Category Archives: عربی

كوميونة باريس وفكرة الدولة

بقلم: ميخائيل باكونين

ترجمة: احمد زكي

هذا العمل مثل كل اعمالي التي نشرتها، وهي ليست بالكم الكبير، عمل اكتبه بسبب احداث وقعت. انه استمرار طبيعي لعملي الاخير، “رسائل الى رجل فرنسي” (سبتمبر ١٩٧٠)، الذي امتلكت فيه وضوحا بسيطا ولكنه مؤلم حين استشرفت وتنبأت بالمصائب الخبيثة التي تضرب فرنسا الان وكل العالم المتحضر، والتي لن يكون لها علاج سوى الثورة الاجتماعية.
هدفي الان هو البرهان على ضرورة مثل هذه الثورة. سوف اقوم بمراجعة التطورات التاريخية للمجتمع ومراجعة ما يحدث الان في اوروبا، مراجعة ما يقع امام انظارنا مباشرة. وبذلك كل هؤلاء المتعطشين باخلاص للحقيقة يمكنهم ان يقبلوا بهذه التطورات ويجمعون على النداء علنا بالمبادئ الفلسفية والاهداف العملية التي تشكل جوهر ما نسميه الثورة الاجتماعية.
انا اعرف ان المهمة التي عينتها بنفسي وفرضتها على نفسي ليست بالمهمة البسيطة. ربما يصفونني بالتهور في حالة اذا ما كانت لي اي دوافع شخصية في الاضطلاع بهذه المهمة. دعني اؤكد لقارئي، انني لا امتلك اي دوافع خفية. لست دارسا ولا فيلسوفا، ولا حتى كاتب محترف. أنا لم اقم بكتابة الكثير خلال حياتي ولم اكتب ابدا سوى دفاعا عن النفس، وفقط عندما تجبرني قناعات شديدة على الكتابة حتى اتغلب على كراهية فطرية داخلي ضد اي نوازع استعراضية.
حسنا، اذا، من انا، وما الذي يدفعني لنشر هذا العمل في هذا الوقت؟ انا باحث يمتلئ حماسا من اجل الحقيقة، وانا عدو مرير للاساطير الشريرة التي يستخدمها النظام القائم – نظام يربح من كل الزيف المفضوح الاجتماعي والاقتصادي والتشريعي والسياسي والميتافيزيقي والديني لكل الازمان – لترويع واستعباد العالم. انا عاشق متعصب للحرية. انا اعتبر ان الحرية هي البيئة الوحيدة التي يمكن ان تحيا فيها الالمعية والكرامة والسعادة البشرية وان تتطور فيها. انا لا اعني الحرية الشكلية التي تصرفها لنا الدولة بقدر وتقيدها باللوائح والقوانين؛ هذه الحرية هي كذبة مستمرة من سنة لسنة ولا تمثل شيئا سوى امتياز للقلة، امتياز يقوم على اساس عبودية البقية الباقية من الناس. ولا انا اعني بها الحرية المخادعة، المتخلفة النرجسية الفردية التي تدعو لها مدرسة جان جاك روسو وكل مدرسة اخرى من مدارس الليبرالية البرجوازية، والتي تعتبر حقوق الجميع، ممثلة في الدولة، حدودا لحقوق كل منا؛ فهي دائما، وبالضرورة تنتهي الى ان تختزل حقوق الافراد الى صفر. لا، انا اعني الحرية الوحيدة الجديرة بالاسم، الحرية التي تملي ضرورة التنمية الكاملة لكل الطاقات المادية والفكرية والاخلاقية الكامنة في كل واحد منا؛ الحرية التي لا تعرف اي قيود اخرى سوى تلك القيود التي صنعتها قوانين طبيعتنا الخاصة. وبالنتيجة، اذا ما تكلمنا بشكل سليم، لا توجد قيود، حيث ان تلك القوانين لا يفرضها علينا اي مشرع من خارجنا، او مشرع من بيننا، او مشرع من فوقنا. تلك القوانين هي قوانين ذاتية، موروثة فينا؛ فهي تؤسس القاعدة نفسها التي يقوم عليها بناء وجودنا ذاته. بدلا من السعي لاخفاء هذه القوانين، يجب ان نرى فيها الشرط الحقيقي والسبب الفعال لحريتنا – تلك هي حرية كل رجل لا يرى في حرية كل رجل اخر حدودا لحريته، ولكنه يراها بوصفها تأكيدا وامتدادا شاسعا لحريته؛ الحرية من خلال التضامن، الحرية في المساواة. اعني الحرية المنتصرة على القوة الوحشية، وما كان دائما تجسيدا لمثل هذه القوة، مبدأ السلطة. اعني الحرية التي سوف تحطم كل المعبودات في السماء وكل المعبودات على الارض فتحيلهم حطاما وركاما متناثرا ومن ثم تبني عالما جديدا للبشرية في التضامن، على انقاض كل الكنائس وكل الدول.

انا محامي شديد الاقتناع يدافع عن المساواة الاقتصادية والاجتماعية لانني اعرف انه، دون تلك المساواة، رفاهية الافراد واخلاقياتهم، وكرامتهم الانسانية، والعدالة والحرية، اضافة الى ازدهار الامم، لن تصل ابدا الى اكثر من كومة من الاكاذيب. ولكن حيث اني اقف من اجل الحرية كشرط اولي للبشرية، انا مؤمن ان المساواة يجب ان تؤسس في العالم بواسطة التنظيم التلقائي للعمال والملكية الجماعية للاصول عن طريق جمعيات المنتجين المنظمة بشكل حر وعن طريق فدراليات الكوميونات التلقائية بشكل متساو، لتحل مكان الدولة الابوية ذات السطوة الاستثناءية.
عند تلك النقطة ينشأ انقسام جوهري بين الاشتراكيين ومعهم انصار الجماعية (collectivists) الثوريين، في جانب، وبين الشيوعيين السلطويين الذين يدعمون سلطة الدولة المطلقة في الجانب الآخر. هدف كل منهما النهائي يتطابق تماما. كلاهما يرغب في خلق نظام اجتماعي جديد يقوم اولا على اساس التنظيم الجماعي للعمل، المفروض لا محالة على كل منهما وعلى الجميع بواسطة القوة الطبيعية للاحداث، وفي ظل شروط مساوية على الجميع، وثانيا، على اساس الملكية الجماعية لادوات الانتاج.
الاختلاف هو فقط ان الشيوعيون يتخيلون انهم يستطيعون بلوغ هدفهم بواسطة تنمية وتنظيم القوة السياسية للطبقات العاملة، واساسا بروليتاريا المدن، بمعاونة الراديكالية البرجوازية. الاشتراكيون الثوريون، من ناحية اخرى، يؤمنون بأنهم يستطيعون النجاح فقط من خلال تنمية وتنظيم القوة الاجتماعية الغير سياسية او المعادية للسياسة للطبقات العاملة في المدينة والريف، ومن ضمنهم الرجال ذوي النيات الطيبة من الطبقات العليا الذين يقطعون الصلة بماضيهم ويرغبون علانية في الانضمام الى الطبقات العاملة الحضرية والريفية ويقبلون ببرنامجها السياسي كاملا.
هذا الانشقاق يؤدي الى اختلاف في التكتيكات. يعتقد الشيوعيون ان من الضروري تنظيم قوى العمال من اجل الاستيلاء على السلطة السياسية للدولة. الاشتراكيون الثوريون ينتظمون في منظمات بهدف تدمير – او، نطرحها بشكل اكثر ادبا – تصفية الدولة. يدافع الشيوعيون عن مبدأ وممارسات السلطة، بينما يضع الاشتراكيون الثوريون ايمانهم كله في الحرية. كلاهما بشكل متساوي في صالح العلم، الذي يعمل لانهاء الخرافة وليحل محل العقيدة الدينية. الاولون [الشيوعيون] يودون فرض العلم بالقوة؛ والاخيرون [الاشتراكيون الثوريون] سوف يحاولون نشر العلم حتى ان الجماعات البشرية، فور ما تقتنع بذلك، سوف تنتظم وتشكل فدراليات بشكل تلقائي، وحر، من اسفل الى اعلى، وبرضاهم الخاص، صادقين مع مصالحهم الخاصة، وغير متبعين لخطة موضوعة سلفا مفروضة على “جهلاء”؛ مفروضة على جموع بواسطة قلة من عقول “متفوقة”.
يتمسك الاشتراكيون الثوريون بأن هناك قدرا عظيما من الحس السليم والحكمة العملية في الطموحات الفطرية والاحتياجات الحقيقية للجماهير اكثر منها في العبقرية العميقة لكل الدكاترة ومرشدي الانسانية الذين بعد كل هذه الخيبات العديدة، ما زالوا متمسكين بمحاولة ارغام الانسان على ان يكون سعيدا. اكثر من ذلك، يؤمن الاشتراكيون الثوريون ان البشرية قد خضعت طويلا لفكرة ان تكون تحت سيطرة حكومة؛ وان سبب مشاكلها لا يكمن في اي شكل خاص من اشكال الحكومات ولكن مشاكل البشرية تكمن في المبادئ الجوهرية للحكومات وفي وجود الحكومات ذاتها، مهما كان الشكل الذي تتتخذه هذه الحكومات.
اخيرا، هناك التناقض المعروف جيدا بين الشيوعية كما تطورت علميا بواسطة المدرسة الالمانية واصبحت مقبولة جزئيا عند الامريكيين والانجليز، وبين البرودونية (Proudhonism)، التي تطورت بشكل عظيم ووصلت في مسيرتها الى استنتاج نهائي بواسطة بروليتاريا البلاد اللاتينية. وقد حاولت الاشتراكية الثورية ان تضرب ضربتها الاولى وتستعرض نفسها عمليا في كوميونة باريس.
انا مناصر ومؤيد لكوميونة باريس، التي رغم كل سفك الدماء الذي عانت منه على ايدي الرجعية الملكية والكهنوتية، تنمو اكثر ديمومة واكثر قوة في قلوب وعقول البروليتاريا الاوروبية. انا من مؤيديها، وفوق كل شيء، بسبب جسارتها، فقد تشكلت هذه الكوميونة بوضوح بوصفها نفيا للدولة.
وإنه لأمر ذو مغزى بشكل هائل ان هذا التمرد في وجه الدولة قد وقعت احداثه في فرنسا، التي اصبحت وحتى الان ارض المركزية السياسية بلا منازع، ولأنها بكل دقة كانت هي باريس، زعيمة منبع الحضارة الفرنسية العظيمة، التي قامت بمبادرة الكوميونة. باريس، التي نحت تاجها جانبا واعلنت هزيمتها الخاصة بشجاعة من اجل ان تعطي الحياة والحرية لفرنسا، ولاوروبا، وللعالم بأكمله؛ باريس التي اعادت تأكيد سلطة زعامتها التاريخية، لتظهر لكل الشعوب المستعبدة (وهل هناك اي جماهير لا تخضع للاستعباد؟) اظهرت لهم الدرب الوحيد للتحرر والسلامة؛ باريس التي انزلت ضربة ماحقة بالتقاليد السياسية للراديكالية البرجوازية واعطت حجر اساس حقيقي للاشتراكية الثورية ضد رجعيي فرنسا واوروبا! باريس التي تكفنت في خرائبها، لتمنح كذبة مهابة للرجعية المنتصرة؛ منقذة عبر كارثتها نفسها، شرف ومستقبل فرنسا، ومبرهنة للبشرية على انه لو كانت الحياة، والالمعية والقوة الاخلاقية قد ارتحلت عن الطبقات العليا، فإن هذه القيم كلها قد احتفظت بقوتها وما يوعدون في البروليتاريا! باريس التي افتتحت الحقبة الجديدة للتحرر الاكيد والكامل للجماهير ولتضامنهم الحقيقي عبر حدود الدول؛ باريس التي دمرت النزعة القومية واقامت دين الانسانية على حطام الروح القومية؛ باريس التي اعلنت نفسها انسانية وملحدة، واستبدلت الاوهام المقدسة بالحقائق العظمى للحياة الاجتماعية والايمان بالعلم، مستبدلة الاكاذيب واشكال انعدام المساواة في الاخلاقيات القديمة استبدلتها بمبادئ الحرية، والعدل والمساواة والاخاء، تلك الاسس الخالدة لكل الاخلاقيات الانسانية! باريس البطولية، العقلانية والواثقة، اكدت ايمانها القوي بمقادير البشرية عن طريق سقوطها المجيد، وموتها؛ مسلمة عقيدتها، بكل قوتها، الى الاجيال التي سوف تأتي! باريس، الغارقة في دماء انبل اطفالها – انها الانسانية نفسها، المصلوبة بايدي الرجعية الدولية الموحدة في اوروبا، في ظل الإلهام المباشر من كل الكنائس المسيحية، وذلك الحبر الاعظم للشر، البابا. ولكن الثورة الاممية الآتية، المعبرة عن تضامن الشعوب، سوف تكون البعث لباريس.
هذا هو المعنى الحقيقي، وتلك هي النتائج الهائلة والحميدة للشهرين الذين احاطا بحياة وموت كوميونة باريس؛ الخالدة في ذكرانا للابد.
استمرت كوميونة باريس وقتا قصيرا للغاية، وعرقل تطورها الداخلي الكفاح المميت الذي انخرطت فيه ضد رجعية فرساي من اجل السماح لها على الاقل بأن تصوغ نظريا، برنامجها الاشتراكي، وليس تنفيذه. يجب ان ندرك، ايضا، ان اغلبية اعضاء الكوميونة لم يكونوا اشتراكيين، اذا ما تكلمنا بشكل صحيح. ولو بدوا انهم كذلك، فذلك يعود الى انهم انجروا في هذا الاتجاه في مجرى الاحداث العنيد، ولطبيعة الاوضاع، ولضروريات الموقف الذي تواجدوا فيه، اكثر منه بسبب قناعاتهم الشخصية. الاشتراكيون كانوا اقلية ضئيلة – كان هناك، على اقصى حد، اربعة عشر الى خمسة عشر من الاشتراكيين؛ البقية كانت يعاقبة. ولكن، دعنا نقولها بوضوح، هناك يعاقبة ويعاقبة. هناك محامون ومذهبيون يعاقبة، مثل السيد غامبيتا؛ اكثرهم ايجابية… مندفعين، مستبدين، نزعتهم الجمهورية التشريعية تتغلب على العقيدة الثورية القديمة وتضيعها، لم تترك لهم شيئا من اليعقوبية سوى تشيعها للوحدة والسلطة، وقد سلموا شعب فرنسا للبروسيين، وفيما بعد سلموه ايضا الى الرجعيين وطنيي المولد. وهناك يعاقبة ثوريون باستقامة، الابطال، اخر الممثلين المخلصين للعقيدة الديموقراطية لعام 1793؛ القادرين على التضحية بكلا من وحدتهم وسلطتهم المسلحة جيدا بدلا من اخضاع ضمائرهم لفجور الرجعية الرخيص. هؤلاء اليعاقبة العظام الذين يقودهم بشكل طبيعي دلسكليوز، الروح العظيم والشخصية العظيمة، يرغبون في انتصار الثورة فوق كل شيء اخر؛ وحيث انه لا توجد ثورة دون جماهير، وحيث ان الجماهير في يومنا هذا تكشف عن غريزة تنزع للاشتراكية وتستطيع فقط ان تقوم بثورة اقتصادية واجتماعية، اليعاقبة من ذوي العقيدة السليمة، تاركين انفسهم لينصاعوا بشكل متزايد تحت ضغط منطق الحركة الثورية، ينتهون الى ان يصبحوا اشتراكيون رغم ارادتهم.
ذلك بالضبط هو الوضع الذي وجد فيه اليعاقبة انفسهم ممن شاركوا في كوميونة باريس. دلسكليوز، وعديد من الاخرين معه، وقعوا بامضائهم على برامج واعلانات مردودها العام وما وعدت به كان ذا طبيعة اشتراكية بشكل ايجابي. ومع ذلك، ورغم حسن نواياهم وارادتهم الحسنة، كانوا مجرد اشتراكيين اشتراكية املتها عليهم ظروف خارجية اكثر منها قناعات داخلية؛ كان ينقصهم الوقت وحتى الطاقة من اجل التغلب على افكارهم البرجوازية المسبقة المضادة لاشتراكيتهم التي اكتسبوها حديثا وكبتوا العديد منها. يستطيع المرء ان يتفهم ذلك، وقد وقعوا في فخ الصراع الداخلي، لم يستطعوا ابدا المضي ابعد من عموميات ولم يستطعوا اتخاذ اي من تلك التدابير الحاسمة التي كانت سوف تقضي على تضامنهم واتصالهم بالعالم البرجوازي للابد.
كان ذلك هو سوء بخت الكوميونة واولئك الرجال. لقد كابدوا شللا فعليا، واصابوا الكوميونة بالشلل. الا اننا لا نستطيع لومهم. لا يتحول الرجال بين عشية وضحاها؛ انهم لا يغيرون طبائعهم او عادتهم بمجرد الارادة. لقد برهنوا على اخلاصهم بترك انفسهم يقتلون في سبيل الكوميونة. من يجرؤ على طلب المزيد منهم؟
لا يمكن اعتبارهم موضعا للوم اكثر من اهل باريس، الذين عمل هؤلاء اليعاقبة وتداولوا الافكار تحت تأثيرهم. الناس كانوا اشتراكيين بالغريزة اكثر من كونهم اشتراكيين بالفكرة. كل طموحاتهم هي طموحات اشتراكية من اعلى درجة ولكن افكارهم، او بالاحرى طرق تعبيرهم التقليدية، لم تكن كذلك. بروليتاريا المدن الكبرى في فرنسا، وحتى في باريس نفسها، ما زالت تتعلق بكثير من الافكار المسبقة الخطأ عند اليعاقبة، والتي تتعلق بمفاهيم عديدة سلطوية واستبدادية. عبادة السلطة – النتيجة المميتة للتعليم الديني، ذلك المنبع التاريخي لكل الشرور، والحرمان، والعبودية – لم يتم استئصالها بعد من داخلهم. وهذا صحيح جدا لدرجة ان حتى الاطفال النابهين للشعب، الاشتراكيون الاكثر ايمانا، لم يحرروا انفسهم بالكامل من هذه الافكار. لو سبرت اغوار عقولهم قليلا، سوف تجد واحدا من اليعاقبة، يدافع عن فكرة الحكومة، قابعا في ركن مظلم، متواضعا ولكنه لم يمت تماما بعد.
وايضا، المجموعة الصغيرة من الاشتراكيين المؤمنين بالاشتراكية من الذين شاركوا في الكوميونة وجدوا انفسهم في وضع صعب جدا. ففي الوقت الذي يشعرون فيه بنقص التأييد بين الجماهير العظيمة من اهل باريس لهم، وبينما تلتف بالكاد حفنة من عدة الاف قليلة من الاشخاص حول منظمة الجمعية الاممية للعمال [الاممية الاولى]، وهي نفسها جمعية تعاني من العيوب، كان على هؤلاء الاشتراكيين المؤمنين بالاشتراكية الاستمرار في نضال يومي ضد الاغلبية اليعقوبية. وفي غمار هذا الصراع، كان عليهم إطعام عدة الاف من العمال وايجاد عمل لهم، وتنظيمهم وتسليحهم، والتيقظ والحذر الحاد لتحركات الرجعيين. كل ذلك في مدينة هائلة كباريس ، محاصرة، وتواجه خطر المجاعة، وفريسة لكل المكائد والمؤامرات المستترة للرجعية، التي تدبرت تأسيس مراكزا لها في فرساي بإذن وفضل البروسيين. كان عليهم كاشتراكيين اقامة حكومة ثورية وجيش ثوري ضد حكومة وجيش فرساي؛ من اجل قتال الرجعية الملكية والكهنوتية اضطر الاشتراكيون لتنظيم انفسهم باسلوب اليعاقبة، وتناسوا او ضحوا بأول شروط الاشتراكية الثورية.
في حالة الاضطراب والتشوش هذه، كان من الطبيعي ان اليعاقبة، القسم الاقوى، الذي يشكل الاغلبية في الكوميونة، والمالك ايضا لغريزة سياسية عالية التطور، والمالك لتقاليد وخبرة التنظيم الحكومي، كان لابد وان يكونوا هم اصحاب اليد العليا على الاشتراكيين. وانه لامر مدهش انهم لم يضغطوا بمميزاتهم تلك اكثر مما فعلوا فعلا؛ فهم لم يصبغوا انتفاضة باريس بصبغة يعقوبية خالصة؛ بل انهم على العكس تركوا انفسهم لتحملهم موجة الثورة الاجتماعية في تيارها.
انا اعرف ان اشتراكيين عديدين، تتمتع نظريتهم الاشتراكية بمنطق قوي جدا، يلومون اصدقاءنا الباريسيين على عدم التصرف بشكل كاف كاشتراكيين في ممارستهم الثورية. من ناحية اخرى، ألوان النواح الذي تصرخ به الصحافة البرجوازية، يتهمهم بأنهم اخلصوا لبرنامجهم الاشتراكي زيادة عن اللازم. دعنا ننسى للحظة الوشاية الغير شريفة التي تذيعها هذه الصحافة. اريد ان ادعو انتباه اكثر المنظرين لتحرير البروليتاريا تشددا الى حقيقة انهم لا يتصفون بالعدل في حكمهم على اخوتنا في باريس، لانه بين اكثر النظريات صحة وبين تطبيقها العملي تقع مسافة هائلة لا يمكن عبورها في ايام قلائل. من اسعده الحظ بالتعرف الى فارلان، مثلا (لنحدد اسم رجل واحد فقط من المؤكد انه مات)، يعرف انه واصدقاءه عملوا تحت توجيه وهدى من القناعات الاشتراكية العميقة والمخلصة ذات البناء الفكري المتين. هؤلاء كانوا رجالا سعيهم الحثيث واخلاصهم وعقيدتهم السليمة ليست محل تساؤل ابدا من قبل من عرفهم. ومع ذلك، وبالضبط لانهم كانوا رجال ذوي عقيدة سليمة، كان يملأهم شك داخلي في وجه المهمة الهائلة الذين كرسوا عقولهم وارواحهم لها؛ كانوا يتواضعون بانفسهم كثيرا جدا! وكانوا مقتنعين انه في الثورة الاجتماعية، والتي هي النقيض على طول الخط للثورة السياسية في هذا السبيل كما في السبل الاخرى، العمل الفردي يكاد يكون لا شيء، بينما الاعمال التلقائية للجماهير يجب ان تكون كل شيء. كل ما يستطيع اولئك الافراد صنعه هو صياغة الافكار وتوضيحها ونشرها، الافكار التي تعبر عن رغبات الشعب الفطرية، ويساهمون بجهودهم الدائمة في التنظيم الثوري لقوى الجماهير الطبيعية. هذا وليس اكثر من ذلك؛ كل الباقي يمكن انجازه فقط بواسطة الجماهير نفسها. ولو مضت الامور على نحو غير ذلك سوف ينتهي الامر بنا الى ديكتاتورية سياسية – اعادة تأسيس الدولة، بكل امتيازاتها، وبكل مظالمها وصور عدم المساواة؛ عبر اتخاذنا لطريق خادع ولكن حتمي سوف نصل الى تأسيس عبودية للجماهير اقتصادية وسياسية واجتماعية .
فارلان وكل اصدقاءه، مثل كل الاشتراكيين المخلصين، وعموما مثل كل العمال الذين ولدوا وترعرعوا وسط الشعب، يشتركون في هذا الشعور المشروع تماما بالحذر من الحركة المستمرة لجماعة واحدة من الافراد لا تمثل سوى نفسها وضد الهيمنة التي تمارسها الشخصيات النجوم. وحيث انهم رجال عدل وذوي رأي منصف فوق كل شيء اخر، فهم يستخدمون هذه البصيرة، هذا الارتياب ضد انفسهم بنفس القدر الذي يستخدمونه ضد الاشخاص الاخرين.
وعلى عكس ما يؤمن به الشيوعيون السلطويون – الذي اعتبره خطأ تماما – بأن ثورة اجتماعية يجب ان تصدر عن اما ديكتاتورية او جمعية تأسيسية تنشأ من ثورة سياسية ويتم تنظيمها بواسطة ايهما، اصدقاءنا، الاشتراكيون الباريسيون، آمنوا ان الثورة لا يمكن صنعها او الوصول بها الى تطورها الكامل بأي وسيلة اخرى سوى العمل العفوي والمستمر للجماهير، جماعات ومؤسسات الشعب.
اصدقاءنا الباريسيون كانوا على حق الف مرة. في الواقع، اين هو العقل، الرائع كما يبدو، او – لو تكلمنا عن الديكتاتورية الجماعية، ولو انها حتى تتشكل من عدة مئات من الشخصيات الموهوبة بعقليات عبقرية متفوقة – او اين هي الملكات الفكرية القوية بما يكفي لاحتضان التنوع والتعددية التي لا حصر لها للمصالح والطموحات والرغبات والاحتياجات الحقيقية التي تشكل مجموع الارادة الجماعية للشعب؟ كيف يمكن اختراع منظمة اجتماعية لا تمثل رحما حاضنا لفرض التنميط بالقوة الذي يعتمد عليه عنف الدولة في اجبار شعب تعيس على ان يسترخي بشكل او بآخر؟ ودائما ما كانت الامور تسير هكذا، وهو بالضبط النظام القديم للتنظيم بالاجبار، حيث يجب ان تنتهي الثورة الاجتماعية بتفويض الحرية الكاملة للجماهير، والجماعات، والمجتمعات المحلية، والجمعيات وللافراد ايضا؛ بواسطة تدمير السبب التاريخي لكل اشكال العنف مرة واحدة وللابد، وهي السلطة وفعليا وجود الدولة في حد ذاته. سقوط الدولة سوف يهدم معه كل انواع اجحاف القانون وكل اكاذيب الاديان المتنوعة، وحيث ان كلا من القانون والدين لا يحتويان ، على المستوى الفكري وفي الواقع العملي، على اي شئ سوى القداسة الارغامية لكل اشكال العنف الذي تمثله الدولة وتؤمنه وتحميه.
من الواضح ان الحرية لن تمنح للبشرية، فالمصالح الحقيقية للمجتمع، ولكل الجماعات، والجمعيات المحلية، والافراد الذين يتشكل منهم المجتمع، لن توف طالما هناك اي نوع من الدول. من الواضح ان ما يسمى المصالح العامة للمجتمع، التي من المفترض ان الدولة تمثلها والتي هي في الحقيقة الواقعية مجرد نفي دائم وعمومي للمصالح الحقيقية للاقاليم والمجتمعات المحلية والجمعيات والافراد رعايا الدولة، ما يسمى المصالح العامة للمجتمع هو مجرد تجريد، وخيال، وكذبة. الدولة مثلها مثل مجزر كبير او مدافن هائلة، تدخله كل الطموحات الحقيقية، وكل القوى الحية في بلد ما تدخلها بسعادة وكرم، وفي ظل هذا التجريد، يستسلمون هناك للذبح ثم الدفن. وبالضبط حيث انه لا يوجد تجريد لذاته او بذاته، دون ارجل يقف عليها، ولا اذرع يبدع بها، ولا معدة يهضم بها جموع الضحايا المقدمة له، وهو بالمثل امر واضح ان التجريد الديني او السماوي، الرب، يمثل فعليا المصالح الحقيقية نفسها لطبقة، ولرجال دين، بينما شقيقه الارضي، ذلك التجريد السياسي، الدولة، التي لا تقل تمثيلا عن المصالح الحقيقية للطبقة التي تمارس الاستغلال والتي تميل لابتلاع مصالح كل الاخرين – طبقة البرجوازية. وبينما اتصف رجال الدين دائما بالانقسامية، وهم هذه الايام يميلون لفصل الرجال حتى بدرجة اكبر عن بعضهم البعض الى اقلية ذات نفوذ قوي جدا وثرية ثراءا فاحشا واغلبية تعيسة وبالاحرى اكثر بؤسا، وهكذا على نفس المنوال البرجوازية، بتنظيماتها الاجتماعية والسياسية في الصناعة، والزراعة، والاعمال البنكية، والتجارة، اضافة الى كل وظائف الدولة العسكرية والشرطية والتعليمية والقضائية والمالية والادارية تميل بشكل متزايد الى ضم كل تلك الوظائف في طغمة حاكمة مهيمنة بشكل حقيقي من ناحية، ومن الناحية الاخرى جماهير هائلة تتكون بشكل او باخر من مخلوقات لا حول لها ولا قوة، مخلوقات مخدوعة تعيش في وهم خالد، مدفوعة باضطراد وحتما الى وضع طبقة البروليتاريا نتيجة لقوة لا تقاوم من التطورات الاقتصادية الحالية، ويختزل دورها الى مجرد خدم بوصفهم أدوات عمياء لهذه الطغمة الحاكمة كلية القوة.
يجب ان يكون الغاء الكنيسة والدولة الشرط الاول الذي لا يمكن الاستغناء عنه من اجل منح المجتمع صوتا حقيقيا يستطيع بل ويجب عليه ان يعيد به تنظيم نفسه؛ وليس من اعلى الى اسفل طبقا لخطة مثالية يطبخها رجل حكيم او عالم من العلماء، ولا عبر قرارات رسمية تصوغها بعض اشكال السلطة الديكتاتورية او حتى بواسطة جمعية وطنية منتخبة بالاقتراع العام المباشر. مثل هذا النظام، كما قلت توا، سوف يقود لا محالة الى خلق دولة جديدة، وبالنتيجة، الى تشكيل ارستوقراطية حاكمة، بمعنى، طبقة كاملة من الاشخاص لا تربطهم بالجماهير اي علاقة مشتركة. وطبعا، هذه الطبقة سوف تستغل الجماهير وتخضعها، تحت مسوغات انها تخدم الرفاهية المشتركة للوطن او تنقذ الدولة.
التنظيم الاجتماعي في المستقبل يجب ان يشيد من القاع الى القمة، بواسطة الجمعيات او الفدراليات الحرة للعمال، بادئا بالجمعيات، ثم يسري الى الكوميونات، وإلى المناطق والامم واخيرا يصعد الى قمة في اممية عظمى وفدرالية كونية. ساعتها فقط سوف يتحقق في الدنيا النظام الاجتماعي للحرية الحقيقي المانح للحياة والرفاه العام، نظام اجتماعي، سوف يؤكد مصالح الافراد والمجتمع وسوف يتصالح معها ولسوف يكون ابعد من ان يشكل قيدا عليها.
يقال ان الانسجام والتضامن الشامل بين الافراد والمجتمع لا يمكن ان نصل اليه في الواقع العملي ابدا لان مصالحهما [الافراد والمجتمع]، كونها متناقضة، لا يمكن التقاءهما ابدا. ردي على هذا الاعتراض هو لو ان هذه المصالح لم تأت الى توافق متبادل ابدا، فذلك يعود الى ان الدولة قد ضحت بمصالح الاغلبية لصالح وفائدة الاقلية صاحبة الامتيازات. هذا هو سبب ذلك التناقض الشهير، هذا الصدام بين المصالح الشخصية وبين مصالح المجتمع تلك، ليس سوى تزوير، ليس سوى كذبة سياسية، خرجت من رحم كذبة كهنوتية اخترعت مذهب الخطيئة الاصلية من اجل تلويث شرف الانسان وتدمير احترامه لذاته. نفس الفكرة الزائفة المتعلقة بالمصالح المتعارضة الغير قابلة للتصالح صنعتها ايضا احلام ميتافيزيقية، هي كما نعرف لصيقة النسب بالفكر الديني الكهنوتي. الافكار الميتافيزيقية، التي فشلت في ادراك الشخصية الاجتماعية للطبيعة الانسانية، تنظر للمجتمع بوصفه تجمعات افراد اصطناعية تماما وميكانيكية، التقوا معا فجأة باسم بعض صور شكلية او سرية إما بطريقة حرة او تحت تأثير سلطة عليا. قبل التوحد في مجتمع، هؤلاء الافراد، نتيجة لمنحة من نوع ما من انواع الروح الخالدة التي لا تموت، تمتعوا بحرية كاملة، طبقا لاقوال الميتافيزيقيين. نحمل اقتناعا ان كل ثروة الانسان من التطورات الذهنية، والاخلاقية والمادية، اضافة الى استقلاله الظاهر، هو نتاج حياته في مجتمع. خارج المجتمع، لن يفقد الانسان فقط كونه رجلا حرا، بل انه حتى لن يصبح انسانا متفردا، كونه واعيا بذاته، الكائن الوحيد الذي يعقل ويتكلم. فقط مزيج من الذكاء مع العمل الجماعي استطاع اجبار الانسان على الخروج من حالة البربرية والوحشية تلك التي شكلت طبيعته الاصلية، او بالاحرى نقطة انطلاق تطوراته المضطردة. نحن مقتنعون بعمق من ان كامل حياة الرجال – مصالحهم، وميولهم، واحتياجاتهم، واوهامهم، وحتى غباواتهم، اضافة الى قليل من عنفهم، وظلمهم، وفيما يبدو انه نشاطهم الطوعي – يمثل ببساطة نتيجة قوى مجتمعية حتمية. لا تستطيع الشعوب رفض فكرة الاستقلال المتبادل، ولا تستطيع انكار التأثيرات العكسية المبتادلة والتنميط الذي يعرض مظاهر الطبيعة الخارجية.
في الطبيعة نفسها، هذا الترابط والاعتماد المتبادل المبهر للظاهرة لم يحدث بالتأكيد دون كفاح. على العكس، انسجام قوى الطبيعة يظهر فقط كنتيجة للصراع المستمر، الشرط الحقيقي للحياة والحركة. في الطبيعة، كما في المجتمع، النظام دون كفاح هو الموت.
لو ان النظام هو طبيعي وممكن في الكون، فذلك يعود فقط الى ان الكون لا يحكم طبقا لبعض النظم المتخيلة بشكل مسبق والتي تفرضها ارادة عليا. الفرضية الكهنوتية للتشريع السامي تقود الى عبث واضح، الى نفي ليس فقط لكل النسق ولكن للفرضية نفسها. القوانين الطبيعية تصبح حقيقية فقط في حالة كونها مكون موروث داخلي في الطبيعة؛ بمعنى، انها لا تقوم بناء على اي سلطة. تلك القوانين ليست الا مظاهر بسيطة، او بالاحرى متغيرات مستمرة، للانماط التي تشكل ما نسميه ’الطبيعة‘. الذكاء الانساني وعلومه قد لاحظت تلك القوانين، واختبرتها باجراء التجارب العلمية، وقامت بتجميعها في نظام واطلقت عليها اسم قوانين. ولكن الطبيعة في حد ذاتها لا تعرف قوانينا. انها تتصرف بشكل غير واعي؛ انها تمثل في نفسها تنوعا لا ينتهي للظواهر التي تظهر وتكرر نفسها حتميا. هذه الحتمية للحركة هي السبب وراء امكانية ووجود النظام الكوني.
مثل هذا النظام يظهر ايضا في المجتمع الانساني، والذي يبدو انه ارتقى وتطور فيما يزعم بطريقة مناهضة للطبيعة ولكن تطوره فعليا حددته احتياجات الحيوان الطبيعي وطاقتة على التفكير الذي ساهم بدوره كعنصر خاص في تطوره – كعنصر هو بالكامل من عناصر الطبيعة، نفلا، بمعنى ان الرجل، مثل كل شيء موجود، يمثل انتاجا ماديا لاتحاد قوى الطبيعة وعملها. هذا العنصر الخاص هو العقل، القدرة على التعميم والتجريد، الذي بفضله يستطيع الرجل ان يسبح في افكاره، ويتفحص ويلاحظ نفسه بوصفه شيء خالد غريب. عندما يرتفع الانسان في فكره فوق نفسه، وفوق العالم حوله، فإنه يصل الى تشخيص للتجريد التام والفراغ المطلق. وهذا المطلق ليس شيئا اقل من قدرته على التجريد، والذي يزدري كل ما هو موجود ويكتشف راحته في بلوغ مرتبة النفي الكامل. هذا هو الحد الاعلى للتجريد الاعلى للعقل؛ هذا اللاشيء المطلق هو الإله.
هذا هو معنى والمنبع التاريخي لكل مذهب لاهوتي. وكما انهم لم يفهموا طبيعة الاسباب المادية لتفكيرهم الخاص، ولم يمسكوا حتى بالشروط او القوانين الطبيعية التي تحدد مثل هذا التفكير، هؤلاء الرجال الاولون والمجتمعات الاولى لم يكن لديهم ادنى شك في ان افكارهم المطلقة كانت ببساطة نتيجة قدرتهم الخاصة على صياغة الافكار المجردة. ومن هنا ارتأوا تلك الافكار، وسحبوها من الطبيعة، كاشياء حقيقية، توقفت الطبيعة ذاتها بعد ذلك عن الاتيان بأي شيء. بدأوا عبادة افكارهم الخيالية، وافكارهم الموهومة عن المطلق، وبدأوا في تكريم هذه الافكار. ولكن حيث انهم شعروا بالحاجة الى اعطاء بعض الاشكال الملموسة للفكرة المجردة عن اللاشيء او الاله، خلق هؤلاء الناس مفهوم القداسة وبالمزيد اسبغوا عليه كل الصفات التي تشكل سلطات، الشر والخير، والذي يجدونه فقط في الطبيعة وفي المجتمع. هذا هو منشأ كل الاديان وتطورها التاريخي، من عبادة الاوثان الى المسيحية هبوطا.
نحن لا ننوي عمل دراسة عن تاريخ السخافات الدينية واللاهوتية والميتافيزيقية او مناقشة عملية مسار كل التجسدات المقدسة والرؤى المقدسة التي خلقتها قرون البربرية السابقة. نحن نعرف كلنا ان الخرافة والاسطورة جلبت الكوارث وسببت تفجر انهار الدم والدموع. كل هذه التشوهات المتمردة للبشرية الفقيرة كانت مراحل تاريخية وحتمية في النمو الطبيعي والارتقاء الاجتماعي للمنظمات. مثل هذه التشوهات ولدت فكرة قاتلة، هيمنت على خيال البشر، بأن الكون محكوم بواسطة قوة وارادة فوق طبيعية. جاءت قرون ومضت، ونمت مجتمعات وتعودت على هذه الفكرة الى مثل هذا الحد الذي دمروا به في الاخير اي تحريض او قدرة نحو تحقيق مزيد من التطور الذي نشأ في اوساطهم.
النهم للسلطة عند بعض الافراد اصلا، وعند العديد من الطبقات الاجتماعية فيما بعد، اسس العبودية والغزو كمبدأ مهيمن، وزرع هذه الفكرة الرهيبة عن القداسة في قلب المجتمع. بعد ذلك، لم يعد يرى احد في اي مجتمع مجتمعا صالحا دون وجود هاتين المؤسستين، الكنيسة والدولة، كقاعدة له. هذان السوطان يدافع عنهما كل الدعاة الاعتذاريين المذهبيين التابعين لهما.
فور ظهور هاتين المؤسستين في العالم، فجأة نظمت طبقتان حاكمتان – الكهنة والارستقراطية – انفسهما ولم تضيعا وقتا من اجل مذهبة الشعوب المستعبدة بفكرة قداسة الكنيسة والدولة وعدم القدرة عن الاستغناء عنهما والجدوى الجمة من استخدامهما.

الاناركية كوميونة باريس / 1

الاناركية مجتمع بلا رؤساء او المدرسة الثورية التي لم يعرفها الشرق

إعداد وعرض: احمد زكي

كوميونة باريس
كوميونة باريس هي اسم الانتفاضة العمالية التي انفجرت داخل مدينة باريس في اعقاب الحرب الفرنسية البروسية (١٨٧٠) التي انتهت بهزيمة لفرنسا. هناك سببان رئيسيان لتلك الانتفاضة: من ناحية، الكارثة العسكرية في الحرب، ومن ناحية اخرى السخط المتنامي بين الطبقة العاملة الفرنسية، الذي يمكن تتبع اثاره الى ثلاثينات القرن التاسع عشر، عندما نشبت اول انتفاضات عمالية في ليون وباريس.
مسلسل تاريخ احداث الكوميونة
عام ١٨٧٠
١٠ يناير مظاهرة لحوالي ١٠٠ الف ضد امبراطورية بونابرت الثانية بعد موت فيكتور نوار، الصحفي الجمهوري الذي قتله بيير بونابرت، ابن عم الامبراطور بونابرت الثالث.
٨ مايو استفتاء قومي عام يمنح الثقة للامبراطور بنسبة ٨٤٪. عشية الاستفتاء يلقى القبض على اعضاء فدرالية باريس بتهمة التآمر على حياة الامبراطور نابليون الثالث. استخدمت الحكومة هذه الذريعة بشكل اكبر لتشن حملة اضطهاد لاعضاء الاممية الاولى في انحاء فرنسا.
١٩ يوليو بعد صراع دبلوماسي ضد محاولات بروسيا الاستيلاء على العرش الاسباني، يعلن لويس بونابرت الحرب على بروسيا.
٤ اغسطس فردريك، امير العرش الالماني، على رأس احد الجيوش البروسية الثلاث التي اجتاحت فرنسا، يهزم المارشال الفرنسي ماكماهون عند ورث وفايسنبرج، ويدفعه الى خارج الالزاس (الشمال الشرقي لفرنسا)، ويحاصر ستراسبورج، ويندفع نحو نانسي. الجيشان البروسيان الاخران يعزلان قوات المارشال بازين في ميتز.
١٨ اغسطس محاولات القائد الفرنسي بازين لاختراق الخطوط الالمانية بجنوده تنكسر بخسارة فادحة عند مار لا تور وجرافيلوت. يتقدم البروسيون نحو شالون.
١ سبتمبر معركة سيدان. ماكماهون وبونابرت، في محاولة لتخفيف الضغط عن بازين في ميتز واغلاق الطريق، يدخلان في معركة وينهزمان في سيدان.

٢ سبتمبر الامبراطور نابليون الثالث والمارشال ماكماهون يستسلمان في سيدان ومعهم ٨٣ الف جندي.
٤ سبتمبر عند وصول اخبار سيدان، عمال باريس يجتاحون قصر البوربون ويجبرون الجمعية التشريعية على اعلان سقوط الامبراطورية. في المساء، اعلان الجمهورية الثالثة في مبنى اوتيل دي فيل (مبنى البلدية) بباريس. تأسيس حكومة الدفاع الوطني المؤقتة للاستمرار في المجهود الحربي لاجلاء الالمان عن فرنسا.
٦ سبتمبر اصدرت حكومة الدفاع الوطني اعلانا: يقع اللوم بالحرب على الحكومة الامبراطورية، ومطلوب السلام الان، لكن دون التنازل عن “بوصة من ارضنا، ولا حجر من قلاعنا”. ومع استمرار احتلال بروسيا للالزاس واللورين، ظلت الحرب دائرة.
١٩ سبتمبر بدأ الجيشان الالمانيان حصارهم الطويل لباريس. تخيل بسمارك ان العمال الفرنسيون “المخنثون” سوف يستسلمون سريعا. ارسلت سريعا حكومة الدفاع الوطني بوفد الى تور، سرعان ما لحق بهم غمبيتا (الذي هرب من باريس المحاصرة في منطاد)، لتنظيم المقاومة في المحافظات.
٢٧ اكتوبر الجيش الفرنسي في ميتز، تحت قيادة بازين، وقوامه بين ١٤٠ الى ١٨٠ الف جندي، يستسلم.
٣٠ اكتوبر هزيمة الحرس الوطني الفرنسي في لوبورجيه.
٣١ اكتوبر عند وصول انباء قرار حكومة الدفاع الوطني بالبدء في مفاوضات مع البروسيين، قاد عمال باريس والاقسام الثورية في الحرس الوطني تمردا بقيادة بلانكي. استولى المتمردون على الاوتيل دي فيل واقاموا حكومة ثورية – لجنة السلامة العامة، يترأسها بلانكي.
١ نوفمبر تحت ضغط العمال وعدت حكومة الدفاع الوطني بتقديم استقالتها وتحديد موعد لاجراء انتخابات بلدية عامة للكوميونة (المجلس البلدي في باريس) – وهو الوعد الذي كانت تنوي عدم تنفيذه. بعد تهدئة العمال الثائرين بذريعة “الشرعية” هذه، استولت الحكومة مرة اخرى على الاوتيل دي فيل (مبنى البلدية) باستخدام العنف واعادت سيطرتها مرة اخرى على المدنية المحاصرة. تم القبض على بلانكي وواجه بشكل رسمي تهمة الخيانة.
عام ١٨٧١
يناير قاد انصار بلانكي مظاهرة تشكلت من عمال باريس والحرس الوطني مطالبين بالاطاحة بالحكومة واقامة كوميونة. الحرس البريتوني المتنقل الذي كان يحمي مبنى الاوتيل دي فيل، فتح النار بأوامر من الحكومة على المتظاهرين. بدأت الحكومة، بعد هذه المذبحة ضد العمال، في الاستعداد لتسليم باريس الى الالمان.
٢٨ يناير بعد اربعة شهور من الكفاح العمالي، استسلمت حكومة الدفاع الوطني للبروسيين وسمحوا لقوات الاحتلال الالماني بدخول جزء صغير فقط من المدينة بشكل رمزي ومؤقت. وفي الوقت الذي تم فيه نزع سلاح كل القوات النظامية الفرنسية، سمحوا للحرس الوطني بالاحتفاظ بسلاحه. مئات الالاف من سكان باريس كانوا مسلحين بوصفهم اعضاء في ميليشيا مدنية معروفة باسم الحرس الوطني، والتي كانت قد توسعت عضويتها كثيرا بغرض المساعدة في الدفاع عن المدينة. انتخبت وحدات الحرس الوطني ضباطها، الذين كانوا في الاحياء العمالية من القيادات الراديكالية والاشتراكية.
٨ فبراير اقيمت الانتخابات في فرنسا دون علم معظم الجمهور من اجل اختيار جمعية وطنية جديدة، وفاز المحافظين باكثر من ثلثي مقاعدها.
١٢ فبراير افتتحت الجمعية الوطنية الجديدة في بوردو؛ الاغلبية المحافظة كانت ترغب في انهاء الحرب.
١٦ فبراير انتخبت الجمعية الوطنية ادولف تيير رئيسا تنفيذيا للحكومة
٢٦ فبراير تم توقيع اتفاقية السلام الاولية بين فرنسا والمانيا في فرساي، وقعها تيير وجول فافر، من ناحية، وبسمارك من الناحية الاخرى. سلمت فرنسا الالزاس واللورين الشرقية الى الالمان ودفعت لهم غرامة بلغت ٥ بليون فرنك. انسحب جيش الاحتلال الالماني ببطء وتدريجيا مع كل مرة تدفع فيها اقساط الغرامة المالية. تم توقيع اتفاقية السلام النهائية في فرانكفورت على الماين في ١٠ مايو ١٨٧١.
١ مارس وحتى ٣ مارس بعد شهر من الكفاح والمعاناة، رد عمال باريس بغضب على دخول القوات الالمانية المدينة، والاستسلام الذي لا يتوقف من جانب الحكومة. انشق الحرس الوطني وشكل لجنة مركزية. اتخذت اللجنة المركزية التي تشكلت من جمهوريين وطنيين واشتراكيين، عدة خطوات للدفاع عن باريس ضد هجوم الماني محتمل، وايضا للدفاع عن الجمهورية ضد عودة الملكية المحتملة، خاصة بعد الاغلبية البرلمانية المحافظة التي تحققت في الانتخابات الاخيرة.
قبل دخول القوات الالمانية، قام الحرس الوطني وبمساعدة سكان باريس من العمال بالاستيلاء على عدد كبير من المدافع التي خلفها الجيش الفرنسي (التي اعتبرها سكان باريس والحرس الوطني ملكية عامة حيث ان ثمنها مقتطع من الضرائب العامة) واخفوها بعيدا عن الانظار في احياء آمنة. احد اشهر اماكن اخفاء تلك المدافع كانت مرتفعات مونمارتر.
١٠ مارس مررت الجمعية الوطنية قانونا بتأجيل دفع اقساط الديون المستحقة عليها؛ واصبح طبقا لهذا القانون في الامكان ارجاء دفع الاقساط المستحقة من ١٣ اغسطس حتى ١٢ نوفمبر ١٨٧٠. وهكذا ادى هذا القانون الى افلاس عديد من البورجوازيين الصغار.
١١ مارس تم تعطيل الجمعية الوطنية. مع حدوث الاضرابات في باريس،
١٧ مارس تم القبض على لويس اوجوست بلانكي الزعيم الثوري المخضرم، واودع سجنا سريا.
١٨ مارس حاول ادولف تيير نزع سلاح باريس وارسل بقوات نظامية من الجيش الفرنسي لتنفيذ ذلك، ولكن، تآخي الجنود مع عمال باريس، ورفضوا تنفيذ اوامر ضباطهم. عند مونمارتر، قتل الجنود قائديهم الجنرال كلود مارتان لوكومت والجنرال جاك ليونار كليمنت توماس. انسحبت العديد من وحدات الجيش النظامي في فوضى طبقا لاوامر تيير، وتشتت عديد من الجنود في شوارع واحياء باريس، مشاركين في التمرد.
٢٠ مارس بعد اخلاء باريس طبقا لاوامر تيير من قوات الجيش النظامية، وقوات الشرطة والادارة المدنية، وبعد ان فر هو نفسه في مقدمة الفارين الى فرساي، اقامت الجمعية الوطنية حكومة مؤقتة في فرساي. اصبحت اللجنة المركزية للحرس الوطني هي الحكومة الفعلية الوحيدة في باريس ورتبت اجراء انتخابات بلدية.
٢٦ مارس انتخب مواطنو باريس المجلس البلدي – كوميونة باريس. تشكلت الكوميونة (او بالاحرى المجلس البلدي) من ٩٢ عضوا الحصة الكبيرة منهم كانت من العمال المهرة وتضمنت عضوية الكوميونة ايضا العديد من المهنيين (مثل الاطباء والصحفيين). كان العديد من كل هؤلاء نشطاء سياسيين، من الجمهوريين الاصلاحيين الى انماط متنوعة من الاشتراكيين، الى اليعاقبة الذين دفع بهم الحنين الى الماضي الى استرجاع اجواء الثورة الفرنسية الكبرى عام ١٧٨٩.
انتخبت الكوميونة الزعيم المخضرم لجماعة الاشتراكيين الثوريين، لويس اوجوست بلانكي، رئيسا للمجلس، لكن تم ذلك في غيابه، لانه كان سجينا منذ ١٧ مارس في سجن سري واستمر حبسه طوال عمر الكوميونة .
٢٨ مارس اعلان كوميونة باريس الثورية رسميا
٣٠ مارس الغت الكوميونة التجنيد الاجباري والجيش النظامي؛ الحرس الوطني الذي بإمكان كل القادرين على حمل السلاح الانضمام له، اصبح هو فقط القوة المسلحة الوحيدة. الغت الكوميونة كل الايجارات المستحقة للدور السكنية من اكتوبر ١٨٧٠ حتى ابريل ١٨٧١. في نفس الوقت تم تثبيت كل الاجانب المنتخبين في الكوميونة في مناصبهم، لأن “علم الكوميونة هو علم الجمهورية العالمية”. اتخذت الكوميونة العلم الاحمر علما لها بدلا من علم الثورة الفرنسية مثلث الالوان، وعادت لاستخدام تقويم الثورة الفرنسية.
رغم الاختلافات الداخلية، بدأت الكوميونة بمحاولة الحفاظ على استمرار اداء الخدمات العامة لمدينة يبلغ تعداد سكانها وقتها ٢ مليون نسمة. استطاعت الكوميونة ايضا الوصول الى تحقيق اجماع حول عدد من السياسات الذي استهدف محتواها تحقيق اشتراكية ديموقراطية تقدمية وعلمانية اكثر من كونها ثورة اجتماعية. قصر عمر الكوميونة (اقل من ٦٠ يوم) كان يعني ان العديد من القرارات والقوانين لم يتم تطبيقها فعليا.
١ ابريل اعلنت الكوميونة ان اعلى مرتب يتقاضاه اي عضو في الكوميونة لن يتعدى ٦٠٠٠ فرنك، وهو اجر العامل المتوسط انذاك.
٢ ابريل استغاث تيير ببسمارك من اجل قمع كوميونة باريس ليأذن لهم بامداد جيش فرساي بالاسرى الفرنسيين في سيدان وميتز. في مقابل الغرامة البالغة ٥ بلايين فرنك، وافق بسمارك على ذلك. بدأ الجيش الفرنسي حصار باريس. تعرضت باريس بشكل مستمر للقصف بالمدافع.
اصدرت الكوميونة قانونا بفصل الكنيسة عن الدولة، والغاء كل الميزانيات التي كانت تدفعها الدولة لاغراض ومصالح دينية اضافة الى تحويل كل ممتلكات الكنيسة الى ملكيات عامة وطنية. اعلنت الكوميونة ان الدين شأنا شخصيا صرفا.
٥ ابريل اصدرت الكوميونة قانونا بشأن الرهائن في محاولة لمنع اعدام الحكومة الفرنسية لمن يسقط من رجال الكوميونة في الاسر. في ظل هذا القانون، كل الاشخاص المدانين بانهم على اتصال بالحكومة الفرنسية تم احتجازهم بوصفهم رهائن. هذا القانون يختلف المؤرخون حول هل تم تنفيذه فعليا ام لا.
٦ ابريل اخرجت الكتيبة رقم ١٣٧ مقصلة الثورة الفرنسية الكبرى من مكانها وتم احراقها في العلن وسط تهليل الجمهور المحتشد.
٧ ابريل استولى الجيش الفرنسي على السين عند مروره بنويي، في الجبهة الغربية من باريس. في رد فعل على اعدام الحكومة الفرنسية لرجال الكوميونة الذين يقعون في اسرها، اصدرت الكوميونة تصريحا سياسيا بتبنيها سياسة “العين بالعين”، مهددة بالثأر.
٨ ابريل اصدرت الكوميونة قانونا بمنع كل الرموز والصور والشعارات والصلوات الدينية من المدارس – بكلمة “كل ما يمت بصلة الى مجال ضمير الفرد” صدر قرار بحظره من المدارس. تم تطبيق القانون تدريجيا.
١١ ابريل في هجوم على ضواحي باريس الجنوبية، اجبرت قوات العمال المسلحة بقيادة الجنرال ايود الجيش الفرنسي على التراجع وقد تكبد خسائر ثقيلة.
١١ ابريل ناتاني لو ميل، عاملة اشتراكية في تجليد الكتب، واليزابث ديمترييف، احدى الشابات الروسيات المنفيات ومساعدة لكارل ماركس، مع نسوة اخريات انشأن اتحاد النساء من اجل الدفاع عن باريس ورعاية الجرحى. طالبت هذه الجمعية رغم اقتناعها بأن كفاحهن ضد الاستبداد الابوي يتحقق من خلال كفاحهن ضد الرأسمالية، بالمساواة بين النوعين، والمساواة في الاجر، وحق الطلاق للنساء، وحق الزواج المدني والتعليم المهني للفتيات. وطالبن ايضا بعدم التمييز ضد العشيقات ومساواة الاطفال الغير شرعيين، الغاء الدعارة.
١٢ ابريل قررت الكوميونة ان عمود النصر في ميدان فيندوم، والذي تم بناءه من المدافع التي وقعت في ايدي نابليون بعد حرب ١٨٠٩، يجب ازالته وتدميره كرمز للروح الوطنية المتعصبة وتحريض على الكراهية الوطنية. تم تنفيذ هذا القرار في ١٦ مايو.
١٦ ابريل اعلنت الكوميونة تأجيل كل التزامات الديون لمدة ثلاث سنوات والغاء الفوائد عليها. امرت الكوميونة بعمل جداول احصائية للمصانع التي تم اغلاقها بواسطة اصحابها، ووضعت خطط تشغيلها بواسطة عمالها التي كان يعملون بها سابقا، والذين يجب انتظامهم في جمعيات تعاونية، وايضا وضعت خطط لتنظيم هذه التعاونيات في اتحاد كبير للصناعة.
٢٠ ابريل قطع تيير المفاوضات من اجل تبادل الرهائن مع الكوميونة، والتي كانت قد اقترحتها الكوميونة لتبادل اسقف باريس الاكبر جورج داربوي وقساوسة اخرين كانوا رهائن لدى الكوميونة، مقابل رجل واحد فقط، وهو بلانكي، الذي كان قد انتخب مرتان للكوميونة بينما هو يقبع سجينا في كليرفو.
٢٧ ابريل والانتخابات البلدية على الاعتاب، قام تيير بتمثيل واحد من مسرحياته العظيمة للمصالحة. فقد صاح من على منصة الجمعية الوطنية: “لا توجد مؤامرة على الجمهورية سوى تلك المؤامرة في باريس، والتي تجبرنا على ان نريق الدم الفرنسي. انا اكرر مرة اخرى واخرى…”. لم يحصل انصار الشرعية المتحدون وانصار اورليانز والبونابرتيون (حزب النظام) من ٧٠٠ الف صوت في البلدية سوى على ٨ الاف فقط.
٣٠ ابريل الكوميونة تصدر قانونا باغلاق محلات الرهونات والربا، على ارضية انها محلات لاستغلال العمال، وفي تناقض مع حق العمال في ادوات عملهم وفي الحصول على ائتمانات.
٥ مايو امرت الكوميونة بهدم مصلى التوبة، الذي تم بناءه من اجل التكفير عن اعدام لويس السادس عشر
٩ مايو استولى الجيش الفرنسي على قلعة ايسي، التي تحولت الى حطام وخرائب تامة بسبب القصف المدفعي الفرنسي.
١٠ مايو معاهدة السلام التي تم ابرامها في فبراير، تم التوقيع عليها الان، والمعروفة باسم معاهدة فرانكفورت. (اقرتها الجمعية الوطنية في ١٨ مايو)
١٦ مايو هدم عمود الفندوم. اقيم عمود الفندوم بين عامي ١٨٠٦ و١٨١٠ في باريس تكريما لانتصارات فرنسا النابليونية؛ شيد هذا العمود من مدافع العدو التي وقعت في ايدي الجيش الفرنسي وتوجوه بتمثال لنابليون.
الاسبوع الدموي (من ٢١ الى ٢٨ مايو)
٢١ مايو سمح البروسيون الذين امتلكوا قلاع شمال وشرق باريس لقوات فرساي بالتقدم عبر الاراضي شمال المدينة، والتي كانت ارضا محرمة عليهم في ظل شروط الهدنة. اقتحمت قوات فرساي بوابة في الجزء الغربي من سور المدنية المحصن وبدأت اجتياح المدنية. احتلت قوات فرساي الاحياء الغربية الراقية بمساعدة وترحيب من سكانها الذين لم يغادروا باريس بعد الهدنة. كانت المقاومة في الجزء الغربي من باريس ضعيفة. استمر الجيش الفرنسي يذبح العمال، ويطلق النار على المدنيين فور الاشتباه. قاد هذه الحملة مارشال ماكماهون، الذي اصبح فيما بعد رئيسا لفرنسا. تم اعدام عشرات الالاف من رجال الكوميونة والعمال، ودون محاكمات.
٢٤ مايو تقول الموسوعة الكاثوليكية ان اكثر من خمسين رهينة لدى الكوميونة، وفي بعض تلك الحالات كان الاعدام بناء على اوامر مكتوبة من قادة الكوميونة، وفي حالات اخرى قام الدهماء بالقتل. من بين هؤلاء الضحايا كان اسقف باريس الاكبر، جورج داربوي.
كانت اعنف مقاومة في الاحياء الشرقية من المدينة، احياء الطبقة العاملة، حيث دار القتال من شارع الى شارع.
٢٧ مايو بقي القليل من جيوب المقاومة، خصوصا في الاحياء الافقر في المناطق الشرقية مثل بيلفيل ومينيلمونتان.
٢٨ مايو يقال ان القتال توقف اواخر فترة ما بعد ظهيرة او اوائل مساء هذا اليوم. طبقا لتاريخ هذه الفترة، اخر المتاريس كان المتراس في شارع رامبونو في بلفيل.
اصدر المارشال مكماهون اعلانا: “الى سكان باريس. جاء الجيش الفرنسي لانقاذكم. باريس قد تحررت. في الساعة الرابعة استولى جنودنا على اخر معاقل المتمردين. اليوم: قد انتهى القتال. ولد النظام والعمل والامن من جديد”.
بدأت حملات الانتقام المحمومة. مساندة الكوميونة باي شكل من الاشكال اصبحت جريمة سياسية توجه للالاف. بعض رجال الكوميونة اطلق عليهم الرصاص وظهورهم الى ما بات يعرف بجدار الكوميونة في مدافن بير لا شيز بينما قدم الاف اخرين الى محاكمات صورية سريعة ونفذ فيهم الاعدام رميا بالرصاص. تمت هذه المذابح في اماكن عديدة اشهرها حدائق لكسمبورج وقشلاقات لوبو خلف مبنى الاوتيل دي فيل. تقريبا سيق اكثر من ٤٠ الف شخص لفرساي من اجل محكامتهم. طابور طويل من الرجال والنساء والاطفال ذهبوا بهم الى فرساي من اجل المحاكمة: حاكموا ١٢ الف شخص، وثبتت التهمة بحق ١٠ الاف، واعدموا ٢٣ رجلا. تم ترحيل ٤٠٠٠ الى نيوكاليدونيا كمنفى دائم.
يقدر عدد من قتل في الاسبوع الدامي بين ١٠ الاف الى ٥٠ الف. طبقا لبنيديكت اندرسون، “سبعة الاف اعتقلوا او تم ترحيلهم” و”تقريبا ٢٠ الف تم اعدامهم” .
بينما نجح الاف اكثر، من بينهم قادة الكوميونة، في الهرب الى بلجيكا وبريطانيا (ملجأ آمن لحوالي ٣ او ٤ الاف لاجئ)، وايطاليا واسبانيا والولايات المتحدة. تم العفو عن هؤلاء اللاجئين في ١٨٨٠. بعضهم اصبحوا سياسيين بارزين، وتقلدوا مناصب مستشارين او نواب او سيناتورات.
سيرة حياة باكونين
١٨١٤ في الثلاثين من مايو، ولد ميخائيل الكسندروفيتش باكونين في قرية برموخينو في مقاطعة تفار من روسيا.
١٨٢٨ ارسلته عائلته الى سان بطرسبورج لاعداده من اجل الالتحاق بمدرسة المدفعية
١٨٢٩ دخل مدرسة المدفعية في سان بطرسبورج
١٨٣٢ تخرج من المدرسة كضابط حديث وارسل الى ميسك وجرودنو في بولندا.
١٨٣٥ استقال من الجيش
١٨٣٦ انتقل الى موسكو ليدرس الفلسفة
١٨٣٦ ترجم للفيلسوف الالماني فختة “محاضرات حول مهنة العالم الاكاديمي”
١٨٣٨ في مارس نشر مقدمة لكتاب هيجل “محاضرات الجيمنازيوم”
١٨٤٠ انتقل الى سان بطرسبورج وفي يونيو الى برلين للدراسة والاعداد للاستاذية في جامعة موسكو.
١٨٤٢ انتقل الى درسدن وتعاون مع ارنولد روج في نشر الحوليات الالمانية
١٨٤٢ في اكتوبر نشر كتابه “الرجعية في المانيا”
١٨٤٣ انتقل الى برن وزيورخ، وتلاقى مع فيلهلم وايتلنج
١٨٤٤ في فبراير، انتقل الى باريس عبر بروكسل
١٨٤٤ في فبراير، صدرت اوامر الحكومة الروسية بعودته الى روسيا
١٨٤٤ صدر ضده حكم بنزع مرتبة النبالة عنه وحكم غيابي بالاشغال الشاقة في سيبريا
١٨٤٤ حتى عام ١٨٤٧،تقابل مع برودون مرارا ومع ماركس احيانا، ونسج علاقات صداقة بجورج صاند
١٨٤٧ في ٢٩ نوفمبر، في احتفال لذكرى الانتفاضة البولندية لعام ١٨٣٠، القى باكونين خطابا ندد فيه بالحكومة الروسية مما عرضه لاحقا للطرد من فرنسا. اشاع السفير الروسي في باريس في محاولة منه لتلويث سمعة باكونين اشاعات كاذبة عن استخدام الحكومة الروسية للاخير كعميل سري داخل الحركة الثورية.
١٨٤٧ خرج بكونين مطرودا من فرنسا وانتقل الى بروكسل حيثى التقى بماركس مرة اخرى.
١٨٤٨ في فبراير، عاد الى باريس بعد ثورة فبراير هناك
١٨٤٨ في مارس، التقى ماركس وانجلز في كولونيا وبدأ الانشقاق معهم بعد تنديد ماركس بهرفيغ صديق باكونين، الذي قاد حملة تعيسة كان مصيرها الدمار من المنفيين الالمان الى بادن على امل اشعال انتفاضة هناك.
١٨٤٨ في يونيو، شارك في المؤتمر السلافي وفي انتفاضة براغ
١٨٤٨ في يونيو، نشر ماركس تقارير كاذبة عن ان باكونين عميل روسي تسبب في القبض على عدد من البولنديين.
١٨٤٨ في الجزء الاخير من العام، خرج باكونين مطرودا من بروسيا وساكسونيا وامضى بقية العام في مقاطعة انهالت.
١٨٤٨ في ديسمبر، نشر نداء الى السلافيين
١٨٤٩ وصل باكونين سرا الى لايبزج للاعداد لانتفاضة في بوهيميا
١٨٤٩ انتقل الى درسدن
١٨٤٩ في ٤ مايو، انفجر التمرد الجماهيري في درسدن وبزغ نجم باكونين كزعيم “بطولي”.
١٨٤٩ في ٩ مايو، سحقت الانتفاضة، وهرب باكونين وريتشاد فاجنر وهيوبير الى خيمنتز حيث قبض على الاثنين باكونين وهيوبير بينما اختبأ فاجنر عند اخته وهرب.
١٨٥٠ في ١٤ يناير، وهو محتجز في قلعة كونيجشتاين، صدر الحكم عليه بالموت.
١٨٥٠ في يونيو، خفف حكم الاعدام الى السجن المؤبد، وبعده طرد خارج البلاد الى النمسا.
١٨٥١ في مارس، اعتقل باكونين اولا في براغ، ثم في اولمتز حيث حكم عليه بالاعدام شنقا. ورغم تخفيف الحكم الى السجن المؤبد، قيدوا باكونين بالاغلال من اليدين والقدمين بجدار الزنزانة وتسبب ذلك في معاناته بشدة. بعد ذلك بزمن قصير، تم تسليمه للروس وسجن في دهاليز قلعة بيتر وبول.
١٨٥١ تقدم باكونين بطلب العفو من القيصر نيقولا الاول
١٨٥٤ انتقل الى سجن شوسلبرج حيث مرض بالبلاجرا، مما سبب سقوط اسنانه كلها.
١٨٥٧ لان موقف القيصر الكسندر واطلق سراحه من السجن وحكم عليه بالنفي المؤبد في سيبريا
١٨٥٨ تزوج من انطونيا كوياتكوفسكي، وهي فتاة بولندية شابة، في الخامس من اكتوبر وانتقل الى اركوتسك.
١٨٦١ في يونيو، بذل باكونين جهودا مضنية ليهرب من سيبريا، ويصل الى يكولافسكي في يوليو، ثم يبحر من ستريلوك الى كاستري حيث يركب ظهر سفينة تجارية امريكية، فيكري، الى هاكودات، باليابان. ثم يشق باكونين طريقه الى يوكوهاما، وفي اكتوبر، يبحر الى سان فرانسيسكو. في نوفمبر يصل الى نيويورك، وفي ٢٧ ديسمبر، ١٨٦١، يصل الى لندن.
١٨٦٢ ينشر كتابه رسالة الى اصدقائي الروس والبولنديين والسلاف الاخرين، وكتاب قضية الشعب: رومانوف ام بوجاتشييف ام بيستيل؟
١٨٦٣ يذهب الى استكهولم ويجمع شمله مع زوجته، ثم يعود الى لندن، ومنها الى ايطاليا.
١٨٦٤ في منتصف العام، يعود الى السويد، ثم الى لندن، حيث يرى ماركس، ومنها الى باريس حيث يعيد تجديد صداقته مع برودون، وفي النهاية ينتقل الى ايطاليا حيث يمكث هناك حتى عام ١٨٦٧. في ايطاليا مكث باكونين اولا في فلورنسا.
١٨٦٤ اسس صحيفة الحرية والعدالة
١٨٦٥ انتقل الى نابولي
١٨٦٦ اسس جمعية الاخوان الدوليين، او تحالف الاشتراكيين الثوريين
١٨٦٧ ارتحل الى جينيف، وحضر وخطب في المؤتمر الافتتاحي لعصبة السلام والحرية وكتب كتاب “الفدرالية، والاشتراكية وضد اللاهوتية.
١٨٦٨ اسس في ٢٥ سبتمبر التحالف الدولي للديموقراطية الاشتراكية
١٨٦٨ انضم باكونين في يوليو الى قسم جنيف من جمعية العمال الدوليين، وانتقل الى هناك.
١٨٦٩ في يناير، انحلت جمعية التحالف السرية
١٨٦٩ في مارس بدأ التعاون مع نيتشاييف
١٨٦٩ في الخريف، انتقل الى لوكارنو وترجم المجلد الاول من رأس المال لماركس.
١٨٦٩ في ٢٨ مارس، ارسل ماركس “بالمراسلات السرية” الى اصدقاءه الالمان ليثير فيهم الكراهية ضد باكونين باعلانه عميلا سريا لحزب كل السلافيين لقاء مبلغ مزعوم يساوي ٢٥ الف فرنك في العام.
١٨٧٠ قطع باكونين في يونيو علاقته مع نيتشاييف.
١٨٧٠ في اغسطس، تم طرد باكونين من قسم جنيف في الاممية بسبب دعمه لفصيل الجورا.
١٨٧٠ نشر باكونين كتابه “رسائل الى رجل فرنسي”.
١٨٧٠ في ٩ سبتمبر، غادر باكونين لوكارنو ووصل الى ليون في ١٥ سبتمبر.
١٨٧٠ في ٢٨ سبتمبر، قمعت السلطات انتفاضة جماهيرية، واضطر باكونين الى الهرب امام امر بالقبض عليه. اختبأ باكونين في مارسيليا.
١٨٧٠ في ٢٤ اكتوبر، ابحر من مارسيليا الى لوكارنو.
١٨٧٠ وحتى ١٨٧١، كتب كتاب امبراطورية السوط الالمانية، متضمنا الاقسام التي نشرت منفصلة بعد ذلك مثل الإله والدولة
١٨٧١ كتب مقالة كوميونة باريس وفكرة الدولة ونشر النظرية السياسية عند ماتزيني والاممية
١٨٧٢ في صيف وخريف هذا العام، مكث باكونين في زيوريخ
١٨٧٢ في ٧ سبتمبر، تم طرد باكونين من الاممية الاولى في مؤتمر لاهاي.
١٨٧٣ نشر باكونين كتابه الدولاتية والاناركية
١٨٧٣ في ١٢ اكتوبر، تقاعد باكونين عن الكفاح واستقال من فدرالية الجورا
١٨٧٤ في النصف الاول من العام، مكث باكونين في ايطاليا حيث عاش مع كافييرو بالقرب من لوكارنو
١٨٧٤ في يوليو، لحق باكونين باصدقائه في بولونيا حيث خططوا للقيام بانتفاضة، ولكنهم اجبروا على العودة لسويسرا متنكرين واستقروا في لوجانو.
١٨٧٥ سافر باكونين وصحته بالغة السوء الى برن ودخل المستشفى هناك.
١٨٧٦ في الاول من يوليو عند الظهر اسلم باكونين الروح

هل يمكن لواشنطن أن تصبح مثل القاهرة ؟

هل يمكن لواشنطن أن تصبح مثل القاهرة ؟
مايكل ألبرت
11 فبراير شباط 2011

أن ترى الملايين يحتفلون فهذا شيء يرفع المعنويات . لكن أن تراهم يحتفلون ليس بنصر رياضي أو حتى بانتصار انتخابي مفاجئ , بل بتدفق هائل للمقاومة تمكن من الإطاحة بديكتاتور مكروه ( بغيض ) , كما يردد الناس في شوارع القاهرة – فإن هذا شيء يفوق الوصف – لا توجد كلمات يمكن أن تصفه .
أما الآن ماذا بعد ؟
حسنا , نحن لا نعرف النتيجة في الأيام , الأسابيع , الأشهر التالية , لكننا نعرف من هم المتنافسون .
ستطالب النخب في مصر و على امتداد العالم بما تسميه “بانتقال هادئ” الذي هو مصطلح تقني يعني , أو إذا أردت كناية عن , “أقل ما يمكن من التغيير و بالتأكيد عدم المساس ببنى المجتمع الأساسية” .
إن هدف النخب سوءا داخل مصر أو خارجها هو أن تستمر في الحصول على فوائد أكثر تواضعا أو تهذيبا مع تجنب خسائر كبيرة بسبب “إزاحة رجلها” بينما تعمل على أن تضمن ألا يقوم أي كان بأن يقف أطول مما ينبغي في البيئة الحرة الجديدة ما لم ينصب ليفعل ذلك . أو لنصوغ القضية بشكل أقل دراماتيكية فإن الهدف هو إقامة “ديمقراطية” انتخابية ذات حقوق رسمية أكثر مما في الماضي , و حتى بعض المكاسب الحقيقية فيما يتعلق بمستوى الحياة اليومية , لكن أن يبقى الأغنياء و الأقوياء يملكون كل السلطة تقريبا .
على الطرف الآخر لدينا الشعب العريض . هذا سيضم الكثيرين ممن يرغبون بالعودة إلى الاستقرار , حتى لو كان يعني استقرار سيطرة النخبة . لكنه أيضا يضم آخرين ممن يريدون تغييرا حقيقيا , بما في ذلك توزيع السلطة على الناس , لكن ممن لديهم فكرة محدودة جدا عن أي شكل يجب أو يمكن لمثل هذا التوزيع أن يأخذه . بعد هؤلاء سيكون هناك الكثير أو البعض , أو لا أحد يدري أعدادهم , ممن يملكون بعض الأفكار , ربما المتناقضة مع بعضها البعض غالبا , عما يجب أن تكون عليه مصر الجديدة .
إذن فالمجموعة الأولى , النخب , سوف تتصارع مع المجموعة 3 , أي أولئك الذين يريدون تغييرا حقيقيا . و بينهما , توجد المجموعة التي ستقرر النتيجة من خلال الطريق الذي ستميل نحوه و تقرر السير فيه .
ستستمر المعركة الأولى طالما استمر العسكر بالحكم . إذا أمكن معارضة الوصاية العسكرية , فسينتقل التركيز عندها إلى المعركة على الرئيس الجديد . إذا استمرت هاتين المعركتين باحتلال مركز المشهد لفترة طويلة , فعلى الأغلب أن المجموعة الثالثة ستكون قد هزمت , على الأقل مؤقتا . لكي تنتصر المجموعة الثالثة , فيجب عوضا عن ذلك أن تنتقل المعركة بسرعة إلى إقامة دستور جديد يتضمن تغييرات بنيوية حقيقية , أو ربما الدعوة إلى استفتاء شعبي قادر على أن يقرر تغييرات حقيقية , أو تنصيب رئيس يساري حقا قادر على الدعوة ( و الدفاع ) عن تغييرات كهذه , أو حتى أن يتولى الناس أنفسهم زمام ( مقاليد ) الأمور و أن يبدؤوا بإدارة المعامل و الأحياء ذاتيا فارضين ( محققين ) التغيير وفق خيارهم هم .
حتى الآن أظهرت مصر أن شعبا شجاعا بما يكفي يمكنه أن ينزع سلاح جهازي الجيش و الشرطة و أن يطيح بحاكم بغيض . هذه ليست رسالة صغيرة أو بسيطة . ما يمكن أن يحدث في مصر يمكن أن يحدث , إذا تشكل نفس التصميم و القناعة و الشجاعة عند الناس , في أماكن أخرى كثيرة جدا من العالم , بما في ذلك أوروبا و أمريكا الشمالية . إن المشكلة في التغيير هو أنه لا توجد بعد قوة كافية لتحقيقه . المشكلة هي في أن يثور ( ينهض ) الناس أنفسهم بدرجة كافية .
لماذا احتاجت مصر لأكثر من عقدين لتطرد ديكتاتورية وحشية و كريهة ؟ غالبا بسبب الخوف , التشكك , و خاصة الاعتقاد المكتوم بأنه لا يمكن تحقيق شيء أفضل . و الأمر هنا لا يختلف في بقية البلدان . إن القيود التي تقيدنا بظروف الاستبداد هي بشكل هائل قيود التشكك . إن الاعتقاد أنه لا يوجد بديل , أو بديل قابل للتحقق , هو ما يمنع الناس من التحرك إلى الأمام و الانتصار . إن التشكك هو أكبر عقبة أمام التغيير من أية مجموعة دبابات أو أوامر . إن الأمل المبني على العلم ( أو على المعرفة ) هو أكثر عوامل التغيير قوة من أي جمعية سرية , أو قضية أمام المحاكم أو انتخابات ما .
إذا كنا في بقية البلدان , خاصة في بلدي الولايات المتحدة , نريد أن نحتفل بانتصارات حركاتنا فعلينا أن نتغلب على التشكك . لكن لا يمكننا التغلب على التشكك فقط بأن نرفض الديكتاتورية أو العلاقات القائمة . لدينا هنا في الولايات المتحدة بالفعل ما يعنيه رفض الديكتاتورية , و بالنسبة للأغلبية , فإنهم يعرفون أن مجتمعنا ينكر الكرامة و التحقق الإنسانيين .
يمكننا فقط أن نكتسب قوة كافية لكي نحظى بانتصارات نحتفل بها ليس فقط إذا رفضنا المؤسسات المحددة للمجتمع , بل أيضا إذا طورنا اعتقادا مشتركا , أملا مشتركا , و رغبة قوية مشتركة , فيما يتعلق بالمؤسسات التي نريد أن نستبدلها بها .
هذه الملاحظة واضحة . لكن معناها ( دلالتها ) بالنسبة لما يجب علينا فعله لكي نكسب عالما أفضل – أي استخدم عقولنا و طاقتنا لننهض بتصميم تعززه المعرفة ليس فقط في سبيل مكاسب آنية مؤقتة بل عوضا عن ذلك أيضا في سبيل غاية ( هدف ) إيجاد طريقة حياة جديدة في مجتمع جديد – تتبخر ( تتلاشى ) في مواجهة ما نختار أن نفعله في الواقع .
لو أننا تحركنا بقناعة حقيقية , و رغبة , في أن نحصل نحن أيضا على لحظات احتفالنا , لكنا قد طورنا رؤية , و بدأنا بتطبيقها في الحاضر , و كسبنا الدعم لها بالنقاش ( الحوار ) , و بقوة المثال , و بممارسة الباع الطويل في تحقيق مكاسب جزئية تتوافق مع خوض معارك أكبر لاحقا .
عندما تتحقق الثورة في بلد ما لا يمكن نسخ طريقته في الثورة حرفيا من بلد آخر . هناك الكثير من الاختلافات بين البلدان أمام مثل هذا النسخ المجرد . لكن يمكننا أن ننظر و أن نقرر ما الذي جرى على مستوى أكثر عمومية في مصر , و ما الذي أنتج هذا التغيير العام – مكتشفين ليس فقط الأفعال القريبة أو حتى البعيدة المدى , بل نوع التغيير في التفكير و الإحساس بين الناس – و عندها يمكننا أن نسأل , مهما بدا ذلك صعبا , و أيا كان طويلا الوقت الذي قد يأخذه ذلك – ما الذي يمكننا أن نفعله هنا في بلدنا بحيث أن سيؤدي بنا إلى ذلك النمط الواسع من التغيير في التفكير و الإحساس , حتى و نحن نواجه العقبات في طريقنا , لكي نحصل على مستقبل أفضل نستحقه .
هذا هو الدرس المصري حتى اليوم , و أرجو أن يصبح حتى أكثر وضوحا و اكتمالا مع مرور الأسابيع .

مايكل ألبرت ( ولد 1947 ) ناشط و كاتب أمريكي , من مؤسسي موقع و مجلة ز نت التقدمية , كان ناشطا في الحركة الطلابية ضد حرب فيتنام في الستينيات , مؤلف كتاب الحياة بعد الرأسمالية .

نقلا عن http://www.zcommunications.org/can-washington-be-cairo-by-miclael-albert

الاناركية مجتمع بلا رؤساء او المدرسة الثورية التي لم يعرفها الشرق

إعداد وعرض:احمد زكي

القاهرة يونيو 2007.

مقدمة
في العالم اليوم…
“من أوروبا الشرقية حتى الأرجنتين، ومن سياتل حتى مومباي، تتوالد من الأفكار والمبادئ الأناركية رؤى وأحلام راديكالية جديدة. وغالبا لا يطلق أولئك المدافعون عن هذه الأفكار على أنفسهم اسم: “الأناركيون”. انهم يسمون انفسهم أسماء اخرى مثل انصار “التسيير الذاتي – autonomism، مناهضة السلطوية – anti-authoritarianism، العمل الافقي – horizontality، الزاباتاوية – Zapatismo، الديموقراطية المباشرة – direct democracy..”. الا ان المرء يستطيع ان يميز في هذه الفرق جميعها نفس جوهر المبادئ الاناركية: اللامركزية، الانضمام الطوعي للجمعيات، المعونة المتبادلة، انماط شبكات العمل، وفوق كل شيء، نبذ فكرة أن الغاية تبرر الوسيلة، بل وإهمال فكرة أن شغل الفرد الثوري الشاغل هو الاستيلاء على سلطة الدولة ثم يبدأ، بعد ذلك، فرض افكار جماعته بقوة السلاح” .
وفي التاريخ القريب بالامس…
ارتفعت راية الاناركية وسط اهم احداث التمرد الاجتماعي في تاريخ الغرب الحديث: من كوميونة باريس١٨٧١، وعبر الثورة الروسية ١٩١٧، الى الحرب الاهلية الاسبانية ١٩٣٦-١٩٣٩.
في كل عصر ومع كل مجتمع، تتغير ملامح الاناركية ويتغير وجودها المادي، “…حتى ان الاناركية الان كفكرة، وفوق كل شيء، كأخلاقيات للممارسة العملية – قد تطورت لتصبح فكرة بناء مجتمع جديد ’من داخل قشرة القديم‘” . ومع ذلك، الاناركية دون شك هي فكرة من اكثر الافكار التي ساء تصويرها في النظرية السياسية!
ما هي الاناركية؟
الاناركية كلمة يونانية تتكون من مقطعين: “أنا”، و”آركي”، حيث كلمة “أنا” تعني “دون”، وكلمة “آركي” معناها “رئيس” او “سلطة”، اي هي الفكرة الداعية الى مجتمع “دون رؤساء” او “دون سلطة”. لذا، فالاناركية في التحليل الاخير هي اسم اصطلح على اطلاقه على تلاوين شتى من تيار عريض من تيارات الحركة الاشتراكية الحديثة، نشأ من رحم الثورة الفرنسية الكبرى (1789 – 1815) التي كانت اهم العلامات الفارقة على اجتياح وسيادة النظام الرأسمالي مجتمعات الغرب بداية ثم توسعه وانتشاره حتى شمل مجتمعات الكوكب كله تقريبا.
تفترض معظم بيانات تاريخ الأناركية أنها كانت مماثلة جوهريا للماركسية: برزت الأناركية كبنات أفكار لعدد معين من مفكري القرن التاسع عشر (برودون، وباكونين، وكروبتكين…)، واستمرت حينئذ في الهام منظمات الطبقة العاملة، والمضطهدين اجتماعيا، ودخلت في نسيج النضالات السياسية وانقسمت إلى شيع…
ولا يعني الأناركيون بفكرة “مجتمع بلا رؤساء”، انه مجتمع يتكون من نمط واحد لافراد متماثلين في كل شيء، حتى انك لا تستطيع التمييز بينهم، بنفس القدر الذي لا تستطيع التمييز به بين اصناف الدجاج الذي تنتجه صناعة الدواجن الحديثة. بل إن الأمر عند الأناركيين هو، للمفارقة، النقيض من ذلك تماما. فهذه المدرسة الثورية، على اختلاف جماعاتها، تشترك في اعلاء قيمة الحرية الفردية، وكراهية الايديولوجيا، وتعلو بمرتبة الحرية الشخصية علوا سامقا. بل ان هناك من تلاوينها من يصل بقدسية الحرية الشخصية الى حدها الاقصى – فريق “الفردويين – individualists”، ومنهم حتى من يرفض التكنولوجيا الحديثة بما تمليه على البشر من اعتمادية وما تفرضه من تقسيم للعمل وبناء هياكل تراتبية لتسيير المجتمع، وبالتالي التنازل عن حريتهم الشخصية مقابل ما يقدمه لهم هذا التطور التكنولوجي من تسهيلات في المعيشة اليومية (البدائيون primitivists).
يرفض الاناركيون القبول بفكرة ان تحتكر قلة من افراد المجتمع ايا كانت مبررات وجود هذه القلة امتيازات يترتب عليها حصولهم على منافع وفوائد لا تنعم بها الاغلبية. ويرون ان هذا الاحتكار سوف يمكن هذه القلة من تملك سلطة اتخاذ القرار في مختلف اوجه المعيشة على حساب مصلحة الاغلبية.
على ان كلمة “الاناركية” في معظم اللغات الاوروبية، فضلا عن كونها اسم لهذه المدرسة من الاشتراكية، فهي تستخدم لغويا ايضا بمعنى “الفوضى”. او، على حد تعبير اريكو مالاتيستا : “حيث ان المعتقد الشائع هو ان الحكومة امر ضروري وانه دون حكومات لا يمكن وجود سوى الفوضى والاضطراب، من الطبيعي والمنطقي ان الاناركية، والتي تعني غياب الحكومة، يجب ان تعني غياب النظام العام” .
وعند ترجمة الصحافة السياسية العربية لهذا المصطلح السياسي حول بدايات القرن العشرين، لم تستعمل هذه الصحافة المصطلح السياسي – الاناركية – ولكنها استخدمت الاستعمال اللغوي الاوروبي الشائع للكلمة، “الفوضى”، واشتقت منه اسما للحركة – “الفوضوية”. ولهذا اصبح من الطبيعي ان تشتق اسما للداعين لها وهو “الفوضويون” اي الداعون الى الفوضى وشريعة الغاب. وهكذا اتفق الشرق والغرب على امر وهما نادرا ما يتفقان.
ولكن ببساطة، لم يكن ابدا المعنى الاصلي الضيق لكلمة اناركية هو “لا حكومة” وفقط. الاناركية معناها هو “دون رؤساء”، او المعنى الاكثر شيوعا، “دون سلطة”، وهو المعنى الذي يستخدمه الاناركيون باستمرار. مثلا نرى كروبتكين يدافع عن الاناركية بمنطق أنها “لا تهاجم فقط الرأسمال، ولكنها تهاجم ايضا المصدر الاكبر لسلطة الرأسمالية: القانون والسلطة والدولة”.
لهذا السبب، بدلا من كون الاناركية مناهضة للدولة او للحكومة بشكل صرف، فهي اوليا حركة ضد التراتب الهرمي في المجتمعات. لماذا؟ لان التراتب الاجتماعي الهرمي هو الهيكل التنظيمي الذي يجسد السلطة. وحيث ان الدولة هي الشكل “الاعلى” للتراتب الهرمي، فالاناركية، بحكم التعريف، معادية للدولة؛ ولكن هذا لا يصلح ان يكون تعريفا كافيا للاناركية.
هذا يعني ان الاناركيين الحقيقيين يعارضون كل اشكال التنظيم التراتبي الهرمي، وليس الدولة فقط. في كلمات بريان موريس : “الاناركيون هم اناس يرفضون كل اشكال الحكومات او السلطة القهرية، كل اشكال التراتب الهرمي والهيمنة. لذلك هم يعارضون ما تسميه الناشطة الحركية المكسيكية فلوريس مورجان ’الثالوث الكئيب‘ – الدولة والرأسمال والكنيسة. وهكذا يصبح الاناركيين معارضون لوجود الدولة والرأسمالية كلتيهما، اضافة الى كل اشكال الدين والسلطة. ولكن الاناركيين يسعون ايضا الى تأسيس او الى حدوث شروط تحقيق اناركية اجتماعية، بمعنى، مجتمع لا مركزي دون مؤسسات قهرية، مجتمع ينتظم من خلال فدراليات للجمعيات الطوعية”
وتأتي فكرة “التراتب الاجتماعي الهرمي” في هذا السياق كتطور اخير في فكر الاناركيين؛ الاناركيون “الكلاسيكيون” أمثال برودون وباكونين وكروبتكين استخدموا هذه الكلمة ولكن في احوال نادرة، كانوا يفضلون استخدام كلمة “السلطة”، والتي كانت تستخدم اختصارا لكلمة “سلطوية”. ومع ذلك، يتضح من كتابات هؤلاء الرواد الثلاثة ان اناركيتهم كانت فلسفة ضد التراتب الاجتماعي الهرمي، وضد التفاوت في السلطة والامتيازات بين الافراد. تكلم باكونين عن ذلك عندما هاجم السلطة “الرسمية” ولكنه دافع عن “النفوذ الطبيعي”، وايضا عندما قال: “هل تريد ان تسمح لأي فرد ان يظلم اخيه الانسان؛ ثم تبات متأكدا ان السلطة لن يحتكرها احدا؟”
وبشكل اكثر عمومية في كلمات ل. سوزان براون ، “الصلة الموحدة” بين الاناركيين هي “ادانة عامة للتراتب الهرمي والسيطرة واستعداد للقتال من اجل حرية الانسان الفرد “.
وفقط لتقرير ما هو واضح، الاناركية لا تعني الفوضى ولا يسعى الاناركيون لخلق الفوضى او حالة انعدام النظام العام. على العكس، يرى الاناركيون انهم يرغبون في خلق مجتمع يقوم على اساس الحرية الفردية والتعاون الطوعي. بكلمات اخرى، هم يقولون بفكرة ان النظام العام يبنى من اسفل لاعلى، وليس النظام المختل المفروض من اعلى على من هو ادنى بواسطة اشكال متنوعة من السلطة. مثل هذا المجتمع سوف يكون مجتمعا اناركيا حقيقيا، مجتمعا بلا رؤساء.
وقد لخص نعوم شومسكي الملمح الرئيسي للاناركية في حوار له حول الاناركية، عندما قرر انه في مجتمع حر عن حق “اي تفاعلات بين البشر في مستوى اكثر من كونه تفاعلات شخصية – بمعنى تفاعل يتخذ اشكال مؤسسية من نوع او اخر – في المجتمع المحلي، او في مكان العمل، او في العائلة او في المجتمع الاوسع، مهما يكون شكله، يجب ان يخضع هذا التفاعل للسيطرة المباشرة للمشاركين فيه. وبالتالي، الامر يعني إنشاء مجالس العمال في الصناعة، وإقامة الديموقراطية الشعبية في التجمعات السكانية المحلية، والتفاعل بين هذه الاشكال، وإنشاء جمعيات حرة للجماعات الاكبر، حتى نصل الى تنظيم المجتمع الدولي ذاته “.
ترفض الاناركية انقسام المجتمع في تراتب هرمي من رؤساء للعمل اسفلهم عمال، أو الى حكام ومحكومين. في الاخير، تنادي الاناركية بمجتمع يقوم على اساس جمعيات حرة طوعية من تنظيمات تشاركية تدار من اسفل الى اعلى.
اشتراكية الاناركية
يقول بيتر كروبتكين، الاناركية هي “النظام الاشتراكي بلا حكومة” .
لذلك، الاناركية هي نظرية سياسية تستهدف خلق مجتمع بلا هياكل هرمية تراتبية سياسية او اقتصادية او اجتماعية. تصر الاناركية على ان غياب الحكام والرؤساء، هو شرط حيوي للنظام الاجتماعي ومجتمع بهذا الشكل هو مجتمع يعمل من اجل تعظيم الحرية الفردية والمساواة الاجتماعية. انهم يرون في هدفي الحرية والمساواة عونا ودعما ذاتيا لبعضهما البعض. او كما في القول المشهور عن باكونين: “نحن مقتنعون ان الحرية دون اشتراكية هي امتياز واجحاف، وان الاشتراكية دون حرية هي عبودية وبربرية” .
وفي الوقت الذي توجد فيه فرق مختلفة من الاناركيين (من الاناركية الفردوية الى الاناركية الشيوعية) الا ان هناك موقفان مشتركان في جوهر افكار الاناركيين يجمعان بينهم كلهم في تيار واحد، وهما: معارضة وجود الحكومات، ومعارضة وجود الرأسمالية.
ففي كلمات الاناركي الفردوي بنيامين توكر ، تصر الاناركية على “الغاء الدولة والغاء الربا الفاحش؛ نهاية حكم الانسان لأخيه الانسان، ونهاية استغلال الانسان لأخيه الانسان”. يرى كل الاناركيين في الربح، والفائدة والريع ربا فاحشا (اي استغلال) ولهذا هم يعارضون هذه الاشكال الثلاث، ويعارضون الشروط التي تخلقهم بنفس القدر الذي يعارضون به الحكومات والدولة.
بالنسبة للاناركيين لا يمكن للانسان ان يكون حرا، اذا ما كان خاضعا لدولة او لسلطة رأسمالية.
وهكذا الاناركية هي نظرية سياسية تدافع عن خلق مجتمع يقوم على اساس قاعدة “لا رؤساء”. وحتى يتحقق ذلك، فهم “بالاشتراك مع كل الاشتراكيين، يصرون على ان الملكية الفردية للارض والرأسمال والالات انتهى زمانها؛ وانه بات محكوما على الملكية الفردية بالاختفاء: وان كل شروط الانتاج المسبقة تصبح وسوف تصبح هي الملكية الجماعية للمجتمع، وتدار وسوف تدار بشكل مشترك بواسطة منتجي الثروة انفسهم. و… يستمر الاناركيون في تأكيد ان النموذج المثالي للتنظيم السياسي للمجتمع هو حالة الاشياء حين تختزل وظيفة الحكومات الى الحد الادنى… [و] ان الهدف النهائي للمجتمع هو اختزال وظيفة الحكومات الى لا شيء – بمعنى، مجتمع دون حكومات” .
على ان معارضة الاناركية للتراتب الاجتماعي الهرمي، لم تقتصر على مجرد معارضة الدولة او الحكومة. فمعارضتهم تلك تناهض كل العلاقات الاقتصادية والاجتماعية السلطوية كذلك، خصوصا تلك العلاقات الناشئة عن الملكية الرأسمالية والعمل المأجور.
في العموم يؤمن الاناركيون بتعددية وتنوع اشكال العلاقات داخل المجتمعات البشرية، كعمال منتجين في الصناعة، وكفلاحين في الزراعة، وفي الاخير كافراد منتجين في شتى مجالات المعيشة. ولكنهم لا يؤمنون بالملكية الشخصية لوسائل الانتاج وينادون ويعملون من اجل تفعيل اشكال الملكية الجماعية لوسائل الانتاج في المجتمعات الانسانية.
يمكننا رؤية ذلك عند برودون وحجته التي يسوقها للدفاع عن فكرته: “الرأسمال… في المجال السياسي صنو للحكومة… الفكرة الاقتصادية للرأسمالية، والفكرة السياسية للحكومة (او للسلطة)، والفكرة اللاهوتية للكنيسة هي ثلاث افكار متماثلة تماما، تتصل بطرق متنوعة مع بعضها البعض. الهجوم على واحدة منها يعادل الهجوم على الافكار الثلاث كلها.. ما يرتكبه الرأسمال في حق العمال، ترتكبه الدولة في حق الحرية، والكنيسة في حق الروح. ثالوث الاستبداد هذا ضار في الواقع العملي ضرره في الفلسفة. الوسيلة الاكثر فعالية لاضطهاد الناس سوف تكون تلقائيا استعباد جسدهم (الرأسمالية) واستعباد ارادتهم (الدولة) واستعباد عقلهم (الكنيسة)” . وهكذا نجد ايما جولدمان تعارض الرأسمالية حين تقول، “يجب على هذا الرجل [او تلك المرأة] بيع عمله” ولذلك، “تخضع ميولهما وحكمهما على الامور لارادة سيدهم” . قبلها باربعين عام وضع باكونين نفس الفكرة عندما دافع بقوله انه “في ظل النظام الحالي [الرأسمالي] يبيع العامل شخصيته وحريته لحصة معينة من الوقت” للرأسمالي صاحب العمل مقابل الاجر” .
وهكذا الاناركية هي كلا من نفي وايجاب. الاناركية تحلل وتنتقد المجتمع الحالي بينما هي في نفس الوقت تمنح رؤية لصورة مجتمع جديد – مجتمع يوفي بحاجات انسانية معينة ينكرها المجتمع الحالي على اغلب اعضاءه. تلك الحاجات، الاكثرها اساسية، هي الحرية والمساواة والتضامن.
الاناركية والتغيير الاجتماعي
يجب ان نلاحظ ان الاناركيين في عملهم لا ينتظرون لحظة قيام الثورة حتى يطبقوا افكارهم بل انهم يحاولون خلق كثير من صور هذا المجتمع في العالم المعاش: في منظماتهم، واساليب نشاطهم، بقدر استطاعتهم.
الاناركية توحد التحليل النقدي بالامل، كما يشير باكونين، “الدافع لأن تدمر هو دافع خلاق”.
الا ان الاناركية هي ايضا اكثر من مجرد اداة للتحليل او اداة لرؤية المجتمع الافضل. الاناركية تضرب بجذورها في الكفاح، كفاح المظلومين من اجل حريتهم. بكلمات اخرى، الاناركية توفر وسائل تحقيق نظام جديد يقوم على احتياجات الناس، وليس السلطة، وهي تضع مصلحة الكوكب قبل الربح.
يقول المناضل الاناركي الاسكتلندي ستيوارت كريستي: “الاناركية هي كلا من نظرية وممارسة للحياة. فلسفيا تستهدف الاناركية اقصى توافق بين الفرد، والمجتمع والطبيعة. عمليا، تستهدف الاناركية بالنسبة لنا تنظيم حياتنا ومعيشتنا بطريقة تجعل من السياسيين والحكومات والدول وموظفيها امرا زائدا لا لزوم له. في المجتمع الاناركي، الافراد اصحاب السلطان والاحترام المتبادل سوف ينتظمون في علاقات غير ارغامية داخل مجتمعات لها حدودها الطبيعية يمتلكون فيها وسائل الانتاج والتوزيع بشكل مشاعي.
“الاناركيون ليسوا اشخاصا حالمين تسيطر عليهم هواجس المبادئ المجردة والابنية النظرية.. الاناركيون على دراية جيدة بأن المجتمع التام لا يمكن الظفر به غدا. فعليا، الكفاح يستمر الى الابد! ومع ذلك، الاناركية هي الرؤية التي تمنح الدافع والحافز للكفاح ضد الاشياء كما تكون، ومن اجل الاشياء التي قد تكون…
“في الاخير، الكفاح فقط هو ما يحدد النتائج، والتقدم نحو مجتمع محلي له معناه، يجب ان يبدأ بارادة للمقاومة ضد كل شكل من اشكال الظلم. بمعايير عامة، يعني هذا تحدي كل اشكال الاستغلال والاستهانة بشرعية كل السلطات الارغامية. لو ان لدى الاناركيين بندا واحدا من اليقين الذي لا يهتز، فهو يتمثل في انه، فور انتهاء الاعتياد على الرجوع بالامر الى السياسيين او الايديولوجيين، وفور اكتساب عادة مقاومة الهيمنة والاستغلال، فمن ثم، سوف يمتلك الانسان العادي الطاقة والقدرة على تنظيم كل جانب من جوانب حياته بما فيه مصلحته، في اي مكان وفي اي زمان، بحرية وبقدر طيب من الانسجام.
“لا ينزوي الاناركيون في ركن بعيدا عن الكفاح الشعبي، ولا هم يحاولون الهيمنة عليه. انهم يبحثون عن المساهمة عمليا بما يستطيعونه، وايضا يبحثون عن مساعدة الكفاح وفي داخله اعلى مستوى ممكن من التطور الذاتي للافراد ومن التضامن الجماعي. من الممكن التعرف على الافكار الاناركية المتعلقة بالعلاقات الطوعية، والمشاركة المساواتية في عمليات اتخاذ القرار، والمعونة المتبادلة والنقد المتعلق بكل اشكال الهيمنة في الحركات الثورية والاجتماعية والفلسفية في كل الازمان وفي كل مكان” .
يرى الاناركي الصربي اندريه جروباتشيك في الاناركية “ظاهرة اجتماعية يتغير محتواها بالإضافة إلى مظاهر نشاطها السياسى مع الوقت. فالطابع الوحيد ذو الطبيعة الخاصة المرتبط بالأناركية، هو أنها على عكس كل الأيديولوجيات الكبرى لا يمكن أن يتأتى لها وجود ثابت ومستمر على الأرض من خلال كونها سلطة حكومية أو لكونها جزء من النظام السياسى. يأتى تاريخ الاناركية وسماتها المعاصرة من عامل آخر – إنها موجات من الكفاح السياسى. نتيجة لذلك، ينتهي جروباتشيك الى ان الاناركية “تمتلك ميلا نحو “تعاقب الأجيال”، بمعنى انك تستطيع أن تحدد فى تاريخها موجات محددة المعالم جدا، طبقا لفترة الكفاح التى تشكلت فيها” .
تاريخيا، تشكلت الموجة الأولى للكفاح الاناركي خلال الصراع الطبقى فى غرب أوروبا منذ أواخر القرن التاسع عشر، وكان ممثلها النظرى والعملى هو جناح “باكونين” فى الأممية الأولى. تصاعدت بدايات هذه المرحلة من عام ١٨٤٨، وبلغت ذروتها مع كوميونة باريس ١٨٧١، وترنحت طوال ثمانينات هذا القرن بعد هزيمة الكوميونة.
الموجة الثانية، من تسعينات القرن التاسع عشر حتى الحرب الأهلية الروسية (١٩١٨ – ١٩٢٤)، شهدت هذه الفترة إزاحة واضحة لمركز الحركة الاناركية من أوروبا الغربية إلى أوروبا الشرقية وأصبحت لذلك تعطى اهتماما أوضح للفلاحين حيث ان تطور الصناعة في هذا الجزء من اوروبا كان لا يزال ادنى كثيرا من مستواه في غربها. ولهذا كانت شيوعية “كروبتكين ” الأناركية، نظريا، هى السمة الغالبة. بلغت المرحلة قمتها مع جيش “ماخنو” الثوري في اوكرانيا الفلاحية ابان الثورة الروسية ١٩١٧، وانتقلت بعد انتصار البلشفية إلى أوروبا الوسطى متغلغة داخل التيارات الراديكالية التى كانت تعمل تحت السطح آنذاك.
تركزت الموجة الثالثة، من عشرينات القرن العشرين حتى أواخر الأربعينيات، فى وسط وغرب أوروبا مرة ثانية، وحصرت توجهها مرة أخرى في الطبقة العاملة الصناعية. نظريا، كانت تلك الفترة هي ذروة النقابية الأناركية (السينديكالية). أكثر الأعمال قام بها المنفيون الروس الذين طردتهم الثورة البلشفية من روسيا. وانتهت قمتها مع هزيمة الثورة في الحرب الاهلية الاسبانية (١٩٣٦ – ١٩٣٩)، وقيام الحرب العالمية الثانية. ومن هذه اللحظة، بات التباين بين النوعين الرئيسيين فى التقاليد الأناركية واضحا للعيان: الشيوعية الأناركية، التى يمكن أن نعتبر، على سبيل المثال، أن “بيتر كروبتكين” يمثلها – وعلى الجانب الآخر، تقاليد النقابية الأناركية التى ترى ببساطة فى الأفكار الأناركية النمط السليم والصالح لتنظيم المجتمعات الصناعية المتقدمة، عالية التعقيد. يندمج تيار النقابية الأناركية هذا، ويتشابك بواسطة علاقات عدة بتلاوين من الجناح اليسارى فى الماركسية، وهو النوع الذى يجده المرء، مثلا، فى شيوعيى المجالس، الذين يستمدون افكارهم من تراث روزا لكسمبرج، والذين مثلهم لاحقا، بخطاب قوي مؤثر جدا، منظرون ماركسيون مثل انطون بانيكوك .
بعد الحرب العالمية الثانية، شهدت الأناركية هبوطا عاما كبيرا، فقد شهدت بلدان غرب اوروبا قيام دول الرفاه الاجتماعي مع اكتمال مشروع مارشال، واطبق الستار الحديدي على شرقها، وفي الجنوب العالمي غلب نفوذ الاتجاهات الموالية للسوفيت على اشكال الكفاح المناهض للامبريالية.
يقول جروباتشيك، “نضالات الستينات والسبعينات لم تشهد بروزا جديا للأناركية، التى كانت لا تزال محملة بأثقال تاريخها، ولم تستطع التكيف مع اللغة السياسية الجديدة التى لا تبنى مفردات قاموسها على صراع الطبقات. ولهذا فأنت تجد نزعات أناركية فى مجموعات شديدة التنوع بدءا من الجماعات المناهضة للحرب (قضية فيتنام)، والحركة النسوية، والسود الخ، ولكنك لا تجد جماعة منهم فى حد ذاتها تصف نفسها ايجابيا بأنها أناركية” .
فمن الواضح أن الجماعات الأناركية فى هذا الوقت كان حالها لا أكثر ولا اقل من تكرار معاد للموجتين السابقتين (الاناركيين النقابيين الثوريون والاناركيين الشيوعيين)، وكانوا جماعات شديدة الانعزالية – فبدلا من الانخراط مع الأشكال الجديدة من التعبير السياسى للستينات، انغلقوا على أنفسهم، وعادة ما اقروا مواثيق غاية فى الجمود على شاكلة الأناركيين الذين يسمون انفسهم بـ “البرنامجيين ذوى التقاليد الماخنوية” (Platformists). لذا، هذا هو الجيل الرابع “الشبح”.
بالوصول إلى الزمن الحاضر، نجد جيلين يتعايشا داخل الأناركية: الاول هم اهل الستينات والسبعينات الذين شكلتهم سياسيا هذه السنوات (والذين كانوا فعلا إعادة تجسيد للموجة الثانية والثالثة)، والجيل الثاني هم الشباب الأكثر معرفة بقضايا السكان الأصليين والأقليات، ومناصرى قضايا المرأة، ودعاة البيئة، وأصحاب التفكير النقدى للثقافات البشرية. الجيل الاول تجده في إتحادات فدرالية أناركية، مثل الـ IWW (عمال العالم الصناعيون)، والـ IWA (جمعية العمال الاممية)، والـ NEFAC (الفدرالية الشمالية الشرقية للشيوعيين الاناركيين)، وأشباههم. أما الجيل الثاني تجده أكثر بروزا فى شبكات عمل الحركة الاجتماعية الجديدة. ويرى جروباتشيك ان منظمة التحرك الكوكبي للشعوب – Peoples Global Action، تحتل مرتبة “الكيان الرئيسى فى تيار الجيل الخامس من الأناركية” .

يقدم متن هذا الكتاب ثلاث قطع اصلية مترجمة عن الانجليزية، تظهر باللغة العربية لاول مرة في حدود مبلغ علمنا. مؤلف القطعة الاولى وكذلك مؤلف القطعة الثانية هما في حد ذاتهما رمزان على الموجتين الاولى والثانية من موجات الحركة الاناركية الثلاث في أوروبا…
فالقطعة الاولى مؤلفها هو ميخائيل باكونين، المناضل الاناركي الروسي رمز الموجة الكفاحية الاولى، وقد كتبها عام 1871 بعد اشهر قليلة من النهاية المأساوية لانتفاضة عمال باريس المعروفة باسم كوميونة باريس. والقطعة الثانية مؤلفها هو نستور ماخنو، قائد حيش الانصار الفلاحي الاوكراني في الحرب الاهلية الروسية، رمز الموجة الاناركية الثانية، وقد كتبها عن لقاء شخصي حدث معه وجها لوجه في يونيو عام 1918 مع ثلاثة من ايقونات الثورة البلشفية الاربع، لينين وسفردلوف وبوخارين – ولم تمكنه الظروف من مقابلة ليون تروتسكي رابعهم. وقد كتب هذه القطعة عام 1920 في منفاه بباريس، وظلت حبيسة لغتها الاصلية الروسية حتى تمت ترجمتها لاول مرة الى الانجليزية عام 1987، وهو النص المنقول منه الى العربية.
اما القطعة الثالثة فقد كتبها الاناركي الامريكي المعاصر توم فيتزل وهي مقالة طويلة يتناول فيها الحرب الاهلية الاسبانية بعد سبعين عام من انتهائها (2006) من منظور جديد كل الجدة مستلهما منها عديد من الدروس الدالة على الفكر والسياسة العملية للاناركية وقتها.
وقد اجتهدنا في تقديم مسلسل تأريخي لكل حدث من تلك الاحداث الثلاث حتى نسهل للقارئ الالمام بالظروف التاريخية التي احاطت بكل حدث منهم قدر الامكان. وراعينا كذلك تقديم سيرة شخصية للمؤلف الاول والثاني لزيادة المام القارئ بطبيعة هؤلاء الرجال وقدر المسافة بين اقوالهم وافعالهم.
اما عن ان الاناركية مدرسة من مدارس التيارات الاشتراكية تضاهي في قوتها وارثها التاريخي التيارات الماركسية ولكنها تكاد ان تكون مجهولة في منطقتنا العربية، فذلك سؤال اضعه للقارئ العربي لعل احدنا يمتلك الوقت والجهد للبحث عن اجابة وافية له. نعم، من المؤكد ان العديد والعديد من اليساريين في منطقتنا قد قرأوا عنها ويعرفون عن عدد او اخر من شيعها العديدة. ولكن السؤال هو ان افكارها الاساسية لم تتبد في اي حركة احتجاج او مقاومة شعبية في تاريخ المنطقة الحديث، حتى ولو بالقدر الذي تبدت فيه افكار التيارات الماركسية في نضال البلدان العربية ضد الاستعمار والامبريالية خصوصا أثناء وفيما بعد الحرب العالمية الثانية.
لعل هناك عدد من الاسباب التي تستطيع قريحة معظمنا استنتاجها، لكن السؤال مع ذلك يحتاج الى وقت ومجهود بحثي حقيقي حتى نوفيه حقه.

ما الذي يجري بالفعل في ليبيا و بقية العالم العربي

مقابلة مع موقع anarkismo.net
س – ما الذي يجري بالفعل في ليبيا و بقية العالم العربي ؟

ج – إنها ثورة . بعد 42 عاما من الخضوع لنظام القذافي خرجت الجماهير إلى الشوارع . الشيء السيئ هنا أنه بسبب القمع الوحشي للنظام انتصرت الثورة فقط في المنطقة الشرقية الذي يتألف من قبائل مختلفة عن سائر البلاد أيضا . سرعان ما استفاقت قوى النظام من وقع المفاجأة و تمكنت من قمع الثورة في طرابلس العاصمة و بقية أنحاء البلاد باستخدام القوة المفرطة في وحشيتها . حاولت الجماهير استعادة المبادرة يوم الجمعة الماضي , الذي كان يوم غضب بالفعل في الكثير من البلدان و المدن العربية , لكنها لم تتمكن من التغلب على قوى النظام . هناك الآن كر و فر بين القوتين , أي النظام و الشعب , رغم أن كلا منهما تحاولان جمع قواهما من جديد .
إلى جانب ليبيا فإن اليمن ثائرة منذ عدة أسابيع , في هذا البلد الذي توجد فيه قبائل و أقليات طائفية مختلفة , إضافة إلى النزاع بين الشمال الذي يعتبر حاكما و الجنوب المهمش الذي يطالب بالانفصال , تمكن الشباب , طلاب الجامعات و المدارس الثانوية , بحماستهم في سيبل الحرية للجميع , من جمع كل شتات الشعب حول هدف واحد هو الإطاحة بالديكتاتورية .
كانت الجمعة الماضية أيضا ملتهبة في العراق , حيث خرج آلاف الشباب العراقي من السنة و الشيعة , الطائفتان اللتان كانت على شفا الحرب الأهلية قبل أعوام فقط , للاحتجاج ضد الحكومة الموالية للولايات المتحدة , و الفاسدة . استخدم رجال الشرطة نفس الوسائل القمعية التي استخدمت في البلدان الأخرى مما أدى لوفاة بعض المحتجين .
انضمت سلطنة عمان أخيرا للبلدان الثائرة , حيث تظاهر الشباب هناك مطالبين بالعمل , و الحرية و بحياة كريمة .

س – كثيرون قد يقولوا أن القذافي اشتراكي و معادي للإمبريالية … هل هذا صحيح ؟

ج – هذا كلام خاطئ و مضلل تماما , خلقه اليسار السلطوي في الماضي و ما زال يعيش حتى اليوم . و هذا يرجع جزئيا لمحاولة إعادة إحياء اليسار السلطوي من أشخاص مثل تشافيز .
علينا فقط أن نذكر أن علاقات نظام القذافي بالغرب الرأسمالي قد تحسنت كثيرا بعد عام 2003 , بعد أن تخلى ديكتاتور ليبيا عن برنامجه النووي , مما دفع وزيرة الخارجية الأمريكية يومها غونداليزا رايس للقول بأن هذا يشكل مثالا لتطبيع العلاقات بين الولايات المتحدة و الغرب و بين دول العالم الثالث بمن فيها تلك التي تصفها حكومة الولايات المتحدة بدول مارقة . هذا فتح الباب أمام بيرلوسكوني , و بلير , و ساركوزي لزيارة ليبيا و توقيع اتفاقيات تجارية بمليارات الدولارات بما في ذلك حصول نظام القذافي على الأسلحة من شركات صنع الأسلحة الغربية . انتهى هذا بمشاركة القذافي في قمة مجموعة الثمانية حيث التقى هناك بأوباما . كما في حالتي بن علي و مبارك , فقد تجاهلت القوى الرأسمالية الكبرى انتهاكات نظام القذافي لحقوق الإنسان ضد شعبه . حتى عندما كان القذافي يعلن أنه معاد للإمبريالية في الماضي البعيد فقد كان هذا موقفا كلاميا فقط , بينما كان كل ما فعله , كسلطوي أو كنظام تسلطي , هو أعمال إرهابية هامشية لم تكن تهدف أبدا إلى دعم الأهداف التحررية لضحايا الإمبريالية .
علينا في الواقع أن نفرق بين كون الشخص معاد للولايات المتحدة , معاد للرأسمالية , و بين كونه اشتراكيا حقيقيا , فهناك الكثير من معارضي الولايات المتحدة , خاصة من الأنظمة أو الأحزاب السلطوية , ممن هم ليسوا أقل سلطوية أو قمعا من نظام فاشية الاحتكارات المعولم أو الأنظمة الموالية للولايات المتحدة . يكفي أن نذكر هنا الستالينية فقط . القذافي نفسه وصل إلى السلطة عندما كان المد القومي العربي في ذروته , الذي كانت معاداته للإمبريالية كلامية فقط , بينما قاد الدول العربية من هزيمة لأخرى في مواجهاته مع الإمبريالية و خاصة مع حليفها الإقليمي الأبرز إسرائيل , و التي كان آخرها في العراق في عام 2003 . بعد هزيمة مصر و سوريا و الأردن في حزيران يونيو 1967 أمام إسرائيل , أرجع كثير من اليساريين العرب السبب لقمع هذه الأنظمة و طبيعتها الاستغلالية , و بعد عام بدأ الشباب و الطلاب المصريون مظاهراتهم و احتجاجاتهم ضد نظام عبد الناصر التي حملت طابعا تحرريا . الواقع هو أن مصر تحت حكم عبد الناصر و العراق تحت حكم صدام و سوريا تحت حكم الأسد كانت جميعا نماذج لأنظمة رأسمالية الدولة البيروقراطية , أي أنظمة تضطهد و تستغل شعوبها .

س – ما هو دور الولايات المتحدة و الاتحاد الأوروبي في هذه الأزمة ؟ من المعروف أن القذافي كان على توافق جيد معهم في الفترة الأخيرة ؟

ج – في مرحلة الحرب الباردة لعبت القوتان العظميان , الولايات المتحدة و الاتحاد السوفيتي , لعبة مزدوجة , فبينما قاموا بقمع الشعوب في مناطق هيمنتهم , قاموا “بدعم” نضال الشعوب في سبيل الحرية في مناطق نفوذ الخصم . هكذا دعم الاتحاد السوفيتي نضال الشعب الفيتنامي ضد التدخل الأمريكي و الثورة الكوبية و سائر الانتفاضات في أمريكا الجنوبية و بقية البلدان التي كانت خاضعة لديكتاتوريات مدعومة من الولايات المتحدة , على الطرف الآخر قامت الولايات المتحدة و المعسكر الرأسمالي بدعم ثورات شعوب أوروبا الشرقية المتعاقبة , الخ . هم ما زالوا يمارسون نفس اللعبة المزدوجة , فالولايات المتحدة مثلا مستعدة لدعم مثل هذه الانتفاضات في إيران , لكن ليس في السعودية على الإطلاق . في العراق ساعدت إدارة بوش الأب الديكتاتور العراقي صدام يومها على استعادة السيطرة على العراق في مواجهة ثورة شعبية تمكنت من السيطرة على أغلب أراضي العراق بعد هزيمته في حرب الخليج الأولى عام 1991 فقط لتطيح به عندما بدا هذا أكثر سهولة و فائدة لهيمنتها الإقليمية .
لكن الأشياء تحدث أحيانا على الضد من رغبة الولايات المتحدة , كما جرى في مصر و تونس , حيث على الرغم من كل جهود الإدارة الأمريكية فرضت الجماهير واقعا جديدا ما تزال الولايات المتحدة تحاول التأقلم معه . يبدو الأمر مختلفا بعض الشيء في ليبيا اليوم . فالولايات المتحدة تشعر كحيوان مفترس , فنظام القذافي يبدو ضعيفا , مكروها من شعبه , و قبل كل شيء أن ليبيا غنية بالنفط , مما يجعلها تبدو كفريسة سهلة و دسمة . هذا أيضا سيساعد الداعم الأكبر لكل ديكتاتوريات المنطقة , أي الولايات المتحدة , لتبدو كمن يحرر شعبا أعزلا من ديكتاتوره الدموي , الذي كان حتى الأمس القريب أحد أصدقائهم . السيئ فيما يتعلق بالحيوانات المفترسة هو أنها لا تستطيع مقاومة إغراء فريسة سهلة على الرغم من كل تجاربها السيئة في الماضي . هناك شيء هام فيم يتعلق باحتمال التدخل الأمريكي في ليبيا اليوم هو أنه لا الجماهير الثائرة في المناطق المحررة و لا حتى المعارضة الليبية في الغرب نفسه قد طالبت أو وافقت على مثل هذا التدخل .
مثل هذا التدخل سيكون ضربة كبيرة لنضال الشعب الليبي , ليس فقط أنه سيقضي على نضاله المستقل في سبيل حريته , بل سيهدد مستقبله كله . إن الليبيين قريبون اليوم من الإطاحة بالنظام و استعادة حياتهم و نفطهم , و لا أظن أنهم , معظمهم على الأقل , مستعدين للتضحية بما انتزعوه حتى اليوم في سبيل نصر سهل لكنه لن يكون نصرهم بكل تأكيد .

س – ما هو مستقبل الحكومة المدنية العسكرية التي أعلنت اليوم في بنغازي ؟

ج – لا توجد حتى اليوم مؤسسة كهذه في المناطق المحررة . البعض يحاولون خلق قيادتهم النخبوية , لكن حتى هذه اللحظة لم تنجح هذه الجهود بعد .
اليوم فقط بدأت الصحافة الأمريكية و العربية الموالية لها بالحديث عن مجلس مؤقت في بنغازي يتزعمه أحد وزراء حكومة القذافي المنشقين فقط لتتحدث عن موقف هذا المجلس المؤيد لتدخل أمريكي محتمل . ما عدا هذا , لا توجد أية قوة في المناطق المحررة دعت أو وافقت على مثل هذا التدخل .

س – ما هو دور لجان الشعب الليبي ؟ هل تعني أن الجماهير قد خلقت وسائل ديمقراطيتها المباشرة ؟

ج – لقد أصبحت هذه اللجان في الواقع جزءا من كل ثورة جرت في العالم العربي . أوافق على أنها أمثلة رائعة عن الديمقراطية المباشرة للجماهير , إن كل المناطق المحررة تدار اليوم بهذه الطريقة , تماما كما كان عليه الحال في تونس بعد هروب بن علي و في مصر بعد أن أمر حسني مبارك قواته بترك البلطجية يمارسون النهب و السلب لإخافة الجماهير الثائرة . المطلوب اليوم هو أن تصبح هذه اللجان طريقة حياة , و ليست مجرد إجراء مؤقت . هذه يجب أن تكون رسالتنا للجماهير اليوم .

س – رفع علم الملكية في ليبيا اليوم … هل ترى إمكانية لعودة نظام إدريس القديم ؟

ج – في الحقيقة يمكن أن يحدث أي شيء . إنني أعتقد أن الثوار الليبيين أنفسهم لا يعرفون من و كيف ستدار ليبيا بعد الإطاحة بالقذافي . عليهم أن يتعلموا ما عليهم فعله في الممارسة . ما أشعر به هو أن هذا سيكون صعبا , فقد شعر الناس بقوتهم و لا أظن أنهم مستعدون للتخلي عنها بسهولة لصالح أي نظام قادم .

س – ما هي الاحتمالات الآنية لهذه الثورة ؟

ج – هذا يتوقف على أشياء كثيرة . فالمعركة ضد الديكتاتورية لم تنته بعد , الشعب لم ينتصر بعد . إن انتصار الثورة يفتح الباب أمام إمكانيات هائلة في المنطقة , يجب أن نذكر أن النظام العالمي الجديد قد بدأ و أعلن هنا لأول مرة عام 1990 – 1991 في أزمة الخليج الأولى . لقد أصبحت منطقتنا منذ ذلك الوقت الباحة الخلفية للولايات المتحدة بدلا من أمريكا الجنوبية . إذا أضفنا هذا الانتصار إلى ما حدث في مصر و تونس فإن التغييرات ستكون أعمق و أطول مفعولا . هناك في النهاية احتمالان , كما كان الحال دوما , إما أن تنصب نخبة مكان النخبة السابقة التي أطيح بها أو أن تجد الجماهير طريقها إلى مجتمع حر , منظم على نمط هذه اللجان الشعبية التي خلقها الناس أنفسهم في سياق الصراع في سبيل حريتهم .

هل يمكننا أن نغير العالم ؟

مازن كم الماز

لو أن أحد ما سألنا هذا السؤال منذ أسابيع فقط لكان الجواب سلبيا بالكامل , تماما كما كان حالنا يومها , لكن اليوم الموضوع يختلف … لا معنى للحديث فقط عن أننا نعيش في عالم سيء , يكفي أن نذكر أن المعري الذي أراد أن يفعل ما لم يفعله الأوائل قد مات منذ قرون و لكن القهر و الخداع و النذالة و الظلم .. كل ما انتقده و كل ما أراد أو حلم بتغييره ما يزال كما هو في هذا العالم .. هل يمكن للعبيد , لأكثر البشر تهميشا و فقرا , الذين يكاد يختزل وجودهم الفعلي إلى مجرد خدمة السادة و إنتاج الثروة التي يكدسونها في جيوبهم , بل هل يمكن لأي إنسان , أيا يكن , خارج فئة السادة , أن يفعل أي شيء ؟ أي شيء على الإطلاق , خاصة في مواجهة نظام السادة و عالم السادة المدجج بالمؤسسات القمعية حتى الثمالة , التي تقمع كل شيء فينا و تراقبه و تعاقبه على الفور عندما تريد و كيفما تريد ؟ لكن الثورة التي تجتاح كل شيء اليوم تغير وعينا نحن , بنفس السرعة التي تغير بها العالم من حولنا … لقد أصبح هذا العالم الغبي و القاسي الذي لا يريد أن يتزحزح عن صدورنا , أصبح فجأة قابلا ليس فقط للسقوط بل أصبح أشبه بعجينة في أيدينا , ينتظر أن يتشكل من جديد كما يريده الثوار , ما يريد العبيد الثائرون … بالأمس فقط كان العبيد يرقصون طربا لأي تغيير صغير أو تافه , لأي بادرة من السادة , أو لأي تقنين في قمع و قهر النظام , لكن اليوم كل هذا يتغير , ما يزال هناك من لا يتوقف عن مطالبة الثوار بأن يتوقفوا عن المطالبة بالحرية نفسها , أن هناك حدودا لقدرتهم على إعادة تشكيل العالم و أن عليهم أن يقبلوا مرة أخرى بالقليل الممكن , أن يقبلوا بشيء من الحرية فقط , الذي يعني بالضرورة عبودية أقل فقط , هؤلاء هم أنفسهم الذين كانوا في الماضي يتحدثون عن العالم كشيء يخلقه السادة و يعيشه المهمشون بكل سلبية , لكن العالم لم يعد بعد ثورات المهمشين و المحرومين عالم السادة , صحيح أنه ليس عالم العبيد بعد , و هذا ما يجب تغييره في حقيقة الأمر , هذا الذي يجب على الثوار أن يغيروه كي يصبح عالمهم , كي يصبحوا أحرارا بالفعل … الحقيقة أن الثورة قد كشفت حقيقة توازن القوى الفعلي , فلا جيش و لا حراس مبارك أو بن علي شكلوا قوة الحسم في 14 يناير كانون الثاني أو 11 فبراير شباط , و لا إعلامهما أو أزلامهما الذين حرصوا طوال العقود التي قضياها في السلطة على تزييف الواقع و خداع المهمشين كانوا من حدد وعي الفقراء و المهمشين في أيام الثورة … لن على عس ما يقوله هؤلاء , ففي أيام الثورة , يبدأ الشباب , الفقراء , العاطلون , النساء , كل من كان يريد أزلام السادة إقناعه بعجزه أمام أنظمة القمع و الاستبداد و بضرورة الاستسلام غير المشروط للقوى الحاكمة , يبدؤون بممارسة الحلم , يجب على مهمشي و مقهوري الماضي هؤلاء أن يطلقوا العنان لأحلامهم و مخيلتهم في إعادة تشكيل العالم , أذكر من بين شعارات ثورة الشباب في 1968 شعار “أطلقوا العنان للمخيلة !” أو ربما “كل السلطة للخيال !” , من الغباء جدا في أوقات الثورة , عندما تكون كل السلطة في أيدي الطبقات الفقيرة و المهمشة , عندما تكون كل السلطة في أيدي الشارع , أن تعيد إنتاج سلطة يخضع لها المهمشون من جديد , هذه ليست مرحلية , من يتحدث عن المراحل و المرحلية فإنه يعني شيئا واحدا , أن الوقت لم يحن بعد ليحكم الناس أنفسهم و لكي يتقاسموا ما ينتجوه بشكل عادل , بل أن هذه هي المرحلة المناسبة لتولي هذا الفريق أو ذاك ( الذي يكون عادة ذلك الحزب أو الجزء من النخبة التي “تتطوع” للقيام بدور النظام السابق ) مهمة اتخاذ القرارات نيابة عن البشر و أن يوزعوا هم نتاج عملهم , لا تنجح كل الثورات , هذا صحيح , لكن بداية الهزيمة تبدأ عندما يتردد الثوار في انتزاع حريتهم الفعلية , و أتفه مصير لأي ثورة أن تخلق هي بيديها نظاما شبيها بالذي أسقطته , نظاما سيقوم بشيء واحد فقط , أن يعيد الأحوال إلى ما كانت عليه , وأن يعيد تركيب نير العبودية على ظهور البشر الذين أسقطوه بالأمس , هذا خاصة بينما يثور العبيد و المحرومون في كل مكان ما كما يجري الآن فإن الطغيان و الاستغلال في كل مكان يكون في أضعف حالاته على الإطلاق , عندما يتهاوى السادة في كل مكان يصبح أي سيد منهم أضعف بكثير لأنه ليس فقط خسر عمليا دعم السادة الآخرين بل لأن عبيده يرون غيرهم ينتزعون حريتهم من أيدي سادتهم , في هذه الأيام بالتحديد يجب أن تكون الحرية فقط , الحرية الفعلية لكل المهمشين و المحرومين , فقط هي أساس العالم الجديد , لقد أنتجت الثورات بالفعل مؤسسات حريتنا الفعلية , أقصد اللجان الشعبية , و المجالس الشعبية , حيث نرسم تفاصيل حياتنا الجديدة دون خوف أو قمع أو أن يكون حتى بمقدور أي كان أن يمارس القمع ضد أي كان , لقد كان ميدان التحرير و ميدان القصبة أجمل مكان , أجمل شيء عاشه المصريون و التونسيون طوال حياتهم , لا يجب إنهاء الاعتصام في التحرير أو القصبة , أنا أعتقد أن المطلوب هو أن تصبح مصر كلها ميدان تحرير و تونس كلها ميدان القصبة , أن نعيش جميعا , في هذا الشرق , بعد أن نطرد الطغاة , الذين ربما لا يجدون لهم مكانا في جدة نفسها إذا قررت جدة أن تنضم إلى عالم الحرية الجديد , في ميدان تحريرنا الحر الذي يتسع لنا جميعا ………..

بيان لاسلطوي ( أناركي ) أممي تضامنا مع المتهمين بالخيانة في زيمبابوي

بيان لاسلطوي ( أناركي ) أممي تضامنا مع المتهمين بالخيانة في زيمبابوي

ترجمة: مازن كم الماز

عندما أحرق محمد البوعزيزي نفسه كان يشعل في نفس الوقت و دون أن يدرك موجة من الانتفاضات و الثورات الشعبية التي انتشرت كالنار في الهشيم في شمال أفريقيا و الشرق الأوسط , و التي أمكن الشعور بحرارتها بعيدا جدا في زيمبابوي , حيث اعتقل يوم السبت 19 فبراير شباط 46 ناشط منهم طلاب , عمال و نقابيون في هراري . لقد اعتقلوا حسب وثائق الشرطة بتهمة التخطيط لثورة على النمط المصري للإطاحة بروبرت موغابي , الموجود في السلطة منذ عام 1980 , في اجتماع نوقش فيه سقوط حسني مبارك و الأحداث في شمال أفريقيا و الشرق الأوسط . المعتقلون , الذين يمثلون فدرالية نقابات زيمبابوي ZCTU و اتحاد الطلاب الوطني في زيمبابوي ZNSU و المنظمة الاشتراكية الأممية ISO , كانوا قد أنهوا للتو مشاهدة برنامج وثائقي أخباري عن الانتفاضة في مصر و قد وجدوا هناك , حسب المدعين العاميين للدولة , بغرض “تنظيم , و وضع إستراتيجية , و تنفيذ الإطاحة بالحكومة الدستورية لزيمبابوي … على الطريقة المصرية” .
8 أشخاص من المعتقلين على الأقل , ممن تعتبرهم الدولة قادة هذه الحلقة المحظورة , نقلت التقارير أنهم قد ضربوا و عذبوا بينما كانوا في الحجز . من بين أولئك الذين اعتقلوا نساء يحملن فيروس HIV و قد حرمن من العلاج . أحد النسوة اللواتي اعتقلن كانت قد أجرت جراحة كبرى على الدماغ قبل عام , تعرضت للضرب و هي قيد الاعتقال كواحدة من أولئك القادة المزعومين . آخر كسرت ساقه و هو يحاول الهرب عندما اعتقل .

بعد أن قضوا 4 أيام في سجن هراري المركزي قدم المعتقلون ال 46 إلى محكمة يوم الأربعاء 23 فبراير شباط , حيث إلى جانب اتهامهم بالتخطيط للإطاحة بالحكومة بوسائل غير دستورية , التهمة التي تبلغ عقوبتها حتى 12 سنة في السجن , فقد اتهموا أيضا بالخيانة – التي يمكن أن تصل عقوبتها إلى الإعدام .
بحسب مصادر في زيمبابوي فإن ماكينة إعلام النظام تعمل بنشاط لتشويه سمعة الرفاق المعتقلين و لتخويف الرأي العام . مع انتشار الثورات و الانتفاضات الشعبية ضد الأنظمة السلطوية و اللاديمقراطية في شمال أفريقيا و الشرق الأوسط فهناك سبب قوي للاعتقاد بأن الجزار بوب ( موغابي ) و رفاقه قلقون من أن إلهام و مثال – الثورات العفوية للمستغلين و المضطهدين ضد الأنظمة اللاديمقراطية – يمكن أن تمتد جنوبا , لتشعل انتفاضة قد تطيح بموغابي نفسه .
بالنظر لما حدث للديكتاتوريات و الأنظمة السلطوية في الشمال , يبدو أن موغابي و أتباعه يصبحون أكثر عصبية و يريدون أن يجعلوا من أولئك المعتقلين مثالا كي يضعفوا الحركات و النضالات القائمة , بل أيضا ليرسلوا برسالة إلى الشعب بأنه لن يجري السماح بأية مقاومة . أن موغابي لن تكون الإطاحة به بنفس السهولة التي أطيح بها بمبارك . الاتهام الجديد بالخيانة يثبت هذا .
لقد اعتقل ال 46 من هراري لأنه – في الأحداث العظيمة التي بدأت في شمال أفريقيا و الشرق الأوسط – على الرغم من كل نقاط ضعفها و تناقضاتها – فإنها تبعث ضوءا من الأمل . الأمل في أن الناس العاديين , العمال , الطلاب , العاطلين عن العمل و المحرومين , يمتلكون القوة ليس فقط ليبنوا الأهرامات للفراعنة … بل أننا نملك القوة أيضا لكي نطيح بهم , أن نطيح بالطغاة . لقد اعتقلوا لأن موغابي و عصابته و الطغاة في كل مكان يرون أن أنظمة شبيهة بأنظمتهم المستبدة تدك إلى الأرض .
نحن أيضا يتملكنا الأمل . نحن نأمل أنه مع انتشار لهيب السخط و الثورة , فإن تأثيرها سيزداد عمقا و نفاذا مع كل يوم . مع انفتاح الأبواب على أفكار و احتمالات جديدة , فإننا نأمل أن الشعب سيعمل على تعزيز حرياته و مكاسبه التي كسبها حتى الآن من خلال النضال , و أن يتقدم من خلال النضال دون أن يسمح للأحزاب أو للسياسيين أو القادة السلطويين و الانتهازيين بالاستيلاء على حركته . إننا نأمل أيضا أنه مع تزايد ثقة هذه الحركات الناشئة بنفسها في النضال , فإنها ستطور آفاقا أعرض , أبعد مدى للتحول الاجتماعي .
عندما نمد أيدينا متضامنين مع الناشطين ال 46 في زيمبابوي فإننا ندعو كل اللاسلطويين ( الأناركيين ) و الثوريين الاشتراكيين , كل الناشطين و الباحثين عن حرية حقيقية في كل مكان لتوسيع تضامنهم مع كل الذين اعتقلوا , ضربوا و عذبوا – في زيمبابوي , مصر , ليبيا , تونس و في كل مكان – لأنهم تجرؤوا على أن يطالبوا بمستقبل أفضل , مستقبل من الكرامة , الحرية و الأمل .

نطالب بالحرية الفورية و غير المشروطة لناشطي هراري ال 46 ! أسقطوا كل التهم الآن !

الحرية الفورية و غير المشروطة لكل من اعتقل في انتفاضات مصر , تونس , ليبيا و في كل مكان !

وقع على البيان :

الفيدرالية الشيوعية اللاسلطوية ( الأناركية ) ( إيطاليا )

المجموعة اللاسلطوية ( الأناركية ) الشيوعية ( كولومبيا )

الاشتراكي التحرري ( الدانمارك )

مجموعة ملبورن اللاسلطوية ( الأناركية ) الشيوعية ( أوستراليا )

المنظمة الاشتراكية التحررية ( سويسرا )

التحرريون الحمر في بيونس آيرس ( الأرجنتين )

الاتحاد الاشتراكي التحرري ( بيرو )

تحالف تضامن العمال ( الولايات المتحدة الأمريكية )

جبهة زابالازا اللاسلطوية ( الأناركية ) الشيوعية ( جنوب أفريقيا )

حركة تضامن العمال ( إيرلندا )

القضية المشتركة ( كندا )

عن ويسكونسين , بيان ائتلاف الأول من مايو ايار اللاسلطوي ( الأناركي )

ائتلاف الأول من مايو أيار اللاسلطوي (الأناركي)

ترجمة مازن كم الماز

دعوة لأفعال جماهيرية , احتلالات و إلى إضراب عام !
لتوسيع النضال ! القوة للشعب !

لأكثر من أسبوع حتى الآن , و استجابة للمقترحات المعادية للعمال شديدة القسوة للحاكم الجمهوري , نهض سكان ويسكونسين بمئات الألوف بطريقة كفاحية و خلاقة دفاعا عن عمال القطاع العام و عن النقابات . و قاموا باحتلال مبنى الكابيتول ( مبنى برلمان الولاية ) في ماديسون . و شهدت المنطقة المحيطة بالمبنى سيلا من المتظاهرين . بدأ المعلمون في كل الولاية إضرابا غير معلن و خرج طلاب المدارس الثانوية دعما للمتظاهرين . وقعت مظاهرات بالمئات و الآلاف في كل أنحاء الولاية . و هذا الأسبوع امتدت مسيرات الدعم إلى كل أنحاء البلاد .
هذه الحركة – التي حفزها مباشرة , كما يجب أن يقال , شعب مصر البطل و شعوب الشرق الأوسط – بحماسها المعدي , و تصميمها , روح السخرية عندها , و تفاؤلها قد فاجأ الجميع على حين غرة . السياسيون , السادة , النقابات و الإعلام كانوا جميعا غير مستعدين لهذه الموجة الطاغية . لكن هذا الصعود هو اليوم على مفترق طرق و يجب أن يدفع إلى الأمام بجرأة أو أننا نخاطر بأن يجري الاستيلاء عليه أو أن يتعرض للتدمير لكي نجد أنفسنا أمام هزيمة بطولية أخرى أو “انتصار” مزيف ننوح عليه لسنوات قادمة .
عوضا عن الهزيمة , فإنه يمكننا أن نتقدم إلى الأمام . إننا ندعم الدعوة الشعبية التي أيدتها IWW النقابة الثورية عمال العالم الصناعيون ( اتحاد لاسلطوي أناركي نقابي في أمريكا و العالم – المترجم ) و آخرون للقيام بإضراب عام على مستوى الولاية . يجب أن يضم هذا الإضراب القطاعين العام و الخاص , القطاعات النقابية و غير النقابية , الطلاب و العاطلين عن العمل . و مع انضمام تجمعات و قطاعات أخرى من الطبقة العاملة إلى النضال يجب أن يكونوا أحرارا في طرح اهتماماتهم و مطالبهم الخاصة . يجب أن تكون الحركة مفتوحة أمام هؤلاء “المتحدثين من القاعدة” . يجب أن نقاوم أية ضغوط لاختزال الحركة في عدد قليل من المطالب المشتركة منخفضة السقف التي تناسب الفئات المحظوظة نسبيا و التي تجدها مؤسسة النظام مقبولة . لا يجب إرضاء هذه الحركة بالعودة إلى الوضع السابق الراكد بل أن تصوغ مطالبنا وفقا لما يريده الناس فعلا .
ابنوا لجان الإضراب العام في النقابات و المعامل , في المدارس , في المحميات , في السجون , و كل جماعة مدينية و ريفية محلية !

يملك حاكم الولاية ما يكفي من أصوات في مجلس الولاية التشريعي ليمرر القوانين التي تلغي حق التفاوض الجماعي لمعظم عمال القطاع العام , و تحظر الإضرابات , و تفرض اقتطاعات كبيرة على أجور العمال و تعويضاتهم التقاعدية . قد يبدو تحرك الديمقراطيون ليتركوا الولاية و ليحولوا دون اكتمال النصاب كمناورة سياسية ذكية –أو بصورة أكثر واقعية – كوسيلة لإعطاء الطبقة الحاكمة ( اي نخبة الشركات و النخبة السياسية ) الوقت اللازم لإعادة التقييم و إعادة تجميع قواها بعد هذا الانفجار الاجتماعي . في كل الأحوال فإن الحزب الديمقراطي ليس بأي حال من الأحوال حليفا للطبقة العاملة و للجماعات المحرومة . يشارك الديمقراطيون في تطبيق الاقتطاعات الاجتماعية في كل الولايات على امتداد البلاد و على المستوى الفيدرالي . بالقرب من هنا في مينيسوتا , حتى الحاكم الليبرالي جدا هناك يقترح اقتطاعات هائلة في خدمات الصحة و الخدمات الإنسانية .
أيضا لا يمكننا أن نتوقع تقدما مؤثرا من بيروقراطية النقابات . تتمحور كل إستراتيجيتهم حول أن يكون عندهم “أصدقاء” في المراكز العليا . داعين أعضائهم للتحرك كل عدة سنوات للاقتراع فقط . لا يمكنهم أن يقودوا حركة كفاحية حتى لو أرادوا ذلك – إنهم لو يقوموا بأي نضال جدي لأجيال . مع ذلك فإن كل رأس مالهم السياسي يكمن في قدرتهم على توجيه ( السيطرة على ) سخط العمال . لقد بدؤوا بالفعل بمحاولة تأكيد سيطرتهم على الحركة العفوية في مبنى الكابيتول , بإسقاطهم الشعارات التي تعتبر غير ملائمة ( مثلا “امش كما يفعل المصريون” ) و أن يعززوا سيطرتهم على الجماهير .
هناك خطر حقيقي من أن تحاول بيروقراطية النقابات و الديمقراطيون و أنهم سيتقدمون “بتسوية” للاقتطاعات الهائلة مع التراجع عن إلغاء حق التفاوض الجماعي . “لا تأخذوا حقنا في أن نتفاوض على كم تريدون أن تقتطعوا من أجورنا و تعويضاتنا” هذا شيء يرثى له لكننا بدأنا بالفعل نسمع هذا الموقف . يجب أن نكون جاهزين لتحدي هذا و أن نوضح خطره لجمهور الحركة الذي ما يزال يرى الديمقراطيين و زعماء النقابات بصورة إيجابية حتى اليوم .
لو أن الجهود نحو الإضراب العام قد قمعت داخل النقابات , فعلينا أن ندفع بكل وسائل العمل المباشر Direct action التي يمكننا أن نحشدها . المظاهرات الجماهيرية , الإضرابات غير الرسمية , و إضراب المدارس الثانوية , احتلال الجامعات و مؤسسات الدولة , و مباني قيادات الحزبين الجمهوري و الديمقراطي و الشركات الداعمة لحاكم الولاية , الخ . يجب أن نخرج من هذا النضال بشبكة من نشطاء الطبقة العاملة المستعدين ليتنظموا و يشاركوا في عمل مباشر جماهيري .
أخيرا حيث أن الموجة التي بدأت كل شيء قد جاءت من الشرق الأوسط , فعلينا أن ننجز العمل هناك أيضا : تنفق الولايات المتحدة المليارات و المليارات من دولارات دافعي الضرائب على الاحتلال العسكري للعراق و أفغانستان , و على وجود عسكري هائل في الكويت , و في البحرين و المنطقة المحيطة , و لدعم دولة الأبارتيد الإسرائيلية , و الديكتاتوريات و الملكيات في المنطقة . الحرس الوطني الذي هدد حاكم الولاية باستخدامه ضد عمال ويسكونسين قد أنفق شهورا عدة و هو يحرس الإمبراطورية في تلك المنطقة . كل هذا بغرض السيطرة على شعوب الشرق الأوسط و على الموارد فيه لصالح نفس النظام الرأسمالي العالمي الذي يهاجمنا هنا في ويسكونسين و يقتل كوكبنا .
لا يمكننا أن نجري نقاشا عادلا ( منصفا ) فيم يتعلق بالميزانيات , العجز في الميزانية , أو الموارد دون أن نناقش تكاليف الإمبراطورية – سواء المادية أو الأخلاقية . يجب على حركتنا أن تدافع عن حق تقرير المصير للشعوب في الشرق الأوسط و تساعدها في تفكيك إمبراطورية رأس المال التي لا تستفيد منها إلا النخبة الغنية .

كل التضامن !

ائتلاف الأول من مايو أيار اللاسلطوي ( الأناركي )

21 فبراير شباط 2011

نقلا عن http://www.anarkismo.net/article/18837

عن الأناركية و الثورة

إيريكو مالاتيستا

ترجمة: مازن کم الماز

ضد الجمعية التأسيسية كما ضد الديكتاتورية

….. في ذلك الوقت أعلنت , كما فعلت دوما من قبل و بعد , أن الجمعية التأسيسية هي وسيلة تستخدمها الطبقات صاحبة الامتيازات عندما لا تكون الديكتاتورية ممكنة , إما للحيلولة دون قيام ثورة أو عندما تكون الثورة قد اندلعت بالفعل , لإيقاف تقدمها بحجة قوننتها , و لتستعيد أكثر ما يمكنها من المكاسب التي انتزعها الناس في المرحلة الثورية .
الجمعية التأسيسية بما تنتجه من تسكين و تثبيط للهمم , و الديكتاتورية , بممارستها القمع و القتل , هما الخطران اللذان يهددان أي ثورة . و يجب على الأناركيين أن يوجهوا جهودهم ضدهما .

ليكن هذا واضح تماما : أنا لست من أنصار نظرية “كل شيء أولا لا شيء” . إنني أعتقد أنه لا يوجد أي شخص يتصرف بهذه الطريقة بالفعل : إن هذا سيكون مستحيلا .
إنه مجرد شعار يستخدمه الكثيرون ليحذروا من وهم الإصلاحات الجزئية و التنازلات المزعومة من قبل الحكومة و السادة , و للتذكير دوما بضرورة و إلحاح الفعل الثوري : إنه عبارة يمكن أن تخدم , إذا فسرت بشكل فضفاض , كحافز للنضال ضد كل شكل من أشكال الطغاة و المضطهدين . لكنها إذا أخذت حرفيا , فإنها هراء واضح .
“الكل” هو المثال الذي يصبح أكثر تقدما و أوسع مع تحقيق التقدم إلى الأمام , و لذلك لا يمكن الوصول إليه أبدا . “لا شيء” سيكون دولة همجية ما دون أية حدود , أو على الأقل خضوع مستسلم للاضطهاد القائم .
أعتقد أنه يجب على الإنسان أن يأخذ كل ما يستطيع أخذه , سواءا أكان ذلك قليل أم كثير : أن يفعل أي شيء يستطيع عمله اليوم , بينما يناضل دوما ليجعل ما يبدو مستحيلا اليوم ممكن في الغد .
مثلا لو أنه ليس بمقدورنا اليوم أن نتخلص من أي شكل من أشكال الحكومات , فإن هذا ليس سببا كيلا نهتم بالدفاع عن الحريات القليلة المكتسبة و أن نناضل لنحصل على المزيد منها . إذا لم يمكننا اليوم أن نلغي النظام الرأسمالي بالكامل و ما يؤدي إليه من استغلال للعمال , فهذا ليس سببا لنتوقف عن النضال للحصول على أجور أعلى و ظروف عمل أفضل . إذا لم نتمكن من أن نلغي التجارة و أن نستبدلها بالتبادل المباشر بين المنتجين , فهذا ليس سببا كي نتوقف عن السعي وراء وسائل الخلاص من استغلال التجار و المستغلين بأكثر ما يمكننا . إذا كانت قوة المضطهدين ( بكسر الهاء ) و حالة الرأي العام تحول الآن دون إلغاء السجون و توفير أي دفاع بوسائل أكثر إنسانية ضد كل من يرتكب الآثام , فلا يجب لهذا أن نفقد الحافز للعمل على إلغاء عقوبة الإعدام , و السجن مدى الحياة , و الحبس الانفرادي , و عموما , كل الوسائل الأكثر وحشية للقمع التي يمارسها ما يسمى بالعدل الاجتماعي , لكن التي تصل في الواقع إلى مستوى الانتقام أو الثأر . إذا لم يكن بإمكاننا إلغاء الشرطة , لا يجب أن نسمح لهذا السبب للشرطي بأن يضرب السجناء و أن يسمح لنفسه بكل أشكال التجاوزات متجاوزا القيود التي تضعها له القوانين القائمة بالفعل …

سأتوقف هنا , لأن هناك الآلاف و الآلاف من الحالات , سواء في الحياة الشخصية أو الاجتماعية , عندما لا يتمكن المرء من الحصول على “كل شيء” , لكن يجب عليه أن يحاول أن يحصل على أكثر ما يمكنه .
عند هذه النقطة , يظهر سؤال ذا أهمية بالغة عن أفضل الطرق للدفاع عن ما حصلنا عليه و النضال في سبيل الحصول على المزيد , لأن هناك طريقة واحدة لإضعاف و قتل روح الاستقلال و وعي المرء بحقه , و بالتالي تهدد الحاضر و المستقبل نفسيهما , بينما هناك طريقة أخرى تستخدم كل نصر محدود للتقدم بمطالب جديدة , مهيئة العقول و البيئة بذلك لانعتاق كامل بعيد المدى .
ما يشكل سبب وجود الأناركية هو الإيمان بأن الحكومات – الديكتاتوريات , البرلمانات , الخ – هي دائما أدوات للمحافظة , الرجعية , الاضطهاد , أما الحرية , العدالة , و خير الجميع فإنه يجب أن يأتي من النضال ضد السلطة , أن يأتي من الاتحاد الحر و من الاتفاق الحر بين الأفراد و المجموعات .

هناك مشكلة تقلق الكثير من الأناركيين هذه الأيام عن حق .
حيث يجدون أنه من غير الكافي العمل على دعاية مجردة و إعداد ثوري تقني , الأمر غير المتاح دائما و الذي يمارس دون معرفة متى ستكون مفيدة , فإنهم يبحثون عن شيء ما عملي ليفعل هنا و الآن , ليحقق أكثر ما يمكن من أفكارنا بغض النظر عن الظروف غير المواتية , شيء سيساعد أخلاقيا و ماديا الأناركيين أنفسهم و سيخدم في نفس الوقت كمثال , مدرسة , حقل تجارب .
تأتي المقترحات العملية من عدة أطراف . جميعها جيد بالنسبة لي , إذا كانت تستجيب للمبادرة الحرة و لروح التضامن و العدالة , و تؤدي إلى أن تدفع الأفراد بعيدا عن سيطرة الحكومة و السادة . و لنتجنب تضييع الوقت في نقاشات تتكرر باستمرار لن تؤدي أبدا إلى حقائق أو أفكار جديدة , فإنني أشجع أولئك الذين يمتلكون مشروعا أن يحاولوا تطبيقه فورا حالما يجدون الدعم من العدد الأقل الضروري من المشاركين , دون انتظار , غير مجدي عادة , لدعم الجميع أو الأكثرية : – الخبرة ستكشف فيم إذا كانت هذه المشاريع ممكنة و ستسمح لتلك القادرة على الحياة بأن تستمر و تنمو .
دع كل فرد يحاول أن يسلك الطرق التي يعتبرها الأفضل و الأكثر ملائمة لطبيعتهم , سواء اليوم فيم يتعلق بالأشياء الصغيرة التي يمكن تحقيقها في البيئة الحالية , أو في الغد على الأرض الهائلة التي ستوفرها الثورة لنشاطنا . في أي حال , ما هو إلزامي بالنسبة لنا منطقيا , إذا لم نكن نود أن نكف عن كوننا أناركيين حقا , هو ألا نتخلى أبدا عن حريتنا و نضعها في أيدي فرد أو ديكتاتورية طبقية , أو طاغية أو جمعية تأسيسية , لأن ما يتوقف علينا في نهاية الأمر , هو أن حريتنا يجب أن تقوم على الحرية المتساوية للجميع .

* مالاتيستا : أناركي إيطالي عاش بين 1853 و 1932 .

نقلا عن http://www.marxists.org/archive/malatesta/1930/10constituent.htm

مانيفيستو الماخنوفيين *

نستور ماخنو *
1918
ترجمة : مازن كم الماز


النصر أو الموت . هذا ما يواجه فلاحو أوكرانيا في اللحظة الراهنة في التاريخ . لكننا لن نموت جميعا . هناك الكثير جدا منا . نحن البشرية . لذلك يجب أن ننتصر – ننتصر ليس لكي نتبع مثال السنوات السابقة و لكي نسلم مصيرنا إلى سيد ما جديد , بل لكي نأخذ مصيرنا في أيدينا و لكي نمارس حياتنا وفقا لإرادتنا و لتصورنا عن الحقيقة .
كان شهري فبراير شباط و مارس آذار 1918 وقت توزيع قطعان الحيوانات و الأدوات التي تم الاستيلاء عليها من ملاك الأرض في خريف 1917 و لتقسيم الأراضي بين المتطوعين , و الفلاحين و العمال المنظمين في كومونات زراعية . حقيقة أن هذه كانت لحظة حاسمة , سواء في بناء حياة جديدة أو في بناء الدفاع , كان واضحا لكل كادحي المنطقة . الجنود السابقون , تحت قيادة اللجنة الثورية المنشغلة بتحويل كل قطعان الحيوانات و الأدوات من ملكية ملاك الأرض و صغار الملاك الأثرياء إلى ملكية للكومونة , تركوا لهم زوج من الأحصنة , بقرة أو اثنتين ( حسب عدد أفراد عائلتهم ) , محراث , آلة بذار , جزازة عشب , و مذراة ( أداة لذر القمح ) , بينما توجه الفلاحون إلى الحقول لينهوا مهمة إعادة توزيع الأرض التي بدأت في الخريف الماضي . في نفس الوقت , بعض الفلاحين و العمال , الذين كانوا قد نظموا أنفسهم بالفعل في كومونات ريفية في الخريف , تركوا قراهم مع عوائلهم و احتلوا أراضي ملاك الأراضي السابقين , متجاهلين واقع أن وحدات الحرس الأحمر لائتلاف البلاشفة و الاشتراكيين الثوريين قامت , بما يتوافق مع المعاهدة التي وقعها مع الإمبراطورين النمساوي و الألماني ( أي معاهدة بريست التي تركت أوكرانيا الثائرة تحت سيطرة الجيوش الألمانية و النمساوية – المترجم ) , قد أخلت أوكرانيا بالفعل تاركة إياها لتخوض بتشكيلاتها الثورية العسكرية الصغيرة معركة غير متكافئة ضد الوحدات النمساوية و الألمانية النظامية و التي تعاونها وحدات مجلس الرادا الأوكراني المركزي . على الرغم من ذلك استقروا هناك دون أن يضيعوا أي وقت في إعداد قواهم : جزء يقوم بالعمل الربيعي في الكومونات و جزء يشكل وحدات قتالية للدفاع عن الثورة و مكتسباتها , التي انتزعها الكادحون الثوريون بأنفسهم , إن لم يكن في كل مكان , ففي كثير من المناطق , خطوة بخطوة , معطين بذلك المثل للبلد بأكمله .
جرى تنظيم الكومونات الزراعية في معظم الحالات من قبل الفلاحين , رغم أن تركيبتها كانت في بعض الأحيان مزيجا من الفلاحين و العمال . و جرى تنظيمها على أساس المساواة و التضامن بين أعضائها . كل أعضاء هذه الكومونات – من نساء و رجال يهبون أنفسهم بحماسة لأداء مهامهم سواء في الحقل أو في المنزل . المطابخ و غرف الطعام هي أيضا تابعة للكومونة . لكن أي عضو من الكومونة يرغب بأن يطبخ لوحده لنفسه و لأطفاله أو أن يأخذ الطعام من مطبخ الكومونة و أن يأكله في منزله الخاص , لا يواجه بالاعتراض من بقية أعضاء الكومونة الآخرين .
كل عضو في الكومونة , أو حتى مجموعة كاملة من الأعضاء , يمكنهم أن ينظموا أمور الطعام بالطريقة التي يعتبرونها الأفضل , طالما أنهم يبلغون الكومونة مسبقا , بحيث أن كل الأعضاء سيعلمون بذلك و يستطيعون أن يقوموا بالإعدادات الضرورية في مطبخ و مخزن الكومونة . من التجربة كان من الضروري لأعضاء الكومونة أن ينهضوا في الوقت المناسب في الصباح ليهتموا بالثيران و الأحصنة و سائر الحيوانات و للقيام بأنواع أخرى من العمل . يمكن لأي عضو في أي وقت أن يغادر الكومونة طالما أنه أبلغ مسبقا رفاقه الأقرب الذين يساهم معهم في أعمال الكومونة , بحيث أنه يمكن للأخيرين أن يقوموا بالعمل أثناء غيابه . كانت هذه هي الحالة في فترات العمل . أما في فترات الراحة ( اعتبر يوم الأحد يوم راحة ) فإن كل أعضاء الكومونة يأخذون راحة فيه بالدور ليذهبوا في رحلات .
تجري إدارة كل كومونة من الاجتماع العام لكل أعضائها . بعد هذه الاجتماعات , يعرف كل عضو المهمة الخاصة به و يعرف أية تغييرات عليه أن يقوم بها و هكذا . فقط مسألة التعليم في الكومونة لم تحدد بالضبط لأن الكومونات لم تكن تريد إحياء النمط القديم من المدرسة . كأسلوب جديد استقروا على المدرسة الأناركية ل ف . فيرر ( 1 ) ( التي قرأت تقارير عنها و وزعت نشرات عنها من قبل مجموعة من الأناركيين الشيوعيين ) , لكن لم يجر تدريب الناس بعد بشكل مناسب و لهذا سعوا من خلال مجموعة من الأناركيين الشيوعيين لاستقدام رفاق أفضل تعليما من المدن و فقط كحل أخير قاموا بدعوة معلمين يعرفون فقط الطرق التقليدية للتلقين إلى مدارسهم الكومونية .
كانت هناك 4 كومونات زراعية في دائرة نصف قطرها 3 إلى 4 أميال في غولاي – بولي ( مسقط رأس نستور ماخنو – المترجم ) . لكن هناك الكثير . لكني سأتكلم بإسهاب عن هذه الكومونات الأربعة لأنني شخصيا لعبت دورا مباشرا في تنظيمها . و فيها جميعا بدأت تعطي نتائجها المثمرة تحت مراقبتي , أو في حالات قليلة باستشارتي . لقد منحت أحدها , و لعله أكبرها , عمل يومين في الأسبوع , أثناء الربيع في نثر البذار في الحقول خلف المحراث أو آلة البذار , و قبل و بعد البذار في العمل المنزلي في الأرض المزروعة أو في متاجر الآلات و ما إلى ذلك . في الأيام الأربعة المتبقية من الأسبوع عملت في غولاي بولي في مجموعة الأناركيين الشيوعيين و في لجنة المقاطعة الثورية . لقد طلب هذا مني أعضاء المجموعة و كل الكومونات . و قد تطلب ذلك أيضا حقيقة الثورة نفسها , التي تطلبت تجميع و تنظيم القوى الثورية ضد الثورة المضادة التي كانت تتقدم من الغرب في شكل الجيوش الألمانية و المجرية – النمساوية الملكية و الرادا المركزي الأوكراني .
في كل الكومونات كان هناك بعض الفلاحين الأناركيين , لكن معظم الأعضاء لم يكونوا أناركيين . على الرغم من ذلك فقد أحسوا بالتضامن الأناركي في حياتهم في الكومونة كما بدا في الحياة العملية للكادحين العاديين الذين لم يتذوقوا بعد السم السياسي للمدن , مع مناخ الخداع و الخيانة التي تخنق حتى الكثيرين ممن يسمون أنفسهم أناركيين . تألفت كل كومونة من 10 أسر من الفلاحين و العمال , يبلغ عددها 100 عضو أو 200 أو 300 . حصلت هذه الكومونات من الأرض على ما يمكن أن تعمل فيها بعملها الخاص . وزعت الحيوانات و الأدوات بينها حسب قرار مؤتمرات المناطق للجان الأرض .
و هكذا بدأ الكادحون الأحرار للكومونات بالعمل , بالتناغم مع الأغاني الحرة و المبهجة التي عكست روح الثورة و أولئك المقاتلين الذين تنبئوا بها و ماتوا في سبيلها أو عاشوا و بقوا ثابتين في نضالهم في سبيل “عدلها الأسمى” , الذي يجب أن ينتصر على الظلم , و يزداد قوة , و يصبح مرشد حياة البشرية . لقد قاموا ببذار حقولهم و حصد مزارعهم , واثقين بأنفسهم و في عزيمتهم الثابتة كيلا يسمحوا بعودة أولئك الذين لم يعملوا أبدا في الأرض بل الذين امتلكوها بحسب قوانين الدولة و الذين يحاولون أن يملكوها ثانية .
سكان القرى و الضيع المتاخمة لهذه الكومونات , الذين كان وعيهم السياسي أقل و لم يتحرروا بعد من العبودية للكولاك , شعروا بالغيرة تجاه أعضاء الكومونة و عبروا تكرارا عن رغبتهم بأن يأخذوا كل القطعان و الأدوات التي حصلوا عليها من ملاك الأرض السابقين و يوزعوها فيما بينهم . “ليشتريها أعضاء الكومونة منا” كما قد يقولوا . لكن هذه الرغبة أدينت بشدة من الغالبية العظمى من الكادحين في جمعيات قراهم و في كل المؤتمرات . غالبية الكادحين رأت في تنظيم الكومونات القروية الجنين ( النواة ) الصحية لحياة اجتماعية جديدة , مع انتصار الثورة و اقترابها من ذروتها الخلاقة , التي ستنمو و تقدم مثالا عن شكل حر و كوموني للحياة إن لم يكن في البلد برمته , فعلى الأقل في قرى و ضيع منطقتنا .
جرى قبول النظام الكوموني الحر من قبل سكان منطقتنا على أنه الشكل الأعلى للعدالة الاجتماعية . لكن في الوقت الحالي لا يلتزم جمهور الناس بها مرددين أن أسبابهم في ذلك هو تقدم الجيوش الألمانية و النمساوية , و غياب أي تنظيم لهم , و عجزهم عن الدفاع عن هذا النظام ضد السلطات “الثورية” الجديدة و المضادة للثورة . لهذا السبب فإن السكان الكادحين لمنطقتنا يحصرون نشاطهم الثوري الفعلي في دعم تلك الأرواح الجريئة التي بينهم بكل وسيلة , أولئك الذين استقروا على أراضي ملاك الأرض القدامى و نظموا حياتهم الاجتماعية و الاقتصادية على أسس كومونية حرة .

( 1 ) فرانسيسكو فيرر ( 1859 – 1909 ) مؤسس المدرسة الحديثة , التي تعزز روح الاستقلال و العفوية بين الطلاب . فيرر كتحرري معروف حوكم أمام محكمة عسكرية و أعدم عام 1909 بتهمة التآمر على الملك الإسباني و التحريض على الثورة في برشلونة .

* نستور ماخنو ( 1889 – 1934 ) فلاح و أناركي أوكراني و قائد جيش الفلاحين الأناركي المنتفض الذي قاتل ضد الجيوش الألمانية و النمساوية و الرادا الأوكراني الرجعي و ضد الجيش الأحمر رغم أن علاقته بالأخير مرت بمراحل من الهدوء أو التحالف و من القطيعة و الاقتتال , قبل أن يدمر الجيش الأحمر قواته في عام 1921 . لعب دورا رئيسيا في صياغة برنامج الاتحاد العام للشيوعيين التحرريين أو للأناركيين عام 1926 الذي حاول استخلاص العبر من تجربة الأناركيين الروس في الثورة الروسية . و سمي الجيش الذي كان يقوده بالماخنوفيين نسبة لقائده نستور ماخنو .