البلشفي. ولكن حتى بعد انضمام الجيش البلشفي للحرب، حافظ الاناركيون على استمرار هياكلهم السياسية الرئيسية مستقلة ورفضوا القبول بالقوميساريين السياسيين ا لذين عينهم البلاشفة. قبل الجيش الاحمر مؤقتا هذه الشروط، ولكن سرعان ما توقف البلاشفة عن امداد الماخنويين بالامدادات الرئيسية، مثل الحبوب والفحم. تم حظر صحيفة الناباط (كونفدرالية الجماعات الاناركية الاوكرانية) واعلن المؤتمر الثالث خصوصا مؤتمر بافل ديبينكو) تجريم الماخنوية والثورة المضادة، ورد مؤتمر الاناركيين على ذلك في تساؤل علني، “هل يمكن ان يوجد قانون يصنعه قلة من الاشخاص يسمون انفسهم ثوريين، تسمح لهؤلاء ان يعلنوا تجريم شعب بأكمله اكثر ثورية منهم؟ ” التبرير الذي اعطته الصحافة البولشفية لهذا الصدام مع الاناركيين هو ان “دولة ماخنو الاناركية” هي نظام حكم امير حرب مناصبها المدنية يعين هو والقادة العسكريون الاخرون اشخاصها (ولا ينتخبون)، وأن ماخنو نفسه رفض تزويد عمال السكك الحديدية وعمال التلغراف السوفيت بالطعام، وان “القسم الخاص” للهيئة الاناركية يقوم بعمليات اعدام وتعذيب سرية، وان قوات ماخنو قد اغارت على قوافل الجيش الاحمر التي تحمل الامداد والتموين، وسرقت سيارة مدرعة من بريانسك كانت في انتظار اصلاح عطب بها يقوم به الاناركيون، وان الناباط مسئول عن اعمال دموية ارهابية في المدن الروسية.
ارسل لينين سريعا ليف كامينييف الى اوكرانيا، حيث عقد هناك لقاءا وديا مع ماخنو. بعد مغادرة كامنييف لاوكرانيا، اوقع ماخنو برسالتين ارسلت بهما قيادة البلاشفة لجيشهم في اوكرانيا، الاولى تصدر اوامر للجيش الاحمر بالهجوم على قوات ماخنو، والثانية تأمر باغتياله. ارسل تروتسكي، بعد المؤتمر الرابع للكونفدرالية الاناركية فورا، باوامر صريحة للقبض على كل عضو من اعضاء المؤتمر، ثم اعلن ما شاع بعدها انه “من الافضل التخلي عن اوكرانيا باكملها وتسليمها لقوات دينيكن هناك (الجيش الابيض) من السماح بتوسع سيطرة اتباع ماخنو” . واستمر الجدل حول ان تروتسكي كان يفضل التعامل مع قوات الحرس الابيض في جبهة اوكرانيا عن التعامل مع جيش فلاحين محايد، حيث كان الجيش الاحمر وقتها في مواجهة مع البيض والقوات الاجنبية حينئذ في جميع الاتجاهات. رد ماخنو على الهجوم الاحمر هذا كان هو الهرب مع اقرب مساعديه. تعرضت قوات تروتسكي بعدها الى ضربة قوية من قوات دينيكن ارغمته على الانسحاب من اوكرانيا. اعاد ماخنو تشكيل قواته واجبر قوات دينيكين المنهكة على التراجع، وحافظ على تماسك جيش الانتفاضة الثوري لاوكرانيا.
جماعة ماخنو
ازدادت قوة وشعبية ماخنو كثيرا، وتحولت الحركة الماخنوية مرة اخرى الى ادارة عملية التنظيم الذاتي للبلاد، واتبعت المبادئ الاناركية بتحطيم السجون ومراكز الشرطة واطلقت حرية التعبير والضمير وانشاء الجمعيات وحرية الصحافة. انخفضت قوات ماخنو للنصف نتيجة لتفشي وباء التيفوس في صفوفها، حينئذ بدأ تروتسكي يمارس ضرباته العدائية ضدهم مرة اخرى.
عقدت هدنة جديدة بين قوات ماخنو والحرس الاحمر في اكتوبر ١٩٢٠ عندما اقتربت القوتان من المقاطعات التي يسيطر عليها جيش رانجل الابيض. كانت القوات الماخنوية لا تزال ترحب بمساعدة الجيش الاحمر، ولكن عندما تم القضاء على البيض تماما وطردهم من منطقة القرم، انقلب الشيوعيون على ماخنو مرة اخرى. اوقع ماخنو بثلاث رسائل سرية من لينين الى كريستيان راكوفسكي، رئيس حكومة البلاشفة في اوكرانيا. كانت اوامر لينين هي القبض على كل اعضاء منظمة ماخنو ومحاكمتهم كمجرمين جنائيين معتادين.
المنفى
في اغسطس ١٩٢١، اضطر ماخنو وقد استنفذ البلاشفة قواه الى ان يخرج في النهاية من اوكرانيا مطاردا، حيث فر اولا الى رومانيا، ثم الى بولندا واخيرا وصل الى باريس. في ١٩٢٦، وقد انضم الى منفيين روس اخرين في باريس كجزء من جماعة “دييلو ترودا” (قضية العمال)، شارك ماخنو في كتابة ونشر البرنامج التنظيمي للشيوعيين التحررين، الذي طرح افكارا في كيفية تنظيم الاناركيين لانفسهم على اسس مستمدة من تجاربهم في اوكرانيا الثورية وهزيمتهم على ايدي البلاشفة. رفض معظم الاناركيون هذه الوثيقة بشكل اولي عند صدورها، ولكنها اليوم تتمتع بقبول واسع. لا تزال هذه الوثيقة محل جدل ونقاش حتى اليوم، وتستمر في اثارة الهام بعض الاناركيين بسبب وضوح افكارها وحيوية الهياكل التنظيمية التي تقترحها، في نفس الوقت الذي تستثير فيه من الناحية الاخرى نقد الاخرين ، الذين رأوا فيها تزمتا شديدا وانها تبني تراتب هرمي قاسي.
في نهاية حياته، عاش ماخنو في باريس، وعمل كنجار وفني ديكورات في اوبرا باريس وستديوهات السينما هناك.
مات ماخنو عام ١٩٣٤. بعد وفاته بثلاث ايام اقيم حفل تأبين له، بحضور ٥٠٠ شخص في مدافن بير لا شيز الشهيرة.

زيارتي للكرملين بقلم نستور ماخنو
مقدمة المترجم
زار الاناركي الاوكراني الفلاح نستور ماخنو موسكو في يونيو ١٩١٨ وقام بعقد لقاءات مكثفة مع الزعيمين البلشفيين سفردلوف ولينين. بعد ذلك بسنوات عدة، كتب ماخنو، في منفاه بفرنسا، مذكراته عن السنتين الصاخبتين ١٩١٧ ١٩١٨. “زيارتي للكرملين” هي ترجمة لفصلين يعرضان لقاءات ماخنو مع العمالقة البلاشفة. هناك مقتطفات عدة عن هذه اللقاءات في اعمال شتى بالانجليزية ولكن الرواية الكاملة لهذه اللقاءات تظهر هنا لاول مرة (١٩٧٩) .
موسكو في يونيو 1918
تمتع نظام حكم البلاشفة في يونيو 1918 بفترة استرخاء قصيرة بعد التقلصات العنيفة للثورة والحرب الاهلية. لم يكن البلاشفة في اوضاع خطر عسكري مباشر، رغم حصار القوات المعادية لهم من كل الجوانب. عنق الزجاجة اللطيف هذا، الذي استمر من معاهدة بريست ليتوفسك (مارس 1918) الى انهيار قوات المحور في اخر السنة، سمح للبولشفيك بتماسك وتمتين قوتهم السياسية والعسكرية.
من وجهة نظر الاناركيين الروس، مثلت معاهدة بريست ليتوفسك مصدرا للثورة. دفع البلاشفة، باتفاقهم مع قوات المحور، ثمنا فادحا تمثل في تنازل عن اراض وعن ثروات طبيعية. الا انه، بل والاكثر اهمية، فضل البلاشفة صنع حلف مع الامبرياليين على ان يحاولوا نشر الثورة من خلال المبادرات الشعبية، وخصوصا، حروب الانصار .
بعد صلح بريست ليتوفسك (مع الالمان) بوقت قصير انقلب البلاشفة ضد حلفائهم اللدودين، الاشتراكيون الثوريون اليساريون والاناركيين. جهاز التشيكا، الذي كان السبب الظاهري وراء انشاءه هو قمع قوى الثورة المضادة، اطلقوه على منتقدي البلاشفة من ارضية يسارية. الذريعة المباشرة لقمع اناركيي موسكو نشأت عندما اشتكى ممثل الحكومة الامريكية من سرقة سيارته واتهم الاناركيين. (طبقا لممثل الحكومة البريطانية، بروس لوكهارت، لقد كانت سيارة تروتسكي هي السيارة التي سرقت). في ليلة الحادي عشر من ابريل، اغارت التشيكا على 26 مركزا اناركيا. اكبر تلك المراكز، بيت الاناركية في شارع مالايا ديميتروفكا (مقر الغرفة التجارية سابقا) حيث كان مسرحا لاشرس المعارك. قتل في المعركة عشرات من الاناركيين ورجال التشيكا وقبض على المئات اثناء الاهوال التي دامت طوال الليل . تكررت هذه المعركة التي لا مثيل لها في عدة مدن روسية اخرى.
القمع الرسمي للاناركيين لم يمر دون مضاعفات داخل صفوف الحزب الشيوعي نفسه . لوقت بعد صلح برست ليتوفسك، مجموعة داخل المستوى القيادي الاعلى للبلاشفة وبالاشتراك مع بوخارين تدبروا امر صنع مؤامرة انقلابية ضد لينين، من اجل ايقاف الانزلاق السريع للثورة نحو اليمين. ولكن سرعان ما ارتد هؤلاء المنشقون الى موقف الطاعة والتأييد غير النقدي للنظام .
اوكرانيا في ١٩١٨
في الوقت الذي تبددت فيه الثورة نفسها توا في روسيا، لم تكن الثورة في اوكرانيا قد بدأت بعد. كانت اوكرانيا بشكل غالب منطقة فلاحية: في ١٩١٨ فقط ١% من السكان كان من الممكن تصنيفهم عمال صناعيين وتركزوا في قليل من المراكز في شرق وجنوب البلاد. استجاب الفلاحون في اوكرانيا ببطء للاطاحة بسلطة القيصر والفراغ السياسي الناجم عن ذلك. ولكن الثورة اكتسبت تدريجيا حيوية وقوة دفع، حتى اصبحت حركة شاملة بمقاييس يقل نظيرها في تاريخ الهبات الشعبية .
بعد ثورة فبراير 1917، تولت الحكم في كييف حكومة قومية ضعيفة، الرادا المركزية . هذه الحكومة فشلت في الحصول على اعتراف بشرعيتها سواء من الحكومة المؤقتة في بتروجراد او النظام البلشفي الذي خلفها. في اوائل عام 1918 قام الجيش البلشفي تحت قيادة الجنرال انطونوف بغزو اوكرانيا. لم تستطع الرادا المركزية حشد التأييد الشعبي لصد القوات الغازية، التي تكونت تقريبا من جنود كلهم غير اوكرانيين. بعد ان احتل الغزاة كييف في اوائل فبراير، وقعت الرادا المركزية معاهدة سلام مع قوى المحور وسعت الى الحصول على عون عسكري في مواجهة البلاشفة. عندئذ دخلت القوات الالمانية والنمساوية اوكرانيا، وطهرتها من القوات الروسية وجماعات الانصار الاخرى على اختلاف توجهاتها بنهاية ابريل. قوات المحور، فور احتلالهم اوكرانيا، شرعت في نهب البلاد من كل مؤنها الغذائية والمواد الخام الاخرى التي يستطيعون الوصول اليها. قوات الاحتلال هذه، وقد اكتشفت ان الرادا المركزية هي غصة في الحلق اكثر منها عونا في هذا المشروع، دبرت انقلابا بواسطة بافل سكوروبادسكي احد ملاك الاراضي الارستقراطيين في 29 ابريل. اعلن سكوروبادسكي نفسه “هيتمان” لكل اوكرانيا. جسد استيلاء الهيتمانات على السلطة عودة الى الرجعية الاقطاعية التامة بازياءها الفضفاضة الفخمة واحتفالاتها التاريخية الدينية. اضطرت العناصر الثورية في الريف الى العمل تحت الارض او في المنفى.
ماخنو
كان نستور ماخنو في السابعة والعشرين من العمر عندما زار العاصمة الروسية في 1918. امضى ماخنو ثلث حياته خلف القضبان، ومنهم سبعة سنوات في سجن بوتيركي بموسكو. ماخنو، وقد قبض عليه عام 1908 بسبب نشاطاته الاناركية في منطقة قريته التي ولد فيها جويلاي-بولاي، صدر ضده حكم بالاشغال الشاقة مدى الحياة . عاد ماخنو، وقد حررته ثورة فبراير، الى قريته. كان ماخنو هو الباقي الوحيد من المجموعة الثورية التي سحقها القيصر منذ عقد مضى . القى ماخنو بنفسه فورا في تنظيم النقابات، والكميونات، والسوفيتات – وكان من النادر ان تجد امتداد لسلطة الرادا المركزية في المناطق الاوكرانية التي نشط فيها ماخنو؛ وقد شرعت جماعات الفلاحين المحلية في نزع ملكية اراضي النبلاء بمبادراتهم الخاصة. عندما قام البلاشفة بغزو اوكرانيا للمرة الاولى في يناير 1918، ساعدهم ماخنو وجماعته من الانصار الاناركيين بطردهم لقوات الرادا المركزية الضعيفة من الضفة اليسرى لنهر الاكريلن (شرق نهر الدنيبر). بعدها بثلاثة اشهر، عندما اضطر البلاشفة للتراجع والخروج من الاطراف الشرقية لاوكرنيا نتيجة ضغط قوات التحالف النمساوي الالماني وقوات الرادا المركزية، تراجع معهم انصار ماخنو والعصابات الاناركية الاخرى. بنهاية ابريل عقد مؤتمر للاناركيين الاوكرانيين في البلدة الساحلية تاجانروج، التي كانت تحت السيطرة البلشفية بشكل مؤقت. قرر المؤتمر سياسات تنظيم حركة سرية في القرى الاوكرانية. فوض المؤتمر ماخنو للقيام برحلة الى موسكو لمدة شهرين للاتصال بالمجموعات الاناركية الاخرى ولتحديد اتجاهات البلاشفة نحو الانشطة الاناركية في اوكرانيا . شق ماخنو طريقه ببطء عبر مراعي روسيا السوفيتية الفتية، وقد فلت من الهلاك باعجوبة عديد من المرات. عقد ماخنو، وقد وصل الى موسكو مع بداية يونيو، لقاءات مع اناركيين قياديين اضافة الى ممثلين لفصائل سياسية اخرى. كان اليسار المعادي للبلاشفة يمثل وجودا هشا في الحياة السياسية هناك، لا تزال السلطات تتحمله، ولكنه محروم من حرية الحركة. ماخنو، وقد جاء من منطقة لا يزال النشاط الثوري فيها صاعدا وإن لم يسقط النظام الاجتماعي القديم فيها بعد، نفد صبره من الركود والانهزامية التي صادفها في موسكو. في مذكراته كتب ماخنو يسب “الثورة الورقية” للمثقفين الروس في مقابل الحركة الاناركية الناهضة التي كان يتوقع صعودها في اوكرانيا .
لينين وسفردلوف
كان غرض ماخنو الظاهري من زيارة الكرملين هو تقديم طلب للحصول على بطاقة لغرفة خالية. ولكن من المؤكد انه كان يأمل في التعرف السليم من القادة البلاشفة على اتجاهاتهم نحو الثورة الفلاحية في اوكرانيا. نجح ماخنو في ذلك نجاحا باهرا. في يونيو 1918 كانت الحكومة البلشفية لا تزال تتمتع بمرونة كافية ولا تتمسك بالرسميات لدرجة ان “فلاح نصف متعلم” (كما كان ماخنو يصف نفسه) يمكنه التجول عبر اروقة السلطة ويتقابل وجها لوجه مع اشد زعمائها سطوة. بعد لقاء عابر مع بوخارين، تكلم ماخنو بعد ذلك مع سكرتير سفردلوف، ثم مع سفردلوف نفسه، الذي قدمه فيما بعد الى لينين. كان القادة البلاشفة بشكل عام من الشباب، ولم يكن عمرهم اكبر كثيرا من سن ماخنو، رغم تاريخهم الطويل في تجارب الحركة الثورية. كان عمر بوخارين 30، وسفردلوف 33 حين قابلهما ماخنو. كان عمر لينين وقتها 48 سنة، وكان مساعدوه يشيروا اليه منذ زمن طويل باسم “الرجل العجوز”. عند لحظة معينة في 1918 صرح لينين بملاحظة الى تروتسكي، “هل لو قتلنا على ايدي الجنرالات البيض، انت وانا، هل تعتقد ان بوخارين وسفردلوف سوف يستطيعان ادارة الامور؟ ” وهذا يشير الى ان ماخنو استطاع مقابلة ثلاث من الاربع قيادات بلشفية الجبابرة (بدا ان تروتسكي كان في موسكو حينذاك ولكنه كان مشغولا تماما في تنظيم الجيش الاحمر).
قليلا ما يتذكر الناس ياكوف سفردلوف هذه الايام بسبب موته المبكر في مارس 1919، ضحية لوباء الانفلونزا الذي اجتاح العالم. ولكن في 1918، بوصفه رئيسا للجنة المركزية التنفيذية لسوفيتات عموم روسيا فقد كان سفردلوف من الناحية الفنية رئيسا للدولة السوفيتية. وما هو اكثر مغزى من الناحية العملية، كان سفردلوف ايضا السكرتير العام بحكم الامر الواقع للحزب الشيوعي الروسي، وهوالمنصب الذي اصبح اكثر شهرة حين شغله فعليا جوزيف ستالين، خلفا لسفردلوف.
المؤهلات التي حملها سفردلوف لهذه المناصب المرموقة هي السنوات العديدة التي قضاها في خدمة العمل السري البلشفي وخضوعه المطلق للقائد لينين. سفردلوف، على غير منوال زملائه في سدة السلطة العليا بالحزب، لم يمتلك شهرة كمنظر. فعليا، وطبقا لمخطوط سيرة ذاتية كتبه زعيم بلشفي اخر، سفردلوف “لم يمتلك افكار… لم يخرج منه ابدا شيئا اصيلا”. ولكن سفردلوف كان مرموقا بالاحرى لمواهبه التنظيمية ومعرفته الموسوعية بالحزب . نتيجة لقدراته البارعة كسكرتير للحزب، كانوا يستدعون سفردلوف دائما لاعطاء احكام سريعة عن شخصية من سيتولى منصبا معينا من اعضاء الحزب. من المفترض انها موهبته في التقاط قدر الناس هي السبب الذي جعله يمنح هذا الوقت الطويل لمحرض فلاح غامض ويضعه امام لينين.
المقابلات
حيث ان هذه اللقاءات كتب عنها ماخنو بعد سنوات عديدة من وقوعها، من الضروري ان نتدبر امر دقة روايته. الشاهد ان الزعماء البلاشفة تركوا انطباعا قويا على ماخنو ومن الضروري انه ناقش مقابلاته تلك مع هؤلاء الرجال بدقة شديدة مع رفاقه في موسكو. لذا بينما لا نستطيع ان نأخذ الرواية على انها محضر اجتماع، يبدو من المعقول ان نشير الى انها تمثل صورة قريبة لما حصل فعليا.
ولكن يجب ان نتذكر ان ماخنو في كتابته لمذكراته، وهو مجهود بذله بعناد في ظل ظروف شديدة الصعوبة، لم يكن ماخنو مهتما اوليا بتلبية مطالب المؤرخين المحترفين. بل الاحرى انه كان يكتب الى الفلاحين والعمال الاوكرانيين الذين حاول ان يحمل راية طموحاتهم وآمالهم، شارحا تفسيرا للثورة الضائعة. وعلى اتصال بذلك، صدق اصطدامات ماخنو مع البلاشفة على السيادة الاوكرانية هي امر مفتوح للتساؤل. انه يصور سفردلوف ولينين بوصفهم شوفينيين روس عظام ويصور نفسه كمؤيد لشكل ما من الاستقلال الذاتي الاوكراني . هناك قليل من الشك في ان سفردلوف ولينين كانا يعارضان الاستقلال الذاتي الاوكراني في 1918، ولكن بالنسبة لماخنو في ذلك الوقت “الاوكرانية” كانت شيئا ما سياسيا اكثر منه مخططا قوميا، يحتكره لانفسهم اعداءه من انصار الرادا المركزية. لذا تشديد منتقديه على هويته القومية ربما كان اسقاطا جاء في مرحلة تالية. اراء ماخنو في المسألة القومية تعرضت بشكل جلي لبعض التطورات في اثناء منفاه، رغم ان ايمانه بمناهضة فكرة الدولة يبرئه من كونه قوميا.

رواية ماخنو: اللقاءات الاولى
وصلت الى بوابات الكرملين عازما على رؤية لينين، واذا كان ممكنا، سفردلوف، وان اجري محادثات معهما. كان هناك جنديا يجلس خلف باب صغير. سلمته تصريحا باسمي صادر عن سوفيت موسكو. بعد ان قرأه بعناية، اصدر لي اذنا بالمرور، وارفقه بالتصريح، ومررت عبر الباب الى داخل الكرملين. في الداخل كان احد جنود حملة البنادق اللاتفيين يروح جيئة وذهابا . درت حوله وبدأت الدخول الى الميدان الرئيسي عندما وجدت نفسي وجها لوجه مع حارس اخر. سألته ان يدلني على المبنى الذي من المفترض ان اتوجه اليه. بداية من هذه اللحظة، اصبحت حرا في ان اتجول، وفي ان اقف للفرجة على المدافع والدانات المتنوعة التي يعود زمانها الى ايام بطرس الاكبر، وان اتوقف امام جرس القيصر العظيم والعجائب الاخرى المشهورة بالكرملين، او حرا في ان اذهب مباشرة الى داخل احد القصور.
دلفت يسارا وابتلعتني احد تلك القصور (نسيت اسمه) وقفزت على درجات السلم حتى الطابق الثالث. ثم سرت بخطوات واسعة بامتداد الردهة الطويلة الخالية من الناس حيث كانت اللافتات المعلقة على الابواب تقرأ “اللجنة المركزية للحزب” او “المكتبة”. وبما انني لا احتاج الى اي منهما، واصلت طريقي دون ان ادري هل يوجد احد خلف هذه الابواب ام لا.
بعض هذه اللوحات لم تحمل اسماءا عليها، لذا رجعت بخطواتي الى الوراء، وتوقفت امام احداها التي تحمل لافتة “اللجنة المركزية للحزب”، وخبطت على الباب. “ادخل”، اجابني احد الاصوات من الداخل. داخل الغرفة كان يجلس ثلاثة من الناس معا غارقين في صمت تام. بدا انني اميز من بينهم زاجورسكي الذي كنت قد رأيته قبلها بيومين او ثلاثة في احد نوادي الحزب البلشفي. سألت هؤلاء الناس اين استطيع ان اجد مكتب السكرتير التنفيذي للجنة المركزية.
احد الثلاثة (بوخارين إن لم اكن مخطئا)، نهض وامسك بحقيبته تحت ابطه. قال الرجل، مخاطبا زملاءه بصوت عال للدرجة التي تجعلني اسمعه، “انا راحل، ولسوف ارشد هذا الرفيق إلى مكتب اللجنة المركزية التنفيذية”، مشيرا لي بطرف ذقنه وقد استدار نحو الباب. شكرت الحاضرين وتركتهم مع الرجل الذي اعتقدت انه بوخارين.
الممر الى القاعة كان صامتا صمت القبور.
سألني مرشدي من اين انت.
اجبته، “من اوكرانيا”. عندها سألني عديد من الاسئلة عن الارهاب المستشري في اوكرانيا واراد ان يعرف كيف استطعت ان اصل الى موسكو.
عند وصولنا الى السلم، توقفنا لنستمر في الحديث. اخيرا، اشار الرجل الذي جعلته الصدفة دليلي داخل الكرملين الى الباب الذي على يمين مدخل الممر حيث قال لي انني سوف اجد هناك من يجيبني على ما اريد.
وبعد ان تصافحنا بالايدي، مضى الرجل اسفل الدرج وغادر المبنى.
مضيت الى الباب وخبطت عليه ثم دخلت. سألتني فتاة عما اريد.
اجبتها، “اود ان ارى رئيس اللجنة التنفيذية لمندوبي سوفيتات العمال والفلاحين، والجنود والقوزاق، الرفيق سفردلوف”.
دون ان تتفوه بكلمة واحدة، جلست الفتاة امام طاولة، واخذت اوراق التصريح واذن الدخول، ودرستهم بامعان، ثم سجلت بعض بياناتهم، وكتبت تصريح مرور اخر سجلت عليه رقم الحجرة التي من المفترض ان امضي اليها.
في الحجرة التي ارسلتني الفتاة اليها وجدت سكرتير اللجنة المركزية التنفيذية، رجل متين البنيان، تبدو عليه علامات التغذية الجيدة ولكن بملامح مرهقة. طلب مني اوراقي وسلمتها له. وجد الرجل في الاوراق ما اثار اهتمامه وبدأ يسألني بعض الاسئلة:
“اذا انت من جنوب روسيا يا رفيق؟”
“نعم، انا من اوكرانيا”.
” كنت توا رئيسا للجنة الدفاع عن الثورة في زمن كيرينسكي؟ ”
“نعم”
“اذا انت اشتراكي ثوري؟” (بمعنى، انت عضو في الحزب الاشتراكي الثوري)
“لا!”
“ما هي علاقاتك او ماذا كانت علاقاتك بالحزب الشيوعي في منطقتك؟”
اجبته، “انا اعرف شخصيا العديد من مقاتلي الحزب البلشفي”. وعددت له اسماء رئيس اللجنة الثورية في الكسندروفسك، الرفيق ميخائيليفيتش، وبعض المقاتلين الاخرين من ايكاترينوسلاف.
صمت السكرتير للحظة، ثم سألني عن عقلية الفلاحين في “جنوب روسيا”، وعن سلوكهم نحو القوات الالمانية وجنود الرادا المركزية، وعن اتجاهاتهم نحو السلطة السوفيتية الخ.
اعطيته اجابات مختصرة بدا ظاهرا انها نالت رضاه؛ وفعليا كنت آسفا على انني كنت غير قادر على شرحها له بمزيد من الاستفاضة.
في النهاية اتصل الرجل تليفونيا باحد الاشخاص ثم دعاني الى الذهاب الى مكتب رئيس اللجنة المركزية التنفيذية، الرفيق سفردلوف.
مقابلتي مع سفردلوف
في طريقي الى هناك سرحت بخاطري في الروايات التي تنشرها قوى الثورة المضادة، بل وحتى ينشرها اصدقائي انفسهم الذين كانوا اعداءا لسياسات لينين وسفردلوف وتروتسكي، وهي الروايات التي تقول حرفيا ان من المستحيل ان تستطيع الوصول الى هذه الالهة الارضية. فمن المفترض انهم محاطون بكتائب من الحراس الشخصيين، لن يسمح سوى رئيس الحرس هذا بلقائهم الا لمن يوافق هو شخصيا عليهم.
الان، وقد اصطحبني سكرتير اللجنة التنفيذية المركزية، ادركت سخافة هذه الروايات.
فتح سفردلوف لنا الباب بنفسه وعلى وجهه ارتسمت ابتسامة سرور، تشيع منها روح الالفة، واخذني من يدي، ليجلسني على كرسي بمساند. رجع سكرتير اللجنة التنفيذية المركزية الى مكتبه. بدت اثار النعمة على الرفيق سفردلوف اكثر من سكرتيره. وبدا سفردلوف ايضا اكثر اهتماما بما نقل اليه عما يحدث في اوكرانيا خلال الشهرين او الثلاثة الماضيين. دخل سفردلوف في الموضوع مباشرة قائلا لي:
“وهكذا، قد اتيت يا رفيق من جنوب بلادنا المعذب. اي عمل كنت تضطلع به هناك؟”
“العمل الذي تنخرط فيه الجماهير العظيمة من العمال الثوريين في اوكرانيا. هؤلاء العمال، وقد شاركوا بدورهم في الثورة، مستمرون في الكفاح من اجل تحررهم الشامل. مكاني بين صفوفهم، اذا ما كان لي ان اقول هذا، هو ان اتقدم الصفوف نحو هذه الغاية. اليوم، بسبب انهيار الجبهة الثورية الاوكرانية، وجدت نفسي بشكل مؤقت اهيم على وجهي في موسكو”.
صاح سفردلوف، مقاطعا لي، “ماذا تقول يا رفيق؟ فلاحو الجنوب معظمهم من الكولاك او من انصار الرادا المركزية”.
انفجرت في الضحك ثم وصفت له باختصار ولكن بشكل دقيق ومحكم حركة الفلاحين التي نظمها الاناركيون في منطقة جولاي-بولايي ضد قوات الاحتلال النمساوي الالماني وجنود الرادا المركزية.
ورغم عدم الراحة الذي شعر به سفردلوف بشكل واضح استمر في الحديث:
“اذا، لماذا لم يدعم هؤلاء الفلاحون وحدات حرسنا الاحمر؟ طبقا لمعلوماتنا فلاحو الجنوب تسممهم افكار الشوفينية الاوكرانية المتطرفة وهم في كل مكان رحبوا بالقوات الالمانية وقوات الرادا المركزية في حماسة بوصفهم محررين لهم”.
بدأت مستفزا افند معلومات سفردلوف عن حملة اوكرانيا. اعترفت له انني بنفسي كنت منظما ورئيسا لعديد من كتائب الفلاحين المتطوعين التي قادت كفاحا ثوريا ضد الالمان والرادا المركزية. اكدت له ان الفلاحين يستطيعون تجنيد وحشد جيشا قويا من بين صفوفهم لمقاتلة هؤلاء الاعداء ولكنهم لم يروا بوضوح الغرض من وراء هذه الحرب الثورية. وحدات الحرس الاحمر، وهي تحارب من قطارتها المدرعة، تحافظ على بقاءها قريبة من خطوط السكك الحديدية. انهم يرتدون للخلف عند اول هجوم معاكس دون ان يقلقوا انفسهم حتى بالتقاط جنودهم المتخلفين عنهم، منسحبين عشرات الاميال بغض النظر سواء أكان العدو يتقدم خلفهم ام لا. وشكوت من ان هذه الوحدات لا تشيع الثقة في الفلاحين الذين يقعون تحت رحمة عشماوي الثورة، حيث انهم بلا سلاح ومعزولين داخل قراهم. في الواقع، قطارات الحرس الاحمر المدرعة لم تكلف نفسها ابدا عبء ارسال فصائل من الحرس الاحمر للقرى القريبة من الخط الحديدي. الحرس الاحمر حتى لم يعط السلاح للفلاحين ولم يشجعهم على التمرد ضد اعداء الثورة، ولا على الانضمام للكفاح بانفسهم.
انصت لي سفردلوف بانتباه، صائحا من وقت لاخر، “هل هذا ممكن؟” اشرت الى ان العديد من وحدات الحرس الاحمر تنتمي لجماعات بوجدانوف، وسفيرسكاي، وسابلين واخرين. وقد اصبحت اكثر استقرار ورصانة، اشرت الى ان الحرس الاحمر لا يمكنه اشاعة الثقة في جموع الفلاحين طالما ركز تحركاته على الدفاع عن طريق السكك الحديدية مستخدما القطارات المدرعة التي تسمح لهم بشن هجمات سريعا ولكنهم غالبا ما يتراجعون. ومع ذلك هذه الجموع ما زالت ترى في الثورة وسيلة للتخلص من ظالميهم – ليس فقط كبار ملاك الارض واغنياء الكولاك، ولكن ايضا التخلص من خدمهم، موظفي الدولة بسلطتهم الادارية والسياسية. وهكذا الفلاحون مستعدون للدفاع وصد غزوات اليونكر البروسيين ، اضافة الى صد قوات الهيتمان (زعماء العشائر الاوكرانيين).
قال سفردلوف، “نعم، اعتقد انك على حق فيما يتعلق بالحرس الاحمر… ولكننا قد اعدنا تنظيمهم الان داخل الجيش الاحمر الذي يبني قواته حاليا . لو ان الفلاحين في الجنوب انغرست فيهم الروح الثورية كما جاء في وصفك، فلسوف تكون هناك فرصة طيبة لكنس الالمان من هناك ولسوف يعض الهيتمان التراب في وقت قصير. عندئذ سوف تنتصر سلطة السوفيت في اوكرانيا ايضا”.
“سوف يعتمد ذلك على تنظيم حركة سرية في اوكرانيا. شخصيا انا اعتبر هذه الحركة اكثر ضرورة من اي وقت سبق. بشرط اذا اتخذت هذه الحركة شكلا نضاليا مقاتلا، فإنها سوف تحث جماهير الفلاحين على اعلان التمرد في المدن والقرى ضد الالمان والهيتمان. دون انتفاضة ذات طابع ثوري بشكل جوهري في داخل اوكرانيا، لن يضطر الالمان النمساويون مجبرين على اخلاء البلاد ولن يكون ممكنا تهديد الهيتمان ومؤيديه او اجبارهم على الفرار مع حماتهم. لا تنس انه بسبب معاهدة بريست-ليتوفسك والعوامل السياسية المتعلقة بالقوى الاجنبية التي يجب ان تأخذها ثورتنا في الحسبان، اي هجوم يقوم به الجيش الاحمر في هذا الوقت هو امر لا يمكن تصوره” .
في الوقت الذي كنت اطرح فيه وجهة نظري، كان الرفيق سفردلوف يدون ملاحظاته.
قال سفردلوف، “في هذه الحالة انا اشاركك وجهة النظر بالكامل، ولكن ماذا تكون؟ شيوعي ام اشتراكي ثوري يساري؟ حيث انك اوكراني كما استطيع ان اقول من اللغة التي تستخدمها، ولكن الى اي من الحزبين تنتمي، هذا ما لا استطيع تحديده”.
هذا السؤال، بينما لم يمثل مفاجأة حين وجهه لي سفردلوف، (سكرتير اللجنة المركزية التنفيذية كان قد سألني نفس السؤال توا) وضعني في موقف محير. ماذا يتوجب على قوله؟ هل اقول لسفردلوف بصراحة انني شيوعي اناركي، رفيقا وصديقا لهؤلاء الذين سحقهم حزبه ودولته منذ شهرين سابقين في موسكو ومدن اخرى، ام اخفي نفسي تحت لافتة اخرى؟
احسست بالارتباك وشعر سفردلوف بذلك. لم ارد كشف تصوراتي عن الثورة الاجتماعية وعن اتجاهاتي السياسية في منتصف المقابلة معه. اخفاء هويتي كان امرا ممجوجا بنفس القدر. لذا، وبعد التفكير لعدة ثوان، قلت لسفردلوف: “لماذا انت مهتم لهذه الدرجة بانتماءاتي السياسية؟ اوراقي تظهر لك من اكون، ومن اين اتيت، والدور الذي لعبته في منطقة بعينها، وتنظيمي لعمال المدن والقرى اضافة الى تنظيمي لجماعات الانصار وكتائب المتطوعين للقتال ضد الثورة المضادة التي تجتاح اوكرانيا. اليس هذا كافيا بالنسبة لك؟”
اعتذر الرفيق سفردلوف وسألني الا اشك في شرفه كثوري او اشك في انه يفقد الثقة في. كان اعتذاره صادقا للدرجة التي جعلتني اشعر بالذنب، ودون اي تردد، اعلنته انني شيوعي اناركي من نوع باكونين-كروبوتكين .
تسائل سفردلوف، بابتسامة صديقة، “اي نوع من الشيوعيين الاناركيين انت يا رفيق، حيث انك تقف مدافعا عن تنظيم الجماهير العاملة وتوجيههم نحو الكفاح ضد السلطة الرأسمالية؟”
ولدهشة رئيس اللجنة المركزية التنفيذية، اجبته:
“الاناركية هي ايديولوجية واقعية جدا حتى انها لا تبني فهم خاص للعالم المعاصر والاحداث الواقعية. الدور الذي قام به الذين يمارسون الشيوعية الاناركية في هذه الاحداث مبني على فهم واضح للهدف المفترض تحقيقه والوسائل التي من المفترض ان تستخدم للوصول اليه..”
اخبرني سفردلوف، “ليس لدي اعتراض على ذلك، ولكنك لا تشبه على الاقل اولئك الاناركيين الموسكوفيين الذين اقاموا بشارع مالايا ديميتروفكا”، واراد سفردلوف التوسع في هذا الموضوع، ولكنني قاطعته قائلا:
“سحق الاناركيين في مالايا ديمتروفكا بواسطة حزبك هو مأساة يجب الا تتكرر في المستقبل لمصلحة الثورة…”
تمتم سفردلوف ببعض الكلمات المدغمة في لحيته، وقد نهض من كرسيه، اتى الي، ووضع راحتيه على كتفي وقال:
“ارى انك شخص مطلع جدا على ما يحدث منذ انسحابنا من اوكرانيا وخصوصا المشاعر الحقيقية لدى الفلاحين. ايليتش، رفيقنا لينين، من المؤكد انه سوف يكون مسرورا بالاستماع اليك. هل تود ان احادثه على الهاتف؟”
اجبت انه لا يوجد الكثير مما اود اضافته لفائدة الرفيق لينين، ولكن سفردلوف كان قد التقط الهاتف توا، ناصحا لينين بأن لديه الان بين يديه رفيقا يملك معلومات هامة جدا عن الفلاحين في جنوب روسيا وعن اتجاهاتهم نحو قوى الاحتلال الالماني. ودون تطويل سأل سفردلوف لينين متى يمكنه رؤيتي.
بعد لحظة وضع سفردلوف سماعة التليفون، وكتب تصريح مرور لي يسمح بعودتي في اليوم التالي. قال لي وهو يسلمني اياه:
“غدا، في الواحدة بعد الظهر تماما، تعالى الى هنا مباشرة. سوف نمضي معا الى مكتب الرفيق لينين… هل استطيع الاعتماد عليك؟”
اجبته، “اعتمد علي. لكن هل استطيع ان احصل على وثيقة من سكرتارية اللجنة المركزية تصرح لسوفيت موسكو ان يعطيني سكنا مؤقتا ومجانيا؟ والا سوف اكون مرغما على قضاء الليل راقدا على دكة في حديقة عامة”.
“سوف نرتب كل شيء غدا”، اجابني سفردلوف. وبعد سلامي عليه، اتبعت طريقي للخروج من قصر القيصر الى بوابات الكرملين، دائرا مرة اخرى حول الحرس اللاتفي، وصفوف المدافع والدانات العتيقة، ملقيا بنظرة سريعة على مدفع القيصر العظيم. حتى الغد….
لم ارجع الى الشقة التي تخص قسم الفلاحين بكونجرس السوفيت، الذي كان يترأسه بورتسيف، وهو زميل الزنزانة السابق للرفيق اركينوف . وفر بورتسيف ملجأ للعديد من الرفاق منهم اركينوف الذين تحولوا تدريجيا الى عبء ثقيل عليه. بدلا من ذلك ذهبت لأرى رئيس المركز النقابي، الذي خدم ايضا في السجن مع اركينوف. وعندما لم اجده مرحبا بضيافتي لدرجة كبيرة ذهبت لاعثر على احد المشهورين وسط الرفاق بانه “الاحمق”، الاناركي ماسلوف.
اعلنت للرفيق ماسلوف، وقد عرفته من خلال خدمتنا في الاشغال الشاقة معا، انني سوف اقيم معه، حيث انني لا اجد مكانا اقضي فيه الليل.
لم يعارض الرفيق ماسلوف ومكثت معه. فعليا اظهر لي ماسلوف ضيافة خاصة رغم انتقاداتي له على سلوكه الانفرادي العجيب الذي كان يمنعه من انشاء علاقات اخوية برفاقه السابقين في منظمات موسكو للشيوعيين الاناركيين.
مقابلتي مع لينين
في اليوم التالي، في الواحدة ظهرا، اظهرت نفسي مرة اخرى في الكرملين لاجد الرفيق سفردلوف. قادني الرفيق مباشرة الى لينين. رحب الاخير بي بطريقة ودية. امسكني من ذراع وربت على كتفي بيده الاخرى، وقادني الى مقعد بمساند. بعد ان طلب من سفردلوف ان يجلس في مقعد اخر، ذهب الى سكرتيرته وطلب منها قائلا، “لو سمحت لا تقاطعوننا حتى الساعة الثانية”. ثم جلس مقابلي وبدأ يوجه الاسئلة.
سؤاله الاول كان: “من اي منطقة انت؟” ثم: “كيف يفهم الفلاحون في منطقتك شعار كل السلطة للسوفيت في القرى وماذا كان رد الفعل عند اعداء هذا الشعار – عند الرادا المركزية على وجه الخصوص؟” اخيرا: “هل تمرد الفلاحون في منطقتك ضد الغزاة الالمان النمساويين؟ لو ان الاجابة بنعم، ماذا كان ينقص التمرد الفلاحي حتى يتحول الى انتفاضة عامة بالتنسيق مع عمل وحدات الحرس الاحمر، الذي يدافع عن اراضينا المحتلة بمثل هذه الشجاعة الرائعة؟”
كانت اجاباتي على كل هذه الاسئلة اجابات مقتضبة. لينين، بألمعيته الفريدة الخاصة، سعى ليضع اسئلته بطريقة تمكنني من اجابتها نقطة بنقطة. مثلا، سؤال: “كيف فهم الفلاحون في منطقتك شعار كل السلطة لسوفيت القرى؟” كرره لينين ثلاث مرات. وقد ادهشته اجابتي:
“فهم الفلاحون هذا الشعار بطريقتهم الخاصة. طبقا لتفسيرهم له، كل السلطة ، في كل جوانب الحياة، يجب ان تعرف بوعي وارادة الشعب العامل. يفهم الفلاحون ان سوفيتات العمال والفلاحين في قرى البلاد والمقاطعات ليست اكثر ولا اقل من وسائل في ايدي المنظمات الثورية والادارة الذاتية الاقتصادية للشعب العامل في الكفاح ضد البرجوازية وخدمها، الاشتراكيين اليمينيين وحكومتهم الائتلافية “.
سأل لينين، “هل تعتقد ان هذه الطريقة في تفسير شعارنا هي طريقة صحيحة؟”
اجبته، “نعم”.
“حسنا، اذا، الفلاحون في منطقتك اصابتهم عدوى الاناركية!”
“وهل هذا امر سيء؟”
اجابني لينين، “ليس هذا ما اعنيه. على العكس، نحن مسرورون لان ذلك سوف يعني انتصار الشيوعية على الرأسمالية”، واضاف، “ولكني اشك اذا ما كانت هذه الظاهرة تلقائية؛ انها نتيجة دعاية اناركية ولن تدوم. بل انني حتى لأميل الى الاعتقاد بأن هذه الحماسة الثورية، التي سحقتها الثورة المضادة المنتصرة قبل ان تمتلك الفرصة لخلق منظمة واحدة، قد اختفت توا”.
اشرت الى لينين ان القائد السياسي يجب الا يكون متشائما او متشككا.
قاطعنا سفردلوف، “لذلك طبقا لما تقوله، يجب ان نشجع مثل هذه الميول الاناركية في حياة جماهير الفلاحين؟”
اجبت، “اوه، فحزبك لن يشجعهم”.
امسك لينين بالفرصة.
“ولماذا يتوجب علينا ان نشجعهم؟ حتى نقسم القوى الثورية للبروليتاريا، ونمهد الطريق للثورة المضادة وننتهي بتدمير انفسنا وتدمير البروليتاريا؟”
لم استطع كظم غضبي وانزعجت تماما. اشرت الى لينين ان الاناركية والاناركيين لا يوحدهم شيء مشترك مع الثورة المضادة ولا يرشدون البروليتاريا في هذا الاتجاه.
سألني لينين، “وهل هذا ما قلته؟” واضاف، “انا احاول القول ان الاناركيين، وينقصهم المنظمات الجماهيرية، ليسوا في وضع يستطيعون فيه تنظيم البروليتاريا والفلاحين الفقراء. وبالنتيجة، هم ليسوا في وضع يستطيعون فيه استنهاضهم للدفاع، باوسع معنى للكلمة، عن ذلك الذي قمنا بقهره، وهو الامر العزيز جدا لدينا”.
تحول اللقاء الى الاسئلة الاخرى التي وضعها لينين. اجبرني لينين ان اجيب على احد هذه الاسئلة، وهو سؤال “وحدات الحرس الاحمر والشجاعة الثورية التي دافع بها عن اراضينا المشتركة التي خضعت للغزو”، طلب مني ان اجيب عليه بشكل كامل قدر الامكان. اثار السؤال قلقي بشكل واضح او ان السؤال ذكرني بما قد انجزته تشكيلات الحرس الاحمر مؤخرا في اوكرانيا، من المفترض انها قد حققت الاهداف التي وضعها لها لينين وحزبه، الذين باسمهم ارسلت هذه الوحدات من بتروجراد الى المدن الاخرى الكبرى في اطراف روسيا. اتذكر عاطفة لينين، عاطفة رجل يكافح بإيمان ضد نظام اجتماعي كرهه من اعماقه وكم تمنى تدميره، عندما قلت له:
“حيث انني شاركت في نزع سلاح العديد من القوزاق المنسحبين من الجبهة الالمانية بنهاية ديسمبر 1917 وبدايات 1918، فأنا على علم جيد “بالشجاعة الثورية” لوحدات الحرس الاحمر وبشجاعة قادته خصوصا . لكن ما يبدو لي، يا رفيق لينين، انه كونك تتلقى معلوماتك من ثاني وثالث مصدر، فهذا ما يجعلك تبالغ في مدح ادائهم”.
“كيف ذلك؟ هل تختلف في الحكم عليهم؟”
“اظهر الحرس الاحمر روحا ثورية وشجاعة، لكن ليس بالطريقة التي تصفها. كفاح الحرس الاحمر ضد الهايداماك التابعين للرادا المركزية ، وخصوصا، كفاحهم ضد القوات الالمانية، به لحظات معروفة تكشف فيها ان الروح الثورية والشجاعة، اضافة الى تحركات الحرس الاحمر وقادتهم، كانت في غاية الضعف. بالتأكيد في معظم الاحيان كل ذلك يمكن رده الى حقيقة ان قطاعات الحرس الاحمر تشكلت بسرعة وعملت ضد عدو بطريقة مختلفة تماما عن طريقة حرب الانصار او الوحدات النظامية.
“يجب ان تعرف ان الحرس الاحمر، بغض النظر عن اعدادهم، ينفذون هجومهم ضد الاعداء بالتحرك على طول خطوط السكك الحديدية. ولكن المناطق التي تقع على بعد عشرة الى خمسة عشر ميلا من خط السكة الحديد لا يحتلونها؛ المدافعون عن الثورة او الثورة المضادة يستطيعون المجيئ والذهاب في هذه المنطقة بحرية. لهذا السبب، تنجح الهجمات المفاجئة تقريبا لا محالة. فقط بالقرب من المدن والبلدات على طريق السكك الحديدية فتح الحرس الاحمر جبهة يشن منها هجماته. ولكن مناطق المؤخرة والضواحي القريبة من تقاطع السكك الحديدية ظلت كلها بلا مدافعين. انهار الاندفاع الهجومي للثورة في وجه الضربات المضادة. وما ان تنتهي وحدات الحرس الاحمر من توزيع تواجدها في منطقة معينة حتى تقوم القوى المضادة للثورة بمهاجمتها واجبارهم على الانسحاب في قطاراتهم المدرعة. في الواقع لم ير الناس حتى الحرس الاحمر ولذلك لم يؤيدونهم”.
سأل لينين، “وماذا يفعل المحرضون الثوريون في القرى؟ هل لا يقومون بتجهيز البروليتاريا الزراعية حتى يزودوا الحرس الثوري الذي يمر بالقرب من اماكنهم بدماء جديدة من القوات، او حتى يشكلوا فيالق جديدة من الحرس الاحمر لاتخاذ مواقع هجومية ضد الثورة المضادة؟”
“لا تذهب بعيدا. عدد المحرضين الثوريين قليل للغاية في القرى، ولا يستطيعون فعل الكثير. ولكن في كل يوم مئات من المحرضين والمؤيدون السريون للثورة المضادة يظهرون في القرى. في بلدي والمناطق المحلية المحيطة، من المبالغة ان تتوقع الكثير من المحرضين الثورين في خلق قوات جديدة وتنظيمهم ضد الثورة المضادة. هذه الاوقات تتطلب اعمال حاسمة من كل الثوريين في كل اوجه الحياة واوجه كفاح العمال. الا تضع هذا في اعتبارك، خصوصا في اوكرانيا، فذلك يسمح لقوى الثورة المضادة التي تساند الهيتمان ان تتطور بقوتها وتزيد من تماسك سلطتها”.
ظل سفردلوف يركز نظراته احيانا علي، واحيانا اخرى على لينين. بالنسبة للاخير، اطبق لينين اصابع يديه، ومال برأسه، وشرد في افكاره. ثم، مد قامته وقال: “كل ما قلته لي توا هو امر مؤسف”. واضاف، مستديرا الى سفردلوف، “باعادة تنظيم الحرس الاحمر داخل الجيش الاحمر نحن نسير على الطريق الصحيح الى انتصار البروليتاريا على البرجوازية”.
اجاب سفردلوف بحماسة، “نعم، نعم”.
ثم قال لي لينين، “أي اعمال تنوي القيام بها في موسكو؟”
اجبت انني لن امكث طويلا. تمشيا مع القرار الذي اتخذه مؤتمر جماعات الانصار المقام في تاجانروج، سوف اعود الى اوكرانيا في اوائل يوليو.
سألني لينين، “هل سوف تعود سرا؟”
أجبته، “نعم”.
علق لينين تعليقه الخاص، مخاطبا سفردلوف، “يمتلئ الاناركيون دائما بانكار الذات، انهم جاهزون للتضحية والفداء. ولكنهم متعصبون تعصبا اعمى، انهم يتجاهلون الحاضر ويفكرون فقط في المستقبل البعيد”. وبالاشارة الى ان ذلك ليس موجها لي، اضاف لينين، “انت، يا رفيق، كما اعتقد، تمتلك مسلكا واقعيا نحو مشاكل زماننا. لو ان فقط ثلث الاناركيين في روسيا على شاكلتك، فلسوف نكون نحن الشيوعيون مستعدون للتعاون معهم في ظل شروط معينة بهدف التنظيم الحر للمنتجين”.
في هذه اللحظة شعرت شعورا عميقا من الاحترام للينين ينهض داخلي، رغم اقتناعي الحالي انه مسئول عن افناء التنظيم الاناركي في موسكو، الذي كان علامة على تدمير المنظمات المماثلة في العديد من المدن الاخرى. وفي ضميري كنت خجلا من نفسي. وانا ابحث عن رد يجب ان اوجهه للينين، قلت له عينا في عين:
“الثورة ومواقعها عزيزة جدا بالنسبة للشيوعيين الاناركيين؛ وفي هذا المقام الشيوعيون الاناركيون مثلهم مثل كل الثوريين الحقيقيين”.
صاح لينين فورا، ضاحكا، “اوه، لا تقل لنا ذلك. نحن نعرف الاناركيين كما نعرفك. في الجزء الاعظم ليس لديهم اي فكرة عن الحاضر، او على الاقل هم لا يشغلون انفسهم به الا في القليل جدا. ولكن الحاضر هو امر جدي لدرجة انه عندما لا يفكر الثوريون به او لا يتخذون موقفا باسلوب ايجابي يتعلق به يصبح ذلك مشينا. معظم الاناركيون يفكرون ويكتبون عن المستقبل دون فهم للحاضر. وهذا ما يقسمنا، الشيوعيون وانتم”.
مع هذه الكلمات، نهض لينين من كرسيه واخذ يخطو جيئة وذهابا.
“نعم، نعم، الاناركيون اقوياء في مجال الافكار عن المستقبل – في الحاضر، هم لا يستقرون باقدامهم على ارض. مسلكهم يرثى له ولأن تعصبهم الاعمى خالي من المضمون، لا يمتلكون صلات حقيقية بهذا المستقبل الذي يحلمون به”.
اكتسى وجه سفردلوف بابتسامة شريرة، والتفت لي، قائلا: “لا تستطيع ان تجادل في ان فلاديمير ايليتش على حق في تعليقاته”.
اسرع لينين مضيفا: “هل يقر الاناركيون ابدا بافتقادهم للواقعية في الحياة اليومية الحاضرة؟ لماذا، انهم حتى لا يفكرون فيها”.
ردا على ذلك، اخبرت لينين وسفردلوف انني فلاح نصف متعلم ولا استطيع المجادلة باسلوب سليم في الرأي المثقف الخبير الذي ادلى به لينين حول الاناركيين.
“ولكني يجب ان اخبرك، ايها الرفيق لينين، ان تأكيدك على ان الاناركيين لا يفهمون ’الحاضر‘ بشكل واقعي، وانهم لا يمتلكون صلة به وهلمجرا، هو رأي خاطئ بشكل جوهري. الشيوعيون الاناركيون في اوكرانيا (او ’جنوب روسيا‘ بالنسبة لكم ايها البلاشفة الشيوعيون الذين يحاولون تجنب كلمة اوكرانيا)، اقول، الشيوعيون الاناركيون قد اعطوا توا عديد من البراهين على انهم منزرعون بشدة في ’الحاضر‘. نضال الريف الاوكراني الثوري بأكمله ضد الرادا المركزية تم تنفيذه في ظل التوجيه الايديولوجي للشيوعيين الاناركيين وجزئيا ايضا من الاشتراكيين الثوريين (الذين بالطبع يمتلكون اهداف مختلفة كليا عن اهداف الشيوعيين الاناركيين في كفاحهم ضد الرادا المركزية). لم يمتلك بلاشفتكم الا فيما ندر اي وجود في قرانا. واينما تغلغلوا ظل نفوذهم في حدوده الدنيا. تقريبا كل الكوميونات او الجمعيات الفلاحية في اوكرانيا تشكلت بايحاء من الشيوعيين الاناركيين. الكفاح المسلح للشعب العامل ضد الثورة المضادة عموما وضد الغزو الالماني النمساوي خصوصا اضطلعت به الجماهير يدا بيد مع التوجيه الايديولوجي والعضوي للشيوعيين الاناركيين حصريا.
“من المؤكد، انه ليس من مصلحة حزبك ان تعطينا استحقاقا وجدارة في كل ذلك، ولكنها تلك هي الحقائق وانت لا تستطيع دحضها. انت تعرف بدقة تماما، كما اتخيل، القوة الفعلية والطاقة القتالية للقوات الثورية الحرة في اوكرانيا. لم يكن دون سبب انك اثرت امر شجاعتهم التي دافعوا بها بشكل بطولي عن المواقع الثورية المشتركة. من بينهم، على الاقل نصفهم حارب رافعا الراية الاناركية – موكروسوف، وماريا نيكيفوروفا ، وتشدردنياك، وجارين، ولوينيف والعديد من قادة القوات الاخرين الموالين للثورة ممن سيأخذون وقتا طويلا حتى نذكر اسماءهم كلهم – كلهم شيوعيون اناركيون. استطيع الحديث عن المجموعة التي انتمي اليها بنفسي وعن كل جماعات الانصار الاخرى و’كتائب المتطوعين‘ للدفاع عن الثورة التي قمنا بتشكيلها والتي لا تستطيع قيادة الحرس الاحمر الاستغناء عنها.
“كل ذلك يظهر لك كم انت على خطأ، ايها الرفيق لينين، بادعاء اننا، نحن الشيوعيون الاناركيون، لا تقف اقدامنا على ارض، وان مسلكنا نحو ’الحاضر‘ امر يرثى له واننا مغرمون جدا بأن نعيش في احلام حول المستقبل. ما قلته لكم في سياق حوارنا اليوم لا يمكن وضعه محل تساؤل لان ما قلته هو الحق وصحيح. الرواية التي قصصتها عليكم تناقض الاستنتاجات التي عبرتم عنها نحونا. كل شخص يستطيع ان يرى كم نحن “مزروعون” في الحاضر، حيث اننا نعمل ونسعى نحو ايجاد الوسائل التي تجلب المستقبل الذي نرغب به، واننا في الواقع نتعامل جديا مع هذه المشكلة”.
في هذه اللحظة تطلعت الى سفردلوف. كان وجهه قد اصطبغ بالاحمرار ولكنه كان ما زال مبتسما. بالنسبة للينين، وقد فرد ذراعيه، قال: “ربما اكون مخطئا”.
“نعم، نعم، في هذه الحالة، ايها الرفيق لينين، كنت قاسيا جدا علينا، نحن الشيوعيون الاناركيون، ببساطة، كما اعتقد، لان معلوماتكم فقيرة حول الوضع الحقيقي في اوكرانيا وحول الدور الذي لعبناه هناك”.
“ربما لا استطيع المجادلة في ذلك. ولكن على اية حال الخطأ لا يمكن تجنبه، خصوصا في الاوضاع الراهنة”، هذه كانت اجابة لينين.
لينين وقد لاحظ انني اشعر بسخونة ما بسبب ياقة القميص، بذل اقصى ما عنده لتهدئتي بطريقة ابوية، ملتويا بالحوار بشكل حاد تماما الى موضوع اخر. ولكن طبعي السيئ، اذا ما كان لي ان اقول ذلك، لم يسمح لي بان اترك نفسي للدخول في مزيد من النقاش، رغم كل الاحترام الذي بثه لينين في داخلي ناحيته. شعرت بالاهانة. رغم انني عرفت ان امامي رجل حقيقي، الا ان هناك عديد من الموضوعات الاخرى ممكن ان اتناولها معه وهناك الكثير مما استطيع تعلمه منه، ولكن حالتي الذهنية كانت قد تبدلت. لم تعد اجاباتي تفصيلية؛ شيئا ما داخلي اصبح مطعونا ومررت باحساس من اللفظ.
تأثر لينين بشدة من التعامل مع هذا التغيير في موقفي نحو الحوار. سعى لينين جاهدا لصرف غضبي بالحديث عن اشياء اخرى. وسألني فجأة، وقد لاحظ انني استعيد لياقتي السابقة نتيجة فصاحته وبلاغته في الحديث: “اذا انت تنوي العودة الى اوكرانيا سرا؟”
اجبت، “نعم”.
“هل استطيع تقديم اي مساعدة؟”
قلت، “بكل سرور”.
سأل لينين، ملتفتا الى سفردلوف، “من هو المسئول حاليا عن ارسال عملاءنا داخل الجنوب؟”
رد سفردلوف، “اما الرفيق كاربينكو او الرفيق زاتونسكي. سوف اتيقن من منهما”. وبينما يتصل سفردلوف هاتفيا ليكتشف من منهما المسئول عن ارسال عملاء تحت غطاء الى اوكرانيا، حاول لينين اقناعي ان موقف الحزب الشيوعي فيما يتعلق بالاناركيين ليس عدائيا لهذه الدرجة التي يبدو اني اعتقدها.
قال لينين، “لو اننا اضطررنا الى ان نتخذ اجراءات نشيطة قوية لخلع الاناركيين من مبنى معين يحتلونه في مالايا ديميتروفسكا، كانوا يأوون فيه عصابات من هنا او من اماكن اخرى، فالمسئولية لا تقع علينا ولكن على الاناركيين الذين نصبوا انفسهم هناك. يجب ان تفهم اننا صرحنا لهم باحتلال مبنى اخر ليس بعيد عن المبنى الذي احتلوه في شارع مالايا ديميتروفكا وانهم احرار في القيام بعملهم بطريقتهم الخاصة”.
سألت لينين، “هل تمتلك اي دليل يبرهن على ان الاناركيين في مالايا ديمتروفسكا كانوا يأوون عصابات؟”
اجاب لينين، “نعم، جمعت المفوضية الاستثنائية دليلا وتحققت منه. والا لما اصدر الحزب اوامر بالاجراءات التي اتخذت”.
في الاثناء جلس سفردلوف معنا مرة اخرى واعلن ان الرفيق كاربينكو هو المسئول عن تمرير العملاء السريون، ولكن الرفيق زاتونسكي ايضا خبير بذلك ولديه معلومات جيدة عن هذا الموضوع.
صاح لينين مباشرة: “اذا، يا رفيق، اذهب غدا بعد الظهر او حينما يتفق لك الى الرفيق كاربنكو واطلب منه اي شيء انت تحتاجه لدخول اوكرانيا سرا. سوف يعطيك طريقا تسلكه لعبور الحدود”.
سألت، “اي حدود؟”
قال لينين بعصبية، “الا تعلم اخر ما حدث؟ اقيمت حدود بين روسيا واوكرانيا . هناك قوات المانية تحرس هذه الحدود الان”.
اجبت، “اذا انت تعتبر اوكرانيا بوصفها ’جنوب روسيا‘”.
تمتم لينين، “ان تعتبر هو شيء، يا رفيق، وان ترى الاشياء كما هي فذلك امر اخر”.
قبل ان يتاح لي الوقت لارد، اضاف لينين: “اخبر الرفيق كاربنكو انني ارسلتك. اذا لم يصدقك، فليطلبني فقط في التليفون. هذا هو العنوان حيث يمكنك ان تجده”.
بعدئذ وقفنا كلنا، وتصافحنا بالايدي، وبعد تبادل الشكر، بطريقة ودية كما كان ظاهرا، غادرت مكتب لينين، ونسيت حتى ان اذكر سفردلوف ان يأمر سكرتيره ان يوقع التأشيرة الضرورية على وثائقي التي سوف تخولني امكانية الحصول على غرفة مجانية من سوفيت موسكو.
وجدت نفسي سريعا عند بوابات الكرملين وفورا مضيت لأرى الرفيق بورتسيف.
خاتمة
بفضل مساعدة لينين، استطاع ماخنو العودة الى اوكرانيا بعد رحلة طويلة وخطيرة. زود البلاشفة ماخنو بجواز سفر كمدرس؛ وحاولوا ايضا تجنيده كواحد من عملائهم في اوكرانيا، ولكنه رفض عرضهم. عند وصول ماخنو الى منشأه الاصلي في جولاي-بولاي، علم انه في غيابه احرقوا بيت امه حتى سوي بالارض وان اخيه الاكبر، الغير لائق للحرب، قتلته القوات الرجعية .
هناك دليل ضئيل على ان مقابلة ماخنو مع سفردلوف ولينين تكتسب اي اهمية تاريخية. استمر البلاشفة في اتباع سياسة غير تنويرية نحو اوكرانيا. نادى البلاشفة، وهم مخطئون في حساب قوتهم بالريف، بهبة جماهيرية في 7 اغسطس 1918، مما جعلها تتسبب في عموم الفوضى . وعندما غزا البلاشفة اوكرانيا للمرة الثانية في نهاية عام 1918، كرروا كل الاخطاء نفسها في تعاملهم مع الفلاحين بنفس النتائج السابقة . وللمفارقة، افكار ماخنو عن شن ’حرب الشعب‘ في الريف حاكاها فعليا الزعماء الماركسيون اللينينيون في العالم الثالث – من اجل غايات مختلفة تماما.
مضى ماخنو في تنظيم الحركة التي حملت اسمه، الماخنوية، والتي ناضلت لمدة ثلاث سنوات لتأسيس مجتمعا اناركيا في جنوب شرق اوكرانيا. ومن وجهة نظر عسكرية صرف، جيش انصار ماخنو قام بنصيب كبير في نتائج الحرب الاهلية: اعطى العديد من المقاتلين الاناركيين ارواحهم في معركة مستميتة مع جيوش الجنرال الابيض ’دينيكن‘ ونجحوا في قطع خطوط امداده عندما كانت قواته تقترب بالضبط من موسكو.
تتبع لينين وتروتسكي اخبار نشاطات ماخنو باهتمام بالغ . عند لحظة معينة فكر لينين وتروتسكي حتى في فصل جزء من اوكرانيا وتركه للاناركيين لتنفيذ تجربتهم الاجتماعية . ولكن في النهاية اغرقوا الماخنوية في بحار دماء الاف الفلاحين الذين تم اعدامهم .
عندما زارت ايما جولدمان والكسندر بيركمان لينين في 1920 لطلب العفو في قضية الاناركيين في السجون الروسية، صاح لينين مغضبا: “اناركيون؟ كلام فارغ! لدينا عصابات في السجون، وماخنويون، ولكن لا يوجد اناركيون ايديولوجيون” .

محاولة لتفكيك الخطابات الدينية السائدة أو محاولة لإعادة اكتشاف الإنسان في الخطابات الدينية السائدة

مازن كم الماز

الحقيقة أن الجانب الإنساني في الشخصيات التاريخية الواقعية و التي تتعرض لعملية نزع لإنسانيتها من خلال عملية تطويبها و تحويلها إلى رافعة لمقدس ديني ما ( و إيديولوجي مؤخرا ) هو الضحية الأولى لهذه العملية .. النبي محمد , يسوع , موسى , الحسين , عائشة , الصحابة , الأئمة , جمعهم أشخاص حقيقيون , بشر عاشوا كسائر البشر , لكن الخطابات الدينية السائدة بتطويبهم ألغت وجودهم و تاريخهم الفعلي كبشر , أنكرت عليهم إنسانيتهم في سبيل مقدسها , “لتسمو” بهم إلى رموز فوق إنسانية لمقدسها المزعوم , لقد أعادت مؤسسات الكهنوت الديني ( و الإيديولوجي في وقت لاحق ) كتابة التاريخ الفعلي لهؤلاء البشر بما يتوافق تماما مع إنكارها هذا لإنسانيتهم لتتمكن في نهاية المطاف من تحويلهم إلى أنبياء , قديسين , آلهة , الخ .. لا يمكن للقديسين خلافا للبشر العاديين , و لا يسمح لهم , بارتكاب الأخطاء الإنسانية العادية , التافهة و الكبيرة منها , إن الصورة السائدة تصورهم على أنهم لا يخطئون , و بالتالي يعاد إنتاج تاريخهم الفعلي بعد أسطرتهم , تحويلهم إلى أسطورة , لكن حقيقتهم البشرية ترفض إلا أن تطل علينا باستمرار من وقائع حياتهم المسكوت عنها , و التي شكلت على الأغلب المنطلق في “بطولتهم” الرمزية طالما أنهم حتى اليوم هم الأبطال المنصبون لحياتنا و تاريخنا , لا يكفي أبو طالب مثلا أنه حمى ابن أخيه من ألد أعدائه , أبي سفيان , الخطاب السائد يعيد قراءة الواقع , و هو يخلق منطقه الخاص ليبرر قلبه للواقع , أبو سفيان أسلم الأمر الذي لم يفعله أبو طالب , هكذا يصبح العدو الأول لمحمد في مركز القراءة الجديدة للتاريخ بينما يطرد أبو طالب خارجها , هذا طبعا مثل مصلحة لسلطة قائمة , امتلكت و نسبت لنفسها الحق في إعادة تفسير التاريخ بما يناسبها , يبقى الشيعة المساكين مضطرين للزعم باستمرار أن أبا طالب قد أسلم ليدافعوا هم أيضا عن قراءتهم المزيفة على طريقتهم للتاريخ , لكن هذه قضية ثانوية في محاولتنا هذه لإعادة قراءة التاريخ , فما نريد الحفر عنه هم البشر الفعليون , كما عاشوا فعلا , في هذه القراءات المزورة للتاريخ , مثلا طريقة صياغة ما تسمى بحادثة الإفك , أو قصة الاتهام الذي نسب مثلا لزوجة النبي محمد المفضلة عائشة يصور على أنه مادة لجدال بين حق مطلق يمثله إله محمد و نبيه و شر مطلق يمثله الأشرار الذين “اتهموا” عائشة بالزنا , وجود عائشة هنا هامشي ثانوي و خاضع كلية لأولوية الدفاع عن محمد و إلهه , هذه الواقعة التاريخية تساوي تماما واقعة أن يسوع قد ولد من أم غير متزوجة و التي تحول من واقعة إنسانية عادية و مكررة إلى “معجزة” , الحقيقة أن هذه الوقائع في الحقيقة وقائع بشرية بسيطة و عادية بمعنى تكرارها لا بمعنى أنها غير مهمة , بل هي ذات أهمية هائلة لمن عاشوها , الأنا الأعلى الأخلاقي هنا يعامل الزنا كجريمة أخلاقية , لكن الأكيد أن ممارسة الجنس ليست جريمة إنسانية , إنها حالة إنسانية , صحيح أن الجنس شيء معقد و مركب , صحيح مثلا أن الإنسان يشترك في هذه الغريزة مع الحيوانات , بل الكائنات المتطورة كلها , التي تتكاثر جنسيا , لكن هذا لا يقلل من إنسانية الغريزة و الممارسة الجنسية , صحيح أن للجنس وظيفة أكبر من الفرد , ما يسميه علماء البيولوجيا الحفاظ على الجنس , لكن الأكيد أيضا أنه من أهم أشكال و أسباب الإشباع الفردي , حتى وظائف أكثر أولية كالطعام و الشراب , أي الكفاح في سبيل البقاء أو العمل الإنساني , تساهم أيضا في خلق الإشباع الإنساني الفردي بقدر ما تملك مهمة اجتماعية أخرى و لا أقول أكثر أهمية , طالما كان الجنس حالة إنسانية مركبة , مثلا يمكن للإنسان أن يمارس المثلية الجنسية بدافع الكبت الجنسي و القمع الجسدي أو على العكس كخيار حر و طوعي لتلبية أو إشباع حر لرغبة إنسانية بامتياز , و طالما كانت نظرة الأنا الإنسانية للجنس نظرة فصامية مشتتة بين غرائز الهو و توبيخ الأنا الأعلى القمعي , طالما احتفظ الكثيرون بشخصيتين , واحدة تتناسب مع اشتراطات الأنا الأعلى الأخلاقية و أخرى تبحث عن إرضاء و إشباع غرائز الهو و لو عن طريق ممارسة الجنس أو وسائل بلوغ اللذة الجنسية الأخرى مع المومسات أو حتى الأطفال أو المحارم , باختصار ليس فعل الزنا أو الجنس جريمة إنسانية , إنه حالة إنسانية واقعية جرت و تجري و ستجري كل دقيقة .. يمكن القول استنادا إلى استقراء المسكوت عنه في التاريخ أن محمد كان شخصا إيروسيا شبقا , و لو أن توجهه نحو تلبية رغباته الجسدية جاء متأخرا , ربما بسبب ضغوط الدعوة و حاجته ليحتفظ بصورة طهرية ما قبل أن ينتصر دينه عمليا و يصبح من الممكن أن يعتمد بدلا من تلك الصورة الطهرية على دعم الوحي له في تلبية و إشباع رغباته الإنسانية , مع هذا الانتصار سيبدأ محمد بالالتفات إلى جسده الذي أصبح متعبا بعض الشيء , متقدما في السن أيضا , لا يمكن القول بأن علاقة محمد بخديجة كانت قائمة على الشهوة , لقد كانت عقلانية أكثر منها شهوانية , تماما على عكس علاقته بعائشة , فعائشة رغم أنها لم تكن على قدر هائل من الجمال الجسدي , لكنها كانت جسدا قادرا على أن يمنحه إشباعا هائلا , جسد أنثوي غض , فتي , سنها الصغير , و حقيقة أنها عذراء , سيجعل هذا من عائشة أقرب نسائه إلى قلبه و جسده , هكذا ستنشأ علاقة نموذجية بين زوج كهل و زوجة شابة تلعب دور الزوجة المفضلة أو المدللة , لكن الغيرة تشكل جزءا ضروريا من مثل هذه العلاقة , هذه الغيرة التي ستتصاعد في قلب الزوج تدريجيا , ليس فقط تجاه عائشة , بل كل نسائه , ليبدأ بفرض الحجاب , ثم منعهن من الخروج إلى الأسواق و الاختلاط بالرجال .. بالنسبة لعائشة لا بد أن ممارسة الجنس في سن مبكرة جدا مع رجل كهل كانت تحمل أو تخلق مشاعرا متناقضة , لقد مارست عائشة الجنس قبل أن تكون قادرة على الاستمتاع بذلك و هذا يترك لدى المرأة ذكريات مختلفة عن فعل الممارسة الجنسية , خليط من الإشباع الطفولي و إرهاصات اللذة الجسدية الثائرة و إنهاء طفولتها الفعلية للقيام بلعب دور الزوجة و ربما الكراهية الدفينة الممزوجة بالإحساس بالدونية من ممارسة الجنس و من الشريك الجنسي نفسه , المنطق الإنساني البسيط يقول أن عائشة الإنسان , المرأة , قد تمارس فعلا الجنس إذا توفرت لها الفرصة مع شخص آخر , أصغر سنا , أقرب إلى الصورة الذكورية التي تحرك شهوة المرأة من زوجها الكهل , نقطة أخرى هامة هي أن إشباع المرأة المتزوجة يكون عادة أكبر بكثير مع عشيقها من زوجها , أن الجنس مع العشيق يكون لاهبا , مقارنة بالجنس الروتيني مع الزوج , لكن بغض النظر عن الاحتمالات المرتبطة بما قامت به عائشة بالفعل , فإن عائشة اضطرت للتوقف عن ممارسة الجنس أيضا في سن صغيرة , كانت كسائر أزواج النبي ممنوعة من أن تتزوج ثانية بعد موت النبي , و هذا الانقطاع المبكر عن ممارسة الجنس و لفترة طويلة حتى الموت بينما كانت الرغبة ما تزال مشتعلة في الجسد الفتي هي على الأغلب السبب وراء انغماس عائشة في الألاعيب و المؤامرات السياسية التي بدأت في الفترة الأخيرة من حكم عثمان بن عفان و بعد أن خسرت معركة الجمل و فشلت محاولاتها الأخيرة لتولية أحد إخوتها خلافة المسلمين , انتهت بها إلى مواقفها المتزمتة و المعادية للمرأة في فتاواها و الأحاديث التي نقلتها عن زوجها الرسول , إن هذا الانقطاع المبكر و الطويل عن الجنس إضافة إلى الرض الهائل الناتج عن اتهامها بالخيانة الزوجية يقود بشكل طبيعي إلى إنكار و من ثم كره الممارسة و الغريزة الجنسيتين في نهاية الأمر , إلى أن تصبح هي نفسها بمواقفها المعادية لجنسها , أن تصبح تجسيدا للأنا الأعلى الأخلاقي الذي حاكمها يوما و ما زال لأنها امرأة ..
لا شك أن يسوع , كطفل لامرأة , لأم , غير متزوجة قد عانى من عقدة أوديب مقلوبة , من ألم داخلي هائل , سببه له النظام الأخلاقي السائد , الابن هنا يحاول أن يعوض عن الأب المفقود بصورة خيالية لأب ما , عدا عن محاولة التوفيق بين كراهية الأم و تحميلها مسؤولية آلامه و بين حبها الطبيعي كمصدر للحياة , كمأوى و كملجأ من الآلام التي يعانيها بسبب موقف المحيط الرافض له …. الحقيقة أن هذا التوتر الهائل بين أنا متألمة و أنا أعلى تواصل التوبيخ باستمرار و تكرس عند الأولى شعورا هائلا بالدونية و بالرفض , من السهل جدا أن يحل على الصعيد السيكولوجي باعتبار أن الأب المفقود ليس إلا الرب , الأب … لكن حتى في لحظة تغلبها الفصامي الشيزوفيريني على ألمها تبقى الأنا عند يسوع تشعر بالمهانة أمام الأنا الأعلى الأخلاقية , المنافقة بالمناسبة , للأخلاقيين و رجال الدين و حتى الرأي العام المجتمعي , فيعلن يسوع في هذه اللحظة أن الجنس لا يجب فقط تقنينه أخلاقيا و اجتماعيا لصالح الأسرة الأحادية كتعبير عن انتصار الجنس الذكوري و إخضاع الجنس الأنثوي كما تفعل سائر الأديان , بل يعلن أن الجنس , الزواج , هو رباط مقدس , يسوع بذلك يكرس عقدة نقصه أمام الأنا الأعلى الأخلاقية التي سببت له كل تلك الآلام بالتأكيد , إنه يعلن هزيمته أمامها , انكساره , إن الله – الأب لا ينقذ يسوع فقط من توتره , من صراعه الداخلي و من الرفض الخارجي له كابن لأم غير متزوجة , بل إن تلك الأنا الأعلى تتحد بالله , بصورة الأب المفقود , لتجعل تلك الوصفة الأخلاقية جزءا من أهم أجزاء المقدس , من الرب نفسه , هكذا يهزم يسوع في لحظة انتصاره الفصامي , و يخلق بالضرورة , يؤبد , بتماهيه بالأنا الأعلى التي واصلت تعذيبه و الاعتداء عليه طوال حياته , أسباب إنجاب أطفال مثله , محكومين مثله بالألم و المعاناة , بتحويله الوصفة الأخلاقية السائدة إلى أقصى أشكالها الممكنة جمودا و رفضا و عداءا لإنسانية و لجسد الإنسان , إن الله – الأب لن ينقذ البشرية عن طريق آلام ابنه المنبوذ يسوع , بل سيقسمها فقط بين قلة في النعيم و غالبية في الجحيم , إن يسوع المستسلم للأنا الأعلى , الذي يقدس الأنا الأعلى , بإعلانها على أنها هي الله – الأب , لا ينقذ البشرية , إنه يكبلها من جديد …. في الحقيقة إن هؤلاء البشر هم أبطال التاريخ الإنساني الفعلي , التراجيديا الإنسانية الفعلية , التي بدأنا بروايتها و تمثيلها منذ ظهر الإنسان الأول الواعي على هذه الأرض و حتى الغد البعيد , و لذلك فهم مثل هاملت تماما , و مثل أبطال الأساطير اليونانية يشدنا إليهم ما يشدنا في هؤلاء الأبطال من صراع مضن مع مصائرهم , مع العالم و مع رغباتهم , مع الخيانة , و الهزيمة , أي باختصار كل ما هو إنساني , لا يعني هذا أنهم لم يكونوا فصاميين أو عصابيين , أو أنهم لم يمارسوا الخداع , أو أنهم في نفس الوقت لم يكونوا صادقين في ما قالوه و زعموا أنهم رأوه و اعتقدوا به , إن الخداع ليس فعل شيطاني , إنه مثل الزنا أو الجنس , فعل إنساني بامتياز , و في الأغلب يكون خداع النفس ( المرضي أو الهستيري حتى أحيانا ) هو المدخل لخداع الآخرين , و إيهام النفس هو المدخل لإيهام الآخرين , إن التسامي كعملية سيكولوجية يحاول أن يقلب الأدنى , التافه , الإنساني , الغرائزي , في نظر الأنا الأعلى الأخلاقي إلى ما هو سامي , فوق إنساني , فوق غرائزي , في محاولة لإخفاء أصوله الغرائزية الإنسانية , إنه يبقى مشدودا إلى حالته الغرائزية الإنسانية الأولية , لكن بشكل منافق … لا شك أن التراجيديا الإنسانية الفعلية تتضمن أكثر من مجرد الغرائز التي يكبتها الأنا الأعلى , مثلا كانت العادة في العالم المتحضر في عصر المسيح أن الأباطرة , الفراعنة , الملوك , هم من يعلنون أنفسهم , أو يعلنهم الكهنة آلهة أو أبناء للآلهة , كان أكبر فعل هرطقي في العالم القديم يومها هو إعلان يسوع , الابن الذي ولدته مريم دون زوج , ابنا للإله – الرب , ملكا لليهود , لا شك أن هذا كان يومها أخطر مؤامرة على الأنا الأعلى – السلطة , و لهذا على الأغلب ظهر المسيحيون الأوائل بين الفقراء و المحرومين و لهذا على الأغلب كان يسوع قادرا على أن يلهمهم تلك القوة الاستثنائية في مواجهة بطش أباطرة روما – آلهة العالم القديم , و لكن ما في كل قصص التراجيديا الإنسانية – التي تقترب هنا من الملهاة – يظهر كهنة يقومون بتطويب يسوع , “تخليصه” من إنسانيته , من آلامه الإنسانية , ليصنعوا قصة آلامه الإلهية , المقدسة , ليندمج أخيرا آلهة العالم القديم بإله المحرومين المهرطق – يسوع , لتصبح المسيحية دينا للإمبراطورية , و ليحكم الأباطرة باسم يسوع نفسه هذه المرة …. إن عملية تطويب القديسين و الأنبياء و الآلهة هي أسوأ و أحط و أكثر جبنا مما فعله شكسبير مثلا مع هاملت , فعندما لا تستطيع أن تكون بطلا فقد تمارس بطولتك بأن تكتب عن الأبطال , كما نفعل نحن , لكن عملية تطويب يسوع و عائشة هي أحط و أكثر همجية و لا إنسانية , إنها عملية توظيف هؤلاء الأبطال الفعليين للتراجيديا الإنسانية الواقعية لصالح قوى سلطوية , لكي يقوموا بوظيفة مباشرة في بنية و خطاب هذه السلطات القائمة , الأشخاص التافهون , الذين يقومون بفعل التطويب هذا , بفعل الأسطرة هذا , يقنعون بدور موظفين في بنى السلطات القائمة , و هم لأنهم متميزون فقط في فعل التطويب , في فعل التقديس و إزالة الأنسنة عن هؤلاء الأبطال الفعليين فإنهم مناسبون تماما لممارسة دور كهنوت دين السلطة القائمة , إنهم تافهون و جبناء لدرجة أنهم لا يستطيعون ممارسة البطولة الإنسانية أو حتى الحديث عنها لذلك فإنهم يخلقون وهم البطولة الإلهية , أنا أعتقد أنه هنا بالتحديد تكمن قوة تحليل نيتشه , عندما يمزق القناع الذي وضعه هؤلاء الكهنة على وجوه أبطال تاريخنا البشري و يكشف عن جوهر و حقيقة معاناتهم و آلامهم الإنسانية , هذا ما أظن أنه يشكل الجانب الثوري , و ربما الأناركي , في فلسفة نيتشه عن التاريخ و الإنسان …. إن الأفعال الكبرى , أفعال التمرد على ما يبدو أنه مصير إنساني محتوم , أي على القدر , تماما كما في الأساطير اليونانية , يحفز الرغبة في تقديس أبطال هذه الأفعال , ربما لن يكون غريبا مثلا أن يجد رجلا مثل علي بن أبي طالب أو الحسين كل هؤلاء الناس ليعلنوه إماما أو حتى إلها , حتى خصم الحسين في كربلاء , يزيد , يوجد من يؤلهه , لكن فقط كامتداد للمتمرد الكوني الأول , الشيطان نفسه , خصم الإله الدائم و خصم كل الآلهة …. لا نستطيع أن نحكم كيف تصرفت عائشة بالفعل عندما جاءتها فرصة ممارسة الجنس مع شخص غير زوجها , و لا يمكن لأحد أن يقطع بما حدث فعلا , لهذا بالتحديد جرى حسم القضية فقط بواسطة تلك القوة التي لا نستطيع مجادلتها و التي يزعم محمد أنها تعرف السر و أخفى , أي الله نفسه , و هنا إما عليك أن تفعل كما فعل محمد نفسه أو أن تستمر في التفكير دون طائل … أخيرا , كانت عائشة و يسوع أمثلة لبشر مضطهدين , لبشر مكبوتين , قمعهم النظام الأخلاقي و الاجتماعي السائد , بينما كان ردهم إنسانيا بامتياز , أي متناقضا بقدر ما أن الإنسان يبقى أسير تناقضاته الداخلية و تناقضات عالمه , عالم السادة , لم يكونا أحرارا و متمردين مثل سبارتاكوس الذي أطاح بسيفه و بثورته , بالأنا الأعلى – السلطة في هذا العالم من ألفه إلى يائه و حلم بتغييره كلية و إقامة عالم جديد تماما , كانا أضعف من هذا , مثلنا , مثل غالبية البشر , فتمردوا قليلا و خضعوا كثيرا , و أعاد وعيهم إنتاج مأساتهم في صدامهم مع النظام الذي قمعهم و نبذهم بشكل إنساني بامتياز , قائم على الوهم , بالضرورة , و في لحظة ما , تحولوا إلى جزء من منظومة القمع و الكبت السائدة كرموز في الأنا الأعلى لحالة فوق إنسانية , لكبت جديد قديم , لهذا بالذات يبقى سبارتاكوس هامشيا في قراءة السادة للتاريخ , فهو يبقى حاضرا على الدوام كإنسان , من دم و لحم , كحالة إنسانية أبدا عصية على التطويب , و يبقى مع ذلك ممتلكا ذلك السحر الخاص الاستثنائي للثوار , الخارجين على كل اشتراطات الأنا الأعلى , و لذلك دوما كان يبعث من جديد , لأنه الإنسان الذي يخلق تاريخه مرة أخرى بثورته , بينما يخلقها في بقية الأوقات كهنة السادة و سيدهم – أناهم الأعلى …………….

نحو أناركية أخرى

ديفيد جريبر وأندريه جروباتشيك

ترجمة : احمد زكى

يتضح أكثر فأكثر أن عصر الثورات لم ينته بعد.  وبنفس المنوال يتضح أكثر فأكثر أن الحركة الثورية الكوكبية في القرن الواحد وعشرين، لن تكون هي تلك الحركة التي تستمد أصولها من التقاليد الماركسية لحد كبير، أو حتى من الاشتراكية بمعناها الضيق، ولكنها سوف تستمد أصولها أكثر كثيرا من الأناركية.

في جميع الأنحاء من أوروبا الشرقية حتى الأرجنتين، ومن سياتل حتى بومباي، تتوالد من الأفكار والمبادئ الأناركية رؤى وأحلام راديكالية جديدة.  وغالبا ما لا يطلقون على أنفسهم، أولئك المدافعون عن هذه الأفكار، اسم “الأناركيون”.  انهم مستودع أسماء اخرى: أنصار التسيير الذاتي – autonomism، اللا- سلطوية – anti-authoritarianism، الأفقية – horizontality، الزاباتيستية – Zapatismo، الديموقراطية المباشرة – direct democracy…  وعلى الرغم من ذلك، يبقى أن يكتشف المرء فيهم جميعا نفس جوهر المبادئ: اللامركزية، الانضمام التطوعي للجمعيات، المعونة المتبادلة، نموذج شبكات العمل، وفوق كل شيء، نبذ فكرة أن الغاية تبرر الوسيلة، بل وإهمال فكرة أن شغل الفرد الثوري الشاغل هو الاستيلاء على سلطة الدولة ثم يتلوه، بعد ذلك، البدء في فرض رؤيتهم بقوة السلاح.  فوق كل شيء، الأناركية، كأخلاقيات للممارسة العملية – وقد تطورت لتصبح الفكرة بناء مجتمع جديد “من داخل قشرة القديم” – هي الإلهام الأساسي “لحركة الحركات” (المؤلفان جزء منها)، التي هي من البدء اقل تركيزا على مسألة الاستيلاء على سلطة الدولة منها على مسألة فضح، ونزع شرعية، وتفكيك آليات الحكم؛ مع الظفر بمساحات أوسع فأوسع من التسيير الذاتي والإدارة بالمشاركة داخل هذه المساحات.

 

 

توجد أسباب واضحة لجاذبية الأفكار الأناركية عند مطلع القرن الواحد وعشرين: أكثرها وضوحا، هو السقوط والكوارث التي لحقت بعدد كبير جدا من تجارب القرن العشرين التي استهدفت هزيمة الرأسمالية بالاستيلاء على جهاز الحكم.  بدأ عدد كبير من الثوريين إدراك أن “الثورة” لن تأتي كلحظة عظيمة أسطورية القداسة، مماثلة للاجتياح الهائل لقصر الشتاء [في الثورة السوفييتية – المترجم] مثلا، ولكنها عملية طويلة جدا استمرت وتستمر معظم فترات التاريخ الإنساني (حتى ولو أنها مثل بعض الامور قد تتسارع بعد تلكؤ) ذاخرة باستراتيجيات الانطلاق في حشود واستراتيجيات المراوغة في المكان مثلها في ذلك كمثل كل المواجهات الهائلة، والتي هي، في الواقع، لن ويجب ألا تصل إلي نقطة نهاية محددة، ذلك هو اعتقاد كل الأناركيين.

انه شيء يثير الارتباك قليلا، ولكنه يمنح عزاءا هائلا: لسنا مضطرين للانتظار إلى أن “تحدث الثورة” حتى يسطع علينا وميض الحرية المنشودة.  فكما يقول التعاونيون الكرايمثنيك – Crimethinc، أعظم دعاة الأناركية الأمريكية المعاصرة: “تتحقق الحرية فقط في لحظة الثورة.  وهذه اللحظات ليست نادرة الحدوث كما تعتقد.”   واقعيا، محاولة خلق تجارب غير مغتربة، تجارب ديموقراطية حقيقية، بالنسبة للأناركي، هي أمر أخلاقي لازم؛ وذلك يتحقق فقط عن طريق صنع شكل التنظيم الخاص بالمرء في الزمن المعاش، محاكيا بصورة تقريبية على الأقل، لما يمكن أن يكون عليه المجتمع الحر في المستقبل، وعلى الصورة التى يكون كل شخص، في يوم من الأيام، قادرا على أن يحياها، بشرط أن يكون قادرا على أن يضمن إن ذلك الشكل التنظيمي لن يؤدي إلى الانتكاس مسببا كارثة.  الثوار العابسون الفاقدون لروح المرح الذين يضحون بكل المتع من اجل القضية لا يستطيعون سوى إنتاج مجتمعات عابسة خالية من المرح.

من الصعب توثيق هذه المتغيرات لان الأفكار الأناركية تكاد لا تجد أي اهتمام أكاديمي لهذا الحد.  لا يزال الآلاف من الأكاديميين ماركسيون، ولكن لا يوجد تقريبا أكاديميا أناركيا واحدا.  هذه الفجوة من الصعب تفسيرها.  فهي تعود في جانب منها، بلا شك، إلى خاصية انجذاب الماركسية الدائم نحو الأكاديمية بينما تفتقد الأناركية لذلك الميل بشكل واضح: الماركسية، رغم كل شيء، الحركة الاجتماعية الكبيرة الوحيدة التي ابتدعت علي يد حامل لدرجة الدكتوراة – Ph.D.    تفترض معظم بيانات تاريخ الأناركية أنها كانت مماثلة جوهريا للماركسية: برزت الأناركية كبنات أفكار لعدد معين من مفكري القرن التاسع عشر (برودون، وباكونين، وكروبتكين…) ، واستمرت حينئذ في الهام منظمات الطبقة العاملة، ودخلت في نسيج النضالات السياسية وانقسمت إلى شيع…

في الحسابات المعتادة، تأتي الأناركية عادة، كابن عم الماركسية الأكثر فقرا، نظريا مصابة بداء الفلات فوت الذي يعوق سيرها؛ ولكن يقف العقل أمامها متدبرا، ربما، لحماسة عواطفها وإخلاصها.  حقا المقارنة متكلفة.  لم يعتقد “مؤسسو” الأناركية في أنفسهم انهم يبتكرون شيئا جديدا على نحو خاص.  لقد رأوا في مبادئها الجوهرية – المعونة المتبادلة، والاشتراك التطوعي في الجمعيات، والأنصبة المنصفة في عملية صنع القرار – أنها مبادئ قديمة قدم البشرية.  وهو نفس الشيء مع فكرة نبذ الدولة وكل أشكال العنف الهيكلي، وعدم المساواة، والسيطرة (الأناركية تعني حرفيا “بدون حكام”) – حتى الافتراض بأن كل هذه الأشكال هي على نحو ما على علاقة ببعضها البعض ويدعم كل منها الآخر.  لم ير احد في أي منها [المبادئ الجوهرية للأناركية] كما لو أنها مذهب جديد مذهل، ولكنها ميل طويل الأمد ومستمر في تاريخ الفكر الإنساني، وأمر لا يمكن سجنه في نظرية عامة من الأيديولوجية.

على احد مستوياتها، الأناركية هي نوع من الإيمان: هي الاعتقاد بان معظم أشكال عدم المسئولية، التي تبدو أنها تجعل من وجود السلطة ضرورة، هي في الحقيقة مؤثرات يتسبب وجود السلطة نفسه في حدوثها.  في الممارسة العملية، برغم أنها محل تساؤل مستمر، الأناركية هى جهد موجه لتعريف كل علاقة للقهر أو كل تراتب هرمي كهنوتي في المعيشة الإنسانية، وهي تحد لهذه العلاقات حتى تبرر وجودها، وإذا لم تستطع – كما هي الحالة دائما – تصبح جهدا لتقليص مدى نفوذ هذه العلاقات وهكذا تفسح المجال للحرية الإنسانية.  بالضبط كما يقول الرجل الصوفي أن الصوفية هي لب الحقيقة وراء كل الأديان، منطق الأناركي في الجدل أن الأناركية هي السعي الحثيث من اجل الحرية وراء كل الأيديولوجيات السياسية.

لدى مدارس الماركسية دائما مؤسسون.  وبالضبط، كما أن الماركسية انبثقت من عقل ماركس، فهكذا لدينا اللينينيون Leninists، والماويون Maoists، والالتوسيريون Althusserians… (لاحظ كيف أن القائمة تبدأ برؤساء الدول وتتدرج بلا فواصل حتى تصل إلى أساتذة الجامعات الفرنسيين – الذين بدورهم يستطيعون توليد شيعهم الخاصة: لاكانيون Lacanians، وفوكوديون Foucauldians…)

مدارس الأناركية على العكس، تنبثق من بعض أشكال المبادئ التنظيمية أو أشكال الممارسة العملية: النقابيون الأناركيون Anarcho-Syndicalists، الأناركيون الشيوعيون Anarcho-Communists ، والانتفاضويون Insurrectionists ، والبرنامجيون Platformists ، والتعاونيون  Cooperatives ، والمجالسيون  Councilists ، والفردويون Individualists وهكذا دواليك.

يتمايز الأناركيون بما يفعلونه، وكيف ينظمون أنفسهم من اجل القيام بتنفيذه.  وفعلا هذا ما قد ينفق الأناركيون جل وقتهم في التفكير والجدل حوله.  انهم لا يهتمون كثيرا بمناقشة نوعية القضايا الاستراتيجية أو الفلسفية العريضة، تلك التي تحتل تفكير الماركسيين مسبقا، مثل: هل الفلاحون طبقة ثورية محتملة؟  (الأناركيون يعتبرون أن هذا السؤال يقرر الفلاحون إجابته بأنفسهم) أو ما هي طبيعة شكل السلعة؟  فضلا عن انهم يميلون إلى الجدل حول ما هي الطريقة الديموقراطية حقا لعمل اجتماع، وعند أي نقطة يتوقف التنظيم عن تمكين الناس ويبدأ في إسكات الحرية الفردية.  هل القيادة أمر سيء بالضرورة؟  أو، على نحو آخر، حول أخلاقيات معارضة السلطة: ما هو العمل المباشر؟  هل يجب أن يدين المرء شخصا آخر اغتال رأس الدولة؟  متى نقول نعم لرمي الحجارة؟

مالت الماركسية، من ثم، لتكون حوارا نظريا أو تحليليا حول الاستراتيجية الثورية.  والانا ركية تميل لأن تكون حوارا أخلاقيا حول الممارسة الثورية.  كنتيجة، وحيث أنتجت الماركسية نظريات لامعة لنماذج الممارسة العملية، غالبا ما كان الأناركيون هم الذين قاموا بتنفيذ تلك التطبيقات نفسها.

في هذه اللحظة، يوجد نوع ما من التمزق بين أجيال الأناركية: بين أولئك الذين تشكلوا سياسيا أثناء الستينات والسبعينات – الذين لم يحطموا قواعد العادات الحلقية المنغلقة للقرن الماضي – أو ببساطة الذين ما زالوا يعملون في ظل نفس هذه الشروط، وبين النشطاء الأكثر شبابا الذين لديهم الخبرة الأكبر، من بين عناصر اخرى، بقضايا السكان الأصليون، وقضايا المرأة، وقضايا التوازن البيئي والثقافات الحاسمة.  ينتظم الفريق الأول بشكل رئيسي من خلال اتحادات فيدرالية أناركية ذات وجود ظاهر جدا مثل IWA, NEFAC, IWW.  الجيل الجديد يعمل بشكل أكثر وضوحا في شبكات عمل الحركة الاجتماعية الكوكبية، شبكات عمل مثل العمل الكوكبي للشعوب، التى توحد تعاونيات الأناركيين في أوروبا وفي الأماكن الأخرى مع جماعات تتنوع من نشطاء الماوري في نيوزيلندا، وأهالي الصيادين في اندونيسيا، أو نشطاء النقابة الكندية لعمال البريد (2).  الأخيرون – ما قد يشار إليهم على نحو عام “بحرف الـ a الصغير”، هم الأغلبية الآن وبشكل كاسح.  ولكن في بعض الأحيان يكون من الصعب اكتشافهم، حيث أن العديد منهم لا يصخبون بالإعلان عن انتماءاتهم عاليا.  انهم كثيرون.  فى الواقع، الذين يأخذون المبادئ الأناركية في معاداة الحلقية ويتبعون مبدأ الغايات اللانهائية على محمل خاص من الجد، يصلون إلى الدرجة التي يرفضون عندها الإشارة إلى أنفسهم ’كأناركيين‘ ولنفس هذا السبب بالذات. (3)

ولكن الأمور الجوهرية الثلاث التي تسري في كل ظاهرات الأيديولوجية الأناركية تتواجد عندهم وبشكل محدد – معادة الدولة، معاداة الرأسمالية، السياسات المجازية prefigurative (أي أنماط التنظيم التي تتمثل عن وعي العالم الذى تريد خلقه.)  أو، كما قد صاغها احد المؤرخين الأناركيين للثورة في أسبانيا “جهد فكري ليس فقط في مجال الأفكار ولكن في حقائق المستقبل نفسه”. (4)   وترى هذا موجودا في أي شيء، من أول تعاونيات مربى الفاكهة حتى موقع الإعلام البديل على الانترنت INDYMEDIA.ORG، كل منهم نستطيع تسميتهم أناركيون بالمعنى الحديث للكلمة. (5)   في بعض البلاد، هناك درجة محدودة جدا من الالتقاء في نقطة أو اخرى بين الجيلين المتجاورين، غالبا ما تأخذ صورة متابعة الآخر لما يفعله كلا منهم – ولكن لا شيء أكثر من ذلك.

احد الأسباب هو أن الجيل الحديث يهتم كثيرا جدا بتطوير أشكال جديدة من الممارسة أكثر من الجدل حول النقاط الأكثر تفصيلا في الأيديولوجية.  والذي يترك انطباعا أعظم في النفس هو تطويرهم للأشكال الجديدة في عملية اتخاذ القرار، وهي على الأقل بدايات ثقافة بديلة للديموقراطية.  المجالس المفصلية الشهيرة في أمريكا الشمالية، حيث ينسق فيها آلاف النشطاء الأحداث الجماهيرية الضخمة عن طريق الاتفاق بالإجماع، وبدون هيكل قيادة رسمي، تبرز كأكثر الأشكال مدعاة للإعجاب.

وفعليا، حتى إطلاق وصف “الجديد” على هذه الأشكال قد يكون مخادعا إلى حد ما.  مقاطعات الزاباتيستا المدارة ذاتيا في شياباس، هي واحدة من مصادر الإلهام الكبرى للجيل الجديد من الأناركيين، وهي تقوم في المجتمعات المحلية الناطقة بلغة التزلتال والتوجولوبال، تلك المجتمعات التي كانت تستخدم عملية الاتفاق بالإجماع في اتخاذ القرار لآلاف السنين – والآن فقط اعتمد الثوار هذه العملية ليضمنوا للنساء وصغار السن أصوات بنسبة عادلة.  في أمريكا الشمالية، نشأت “عملية الإجماع” من الحركات النسوية في السبعينات أكثر من أي شيء آخر، كجزء من رد فعل عام عريض على نمط فحولة القيادة الذكورية الذي ساد اليسار الجديد في الستينات.  فكرة الإجماع ذاتها تم استعارتها من جماعات الكويكرز، الذين بدورهم، يقولون انهم استلهموها من ’الأمم الستة‘ وممارسات سكان أمريكا الأصليين.

غالبا ما يساء فهم الإجماع.  فكثيرا ما يسمع المرء ناقدين يدعون أن الإجماع سوف ينتج نمطية خانقة ولكن بالكاد لا يلحظ ذلك احد ممن شاهدوا فعليا الإجماع وهو يبنى في الممارسة العملية، على الأقل، وهي في ظل توجيه من ميسَرين facilitators مدربين ذوي خبرة (تبدو بعض التجارب الحديثة في أوروبا، حيث تندر مثل هذه التقاليد، ساذجة لدرجة ما).  في الحقيقة، الافتراضية الفاعلة وراء ذلك هي انه لن يستطيع احد بشكل حقيقي تحويل الآخر بشكل كامل إلى وجهة نظره هو، أو بمعنى اصح عليه ألا يحاول ذلك.  البديل، بيت القصيد في عملية الإجماع هي أن تسمح لجماعة باتخاذ قرارها في مجرى عام من الحركة.  فبدلا من التصويت على الاقتراحات صعودا وهبوطا، يتم تحليل الاقتراحات وإعادة تحليلها، وصنفرتها وإعادة تركيبها، أي أن هناك عمليات مساومة وتخليق تتم، حتى ينتهي الواحد منا إلى أمر ما يستطيع كل فرد منا أن يعيش به.

عند الوصول إلى المرحلة النهائية، التي هي فعليا “مرحلة اكتشاف الإجماع”، هناك مستويان محتملان للاعتراض: يستطيع المرء أن يعلن “أنا اتنحى جانبا”، وهو ما يعني “أنا لا يعجبني هذا ولن أشارك ولكنني لن أعرقل أحدا يفعله”، أو “المعارضة block”، التي لها نفس تأثير الفيتو.  يستطيع الفرد أن يعترض فقط إذا ما شعر أن الاقتراح المقدم ينتهك المبادئ أو الأسباب الجوهرية لكونه عضو في الجماعة.  يستطيع المرء أن يقول أن الوظيفة التي يحيلها الدستور الأمريكي للمحاكم، بإسقاط القرارات التشريعية التي تنتهك المبادئ الدستورية، نفس هذه الوظيفة تحال هنا لأي شخص لديه الشجاعة ليقف فعليا ضد الإرادة المشتركة للجماعة (رغم أن هناك بالطبع طرق لمواجهة المعارضات غير المبدأية).

يستطيع المرء أن يستمر في التحدث على هذا المنوال عن الأساليب المدهشة العالية التكنيك لدرجة الكمال التي تم تطويرها لتأمين كل هذا العمل؛ عن أشكال تحقيق الإجماع المعدل المطلوب بين الجماعات العديدة كبيرة العضوية؛ عن الطريقة التي يدعم بها الإجماع نفسه اللامركزية حيث يضمن ألا يرغب احد في طرح مقترحاته أمام الجماعات الواسعة إلا إذا كان يضمن المساواة بين النوع داخله ويضمن كذلك حل المنازعات…  النقطة هي أن هذا هو شكل من أشكال الديموقراطية المباشرة التي هي نوع مختلف تماما عما نربطه عادة بالمصطلح – أو، بالنسبة لهذه النقطة، تختلف في نوعها عن نظام تصويت الأغلبية المتبع عادة عند الأجيال الأولى للأناركية الأوروبية أو أناركية أمريكا الشمالية، أو كالتي تستخدم مثلا في مجالس الطبقة الوسطى المدينية بالأرجنتين – asambleas، (بالرغم من أنها ليست الطريقة المستخدمة بواسطة الجماعات الأكثر راديكالية – piqueteros ، ومنظمات العاطلين عن العمل، الذين يميلون إلى العمل بواسطة الإجماع.)   بمزيد من الاتصال بين الحركات المختلفة دوليا، وانضمام جماعات السكان الأصليين والحركات من أفريقيا واسيا والاوقيانوس بتقاليدهم الراديكالية المختلفة، نرى بدايات إعادة صياغة عالمية لمفاهيم جديدة عن ماهية “الديموقراطية” التي يجب أن نعنيها، ديموقراطية بعيدة كل البعد بأقصى ما نستطيع عن البرلمانية النيوليبرالية التي تروج لها القوى العظمى العالمية حاليا.

مرة اخرى، من الصعب تتبع هذه الروح الجديدة من الخلق والتركيب بقراءة اغلب الأدبيات الأناركية الموجودة، لان هؤلاء الذين ينفقون معظم طاقاتهم في المسائل النظرية، بدلا من صنع الأشكال الناشئة للممارسة العملية، هم على الأغلب الناس الذين يحافظون على المنطق الانقسامي الحلقي القديم.  الأناركية المعاصرة مطبوعة بتناقضات تفوق الحصر.  فبينما ترتبط الجماعات الصغيرة – a، ببطء شديد بالأفكار والممارسات المستلهمة من حلفائها السكان الأصليين وتضمها لأسلوبها التنظيمي أو مجتمعاتها المحلية البديلة، تكون العلامة الرئيسية في الأدبيات المكتوبة هي ظهور طائفة البدائيون – Primitivists، تلك العصبة شريرة المحتوى التي تدعو إلى الإلغاء التام للحضارة الصناعية، وحتى في بعض الأحيان إلغاء الزراعة أيضا. (6)   يبقى بعض زمن، وهي مسألة وقت، قبل أن يخلي هذا القديم أو على الاحرى هذا المنطق الطريق لشيء أكثر قربا من ممارسات الجماعات التي تقوم على أساس الإجماع.

ما هو الشكل الذي قد يكون عليه هذا التركيب الجديد؟  بعض الملامح يمكن رصدها خلال الحركة الحالية.  ذلك أنها سوف تصر على التوسيع الدائم لبؤرة اللا سلطوية، وتبتعد عن النظرة الطبقية الضيقة بمحاولة الاحاطة “بكلية التسلط والسيادة”، بمعنى، تسليط الضوء ليس على الدولة وفقط، ولكن على علاقات النوع أيضا، وليس على الاقتصاد فقط، ولكن أيضا على العلاقات الثقافية وعلى التوازن البيئي، والجنس، والحرية في كل صور يمكن أن تصل إليها، وكل من هذه الصور سوف ينظر اليها ليس من خلال المنظور الوحيد لعلاقات السلطة، ولكن أيضا من خلال معرفة بالمفاهيم الأغنى والأوسع والأكثر تنوعا.

هذا التوجه لا ينادي بالتوسع اللانهائي للإنتاج المادي، أو يتبنى موقف أن التكنولوجيا محايدة، ولكنه أيضا لا يقف ضد التكنولوجيا في حد ذاتها.  بدلا من ذلك، انه سوف يألف ويستعمل أنواع شتى من التكنولوجيا بما يناسب.  انه، لا يشجب فقط المؤسسات في حد ذاتها، أو الأشكال السياسية لذاتها، انه يحاول وضع تصورات لمؤسسات جديدة وأشكال سياسية جديدة للعمل ومن اجل المجتمع الجديد، متضمنة أساليب جديدة للاجتماعات، وأساليب جديدة لصنع القرار، وطرق جديدة للتنسيق، على نفس الخطوط التي تسير عليها توا مع الجماعات المؤتلفة – affinity groups وهياكل المفصلة – spokes councils.

أنها لا ترفض الإصلاحات لذاتها وفقط، ولكنها تحدد وتنتصر لإصلاحات غير إصلاحية، تلبي الاحتياجات المباشرة للناس، وتحسن من ظروف حياتهم في المكان والزمان في نفس الوقت الذي تتحرك فيه نحو مزيد من المكاسب، وواقعيا، نحو التغيير الكلي الشامل. (7)

وبالطبع على النظرية أن تلاحق الممارسة العملية وتسير معها.  على الأناركية المعاصرة أن تتضمن، حتى تصبح ذات فاعلية كاملة، ثلاثة مستويات على الأقل: النشطاء العمليون، منظمات الشعب، والباحثين.  فى اللحظة الراهنة المشكلة هي مع المثقفين الأناركيين الذين يريدون السير لأبعد من الطراز القديم، لأبعد من عادات الطليعة – العادات القديمة الانعزالية للماركسية التي ما زالت تحوم كثيرا على عالم المثقفين الراديكاليين بشبحها- وهم على غير يقين بالمفترض أن يكون عليه دورهم.

تحتاج الأناركية لأن تصبح ذات قدرة على الاستجابة.  ولكن كيف؟  على احد المستويات تبدو الإجابة واضحة.  يجب ألا يلقي المرء محاضرات، وألا يملي مواقف، ولا حتى يفكر بالضرورة في نفسه على انه أستاذ، ولكنه يجب أن يصغي، ويجب أن يسبر عمق الأشياء، وان يكتشف.  أن يثير الأسئلة ويكشف المنطق الضمني للأشياء المميزة لأشكال الممارسة الراديكالية الجديدة.  أن يضع نفسه في خدمة النشطاء عن طريق تزويدهم بالمعلومات، أو بواسطة فضح مصالح النخبة المسيطرة التي تدارى بعناية خلف الخطاب المفترض انه موضوعي ومسئول، بدلا من فرض نسخة اخرى من نفس الخطاب.  ولكن فى نفس الوقت يدرك معظم الناس أن كفاح المثقفين يحتاج إلى إعادة تأكيد لمكانه.  يبدأ الكثيرون في الإشارة إلى واحد من مواطن الضعف الأساسية في الحركة الأناركية اليوم، منسوبة إلى زمن، فلنقل، كروبتكين أو ركليوز أو هربرت ريد، وهو بالضبط إهمال المثال، إهمال الرؤية، وهو التغاضي عن فعالية النظرية.  كيف تنتقل من العمل بمفاهيم علم السكان إلى العمل تحت هدى مفاهيم اليوتوبيا – نموذجيا إلى رؤى طوباوية كثيرة بقدر الإمكان؟  إنها بالكاد لمصادفة أن يكون بعض من أعظم الماهرين في الإقناع بالانضمام إلى صف الأناركية في بلاد مثل الولايات المتحدة هم كاتبات خيال علمي من الحركة النسوية مثل ستارهوك واورسولا ك. لوجوين (8)

احد الطرق ليتحقق ذلك هو ما يتم والأناركيون يستردون لأنفسهم خبرات الحركات الاجتماعية الأخرى التي تحمل نظرية، وأفكار أكثر تماسكا مستمدة من الدوائر القريبة من، والتي هي فعلا مستلهمة من، الأناركية.  ولنأخذ مثالا من فكرة اقتصاد المشاركة، والتي تمثل رؤية اقتصادية أناركية متكاملة الأركان والتي تضيف إلى، وتصحح تقاليد أناركية اقتصادية.  منطق منظري “الباريكون” يقول بوجود ليس فقط مجرد طبقتين رئيسيتين في الرأسمالية المتقدمة ولكن يوجد فيها ثلاث طبقات رئيسية: ليس فقط البروليتاريا والبرجوازية، ولكن أيضا “طبقة المديرين – coordinator class ” التي يكون دورها هو الإدارة والمتابعة والإشراف على عمل الطبقة العاملة.  هذه هي الطبقة التي تتضمن مراتب الإدارة العليا والمستشارين والخبراء المتخصصين الذي يتمحور حولهم نظام السيطرة – كالمحامين والمهندسين الاستشاريين والمحاسبين، وهكذا.  انهم يحافظون على وضعهم الطبقي نتيجة احتكارهم للمعرفة والمهارات والعلاقات.  كنتيجة لذلك، يحاول الاقتصاديون والآخرون أصحاب هذه الأفكار خلق نماذج لاقتصاد يقوم نظامه الهيكلي على إنهاء التقسيم القائم بين العمل الذهني والعمل البدني.

والآن حيث أصبحت الأناركية بشكل واضح محور الإبداع الثوري، أنصار مثل هذه النماذج وبشكل متزايد، إذا لم يكونوا في حالة التفاف حول العلم، فهم بالضبط، من ثم على الأقل، يشددون على الدرجة التي تتفق فيها رؤيتهم مع الأفكار الأناركية. (9)

ولقد بدأت تحدث أيضا أشياء مماثلة على صعيد تطور الرؤية السياسية للأناركية.

الآن، في هذه المساحة تتقدم الأناركية الكلاسيكية فعلا بخطوات على الماركسية الكلاسيكية، التي لم تقم أبدا بتطوير نظرية للتنظيم السياسي على الإطلاق.  دافعت مدارس أناركية مختلفة في غالب الأحيان عن أشكال نوعية جدا من التنظيم الاجتماعي، ولو أنها غالبا متباينة جدا عن احدها الآخر بشكل ملحوظ.  ويبقى، أن الأناركية قد مالت ككل لتقديم المفهوم الذي يحب الليبراليون تسميته “بالحريات السلبية”، ’شكل الحريات‘، أكثر من مفهوم ’الحريات إلى‘ الواقعي.  وغالبا ما يحتفل الأناركيون بهذا الالتزام كدليل على تعددية الأناركية، وعلى تسامحها الايديولوجي، أو قدرتها على الإبداع.  ولكن نتيجة ذلك، كانت النفور من الذهاب إلى ابعد من تطوير إشكال تنظيمية صغيرة الحجم، واعتقاد بأن إشكال التنظيم الأكبر حجما، والأكثر تعقيدا، يمكن ارتجالها فيما بعد في نفس الإطار.

وقد حدثت استثناءات.  حاول بيير جوزيف برودون أن يقدم رؤية شاملة لكيفية عمل مجتمع تحرري. (10)   وهي الرؤية التي اعتبرت عموما أنها فشل كامل، ولكنها دلت على الطريق لرؤى أكثر تطورا، على شاكلة رؤية أنصار التوازن البيئي الاجتماعي الأمريكيين الشماليين “المقاطعات التحررية – libertarian municipalism”.  هناك عملية حيوية لتطوير، على سبيل المثال، كيفية إيجاد توازن بين مبادئ سيطرة العمال – التي يشدد عليها أنصار الباريكون – والديموقراطية المباشرة، التي يشدد عليها أنصار التوازن البيئي الاجتماعي. (11)

وما تزال هناك تفاصيل كثيرة يجب أن تقرر مثل: ما هي المجموعة الكاملة للبدائل المؤسسية الايجابية التي يتبناها الأناركيون تجاه المؤسسات التشريعية الراهنة، والمحاكم، والبوليس، والأجهزة التنفيذية العديدة؟  كيف نقدم رؤية سياسية تشمل التشريع، والتنفيذ، وإصدار الأحكام، وسلطة تنفيذ الأحكام، وان تشرح هذه الرؤية كيف يمكن تحقيق كل ما سبق ذكره بفعالية وبطريقة غير سلطوية – وليس عن طريق منح أمل طويل الأمد، ولكن عن طريق إعلامنا بالإجابات الفورية على نظامنا الحالي الانتخابي، والتشريعي، والقضائي، والشرطي، ونظام المحاكم، وهكذا، إعلامنا بخيارات استراتيجية كثيرة.  من الواضح انه لا يمكن وجود خط سياسي حزبي أناركي يتعلق بذلك أبدا، على الأقل، فالشعور العام بين منظمات الأناركيين الصغيرة حرف- a، هو إننا في حاجة لرؤى ملموسة عديدة.  وما يزال العمل في بدايته، ما بين التجارب الاجتماعية الفعلية داخل المجتمعات المحلية المدارة ذاتيا في أماكن مثل شياباس والأرجنتين، وبين الجهود التي يبذلها نشطاء/مثقفين مثل الشبكات المشكلة حديثا مثل منتديات شبكة البدائل الكوكبية – Planetary Alternatives Network، والحياة بعد الرأسمالية – Life After Capitalism، الذين يراكمون نماذج اقتصادية وسياسية ناجحة. (12)  من الواضح أنها عملية طويلة الأمد.  ولكن القرن الأناركي، اليوم، قد شرع فقط في بدايته.

 

——————————————————————————–

ديفيد جريبر، أستاذ مساعد بجامعة يال في الولايات المتحدة وناشط سياسي.  أندريه جروباتشيك، مؤرخ وناقد اجتماعي من يوغوسلافيا.  كلاهما يشترك فى شبكة البدائل الكوكبية (PAN).

 

(1)   هذا لا يعني أن الأناركيين يجب أن يكونوا ضد النظرية.  ربما انهم لا يحتاجون إلى نظرية عليا، بالمعنى المتعارف عليه اليوم.  من المؤكد انهم لا يحتاجون نظرية أناركية عليا واحدة.  ذلك سوف يكون مناقضا لروح الأناركية.  أفضل كثيرا، كما نعتقد، هو شيء ما، لصيق بروح عمليات صنع القرار الأناركية: إذا ما طبقناه على موضوع النظرية، فهذا يعني القبول بحاجتنا إلى تعدد المنظور النظري الأعلى، يوحد بينهم فقط فهم والتزامات مشتركة محددة.  فبدلا من مناظير نظرية عليا تقوم على أساس الحاجة لبرهنة خطأ افتراضات الجانب الآخر الجوهرية، فإنها تبحث عن اكتشاف مشاريع معينة يدعم بها كل منهم الآخر.  وليس لمجرد أن النظريات المختلفة غير قابلة للقياس بمعايير واحدة من عدة زوايا، فلا يعني ذلك انه من غير الممكن تعايشهم معا أو دعم وجود احدهم للآخر، وهذا لا يعني شيئا أكثر من حقيقة أن كل الأشخاص لديهم رؤى فريدة عن العالم وأيضا غير قابلة للقياس، ولا يعني ذلك انهم لا يستطيعون أن يكونوا أصدقاء، أو محبين، أو يعملون معا في مشاريع مشتركة.  والأكثر من النظرية العليا، ما تحتاجه الأناركية هو ما يمكن أن يسمى بنظرية دنيا: تستقر مع هذه الأسئلة الحقيقية المباشرة التي تنشأ من مشروع التغيير.

(2)    لمزيد من المعلومات حول التاريخ المثير لشبكة العمل الكوكبي للشعوب، نقترح كتاب “نحن في كل مكان”: المد الذي لا يقاوم ضد الرأسمالية الكوكبية.  شاهد أيضا موقعهم: www.agp.org

(3)   مقالة ديفيد جريبر “الأناركيون الجدد”، نيو لفت ريفيو، عدد يناير/فبراير 2002.

(4)   انظر دييجو عباد ده سانتيلان، بعد الثورة، نيويورك، 1937.

(5)  لمزيد من المعلومات قم بزيارة موقعهم   www.indymedia.org:

(6)   راجع جيسون ماكوين، “لماذا أنا لست من دعاة البدائية”، صحيفة الرغبة المسلحة.  موقع: www.arnarchymag.org وراجع أيضا، جون زيرزان، البدائية المستقبلية ومقالات اخرى، Autonomedia، 1994.

(7)   راجع أندريه جروباتشيك، نحو أناركية اخرى، فى كتاب سن جاي، وانيتااناند، وارتورو اسكوبار وبيتر واترمان، المنتدى الاجتماعي العالمي: ضد كل الإمبراطوريات، نيودلهي: فيفكا 2004.

(8)     www.starhawk.orgراجع ستارهوك، شبكات القوة: ملاحظات عن الانتفاضة الكوكبية، سان فرانسيسكو 2002.  انظر أيضا

(9)   مايكل ألبرت، اقتصاد المشاركة، فرسو، 2003. انظر أيضا: www.parecon.org

(10)   شلومو افينيري، الفكر السياسي والاجتماعي عند كارل ماركس. لندن: دار نشر جامعة كمبريدج، 1968.

(11)   انظر،   Murray Bookchin Reader ، تحرير جانيت بيهل، لندن كاسل 1997.              انظر موقع معهد الايكولوجي الاجتماعي: www.social-ecology.org

(12)   لمزيد من المعلومات عن الحياة بعد الرأسمالية: http://www.zmag.org/lacsite.htm